استضافت بريطانيا، برئاسة وزيرة الداخلية بريتي باتين، الإثنين 29 يوليو، اجتماعًا لكبار مسؤولي الأمن في دول تحالف “العيون الخمسة” الاستخباراتي الذي تقوده الولايات المتحدة، لإجراء محادثات تهدف إلى تناول التهديدات الإلكترونية المختلفة كالتجسس لأغراض سياسية وانتشار المواد الإباحية التي تستغل الأطفال بهدف الحدّ من هذه التهديدات الناجمة عن التقنيات الجديدة.
ويعتبر هذا الاجتماع أول ظهور علني للتحالف منذ 2011 بعد أن كشف موظف سابق في الاستخبارات الأمريكية، وثائق سريّة تفيد بتنصت الدول المشاركة فيه على بعضها البعض، وقد أثارت حينها هذه الواقعة غضب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
وفي هذا التقرير، نحاول الغوص في تاريخ تأسيس هذا الحلف وأهدافه والدول المشاركة فيه، وأهم التحديات التي واجهته منذ تأسيسه قبل نحو 80 عاماً.
“العيون الخمسة”
العيون الخمسة أو ما يتم اختصاره باسم FVEY، وهو أقوى تحالف استخبارات سرّي يضم أستراليا وكندا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وهي دول أطراف في اتفاقية UKUSA المتعاهدة للتعاون المشترك في مجال الاستخبارات والتجسس لصالح أعضاء التحالف التي لا تقبل بانضمام أيّ دول أخرى غير ناطقة بالإنجليزية وليس لها مصالح مشتركة.
لم يكشف وجود هذا التحالف للعامة حتى آواخر التسعينيات وقد أثار حينها جدلاً كبيرًا في البرلمان الأوروبي
يعود إنشاء هذا التحالف إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى حين كان الضباط الأمريكيون والبريطانيون يتعاونون فيما بينهم لاختراق أجهزة الإرسال السرّية لأعدائهم ومعرفة تحركاتهم رغم صعوبة فك الشيفرات حينها، وكان التحالف وقتها يسمى بـ (يُوكي يو إس إي)، فقد أصدر الحلفاء حينها ميثاق الأطلسي في أغسطس 1941 لتوقيع اتفاقية استخبارات الاتصالات، والمعروفة أيضًا باسم اتفاقية BRUSA. وفي عام 1948، تم تمديد الاتفاقية لتشمل أستراليا وكندا ونيوزيلندا بعد الحرب العالمية الثانية عام 1955 كدول أطراف ثالثة.
لم يكشف وجود هذا التحالف للعامة حتى آواخر التسعينيات وقد أثار حينها جدلاً كبيرًا في البرلمان الأوروبي، وإلى حد أقل في كونغرس الولايات المتحدة، وتم تعريفه كجزء من الجهود المبذولة في الحرب المستمرة على الإرهاب، بالأخص بعد أحداث عام 2001، حين وسّعت “العيون الخمسة” من نطاق مراقبتها للشبكة العنكبوتية العالمية، فكانت تجتمع هذه الدول بشكل منتظم وسرّي لمناقشة المخاوف والأساليب المشتركة.
لكن أهداف التحالف تغيرت مع التطور التكنولوجي الذي شهده العالم، حتى أصبح بإمكانه الحصول على المعلومات باستخدام الأقمار الصناعية الذي ساعده فيها انتشار الهواتف اللاسلكية والبرامج للحصول على البيانات بطريقة أسهل مما كانت عليه في السابق، فبات الآن من خلالها يراقب مليارات الاتصالات الخاصة والعامة في جميع أنحاء العالم.
دوره في الحرب الباردة
عمل التحالف بانتظام وسّرية كبيرة منذ إنشائه وبالأخص في المرحلة التي كان فيها سرّيًا، حيث ساعد في عدة عمليات خلال الحرب الباردة بين عامي 1950 و1990 من بينها تقديم نيوزلندا وأستراليا الدعم المباشر لأمريكا في منطقة آسيا والمحيط الهادئ في حرب فيتنام. في حين كلفت مشغلي GCHQ (مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية) المتمركزين في مستعمرة هونغ كونغ البريطانية آنذاك بمراقبة شبكات الدفاع الجوية الفيتنامية.
وقد كان للتحالف حضور في الشرق الأوسط نفذ خلالها عملية استحواذ على معلومات مكاتب دولة الكويت أعقاب حرب الخليج
كما استعانت بريطانيا للحصول على بيانات استخباراتية لتأمين دخول أسطولها البحري بشكل آمن من حليفتها أستراليا، وكذلك من دول أطراف ثالثة مثل النرويج وفرنسا خلال حرب جزر الفوكلاند عام 1982.
بالإضافة إلى ضلوعه بعمليات اغتيال شخصيات سياسية بالتنسيق مع الاستخبارات الفيدرالية الأمريكية “سي آي إي” مثل قتل زعيم الاستقلال الكونغولي باتريس لومومبا، في ستينيات القرن الماضي، والإطاحة بأول رئيس منتخب في أمريكا اللاتينية سلفادور أليندي عام 1973.
وقد كان للتحالف حضور في الشرق الأوسط، إذ نجح في الإطاحة برئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق عام 1967 ضمن عملية مشتركة بين بريطانيا وأمريكا سميت بعملية “أجاكس”، كما نفذ عملية للاستحواذ على معلومات مكاتب دولة الكويت أعقاب حرب الخليج بالاستعانة بموظفين وكالة الاستخبارات الأمريكية.
كيف يحصل على معلوماته؟ ومِن مَن؟
لدى تحالف “العيون الخمسة” نوعان من أساليب جمع المعلومات وهما: برنامج PRISM ونظام Upstream، يجمع برنامج PRISM معلومات المستخدم من شركات التكنولوجيا مثل Google وApple وMicrosoft، بينما يجمع نظام Upstream المعلومات مباشرة من اتصالات المدنيين عن طريق كابلات الألياف والبنية التحتية.
لكن في عام 1988 كشف دنكان كامبل في صحيفة نيو ستيتسمان وجود شركة أخرى مساهمة تسمى ECHELON وهي نظام عالمي لرصد البيانات واعتراضها ونقلها بشكل سرّي، ويتم الاستعانة بها بشكل دائم من مؤسسات استخبارات دول التحالف للحصول على المعلومات اللازمة لعمليات التجسس وهو ما زال قائمًا حتى الآن، إلا أن نطاق عمل الشركة وقدراتها توسعت في السنوات الأخيرة حتى أصبحت تعمل في نطاق العالم كله.
تعرّض التحالف منذ نشأته إلى ملاحقات عدة أضرّت به، أولها كانت ملاحقة قانونية من الاتحاد الأوروبي كان من شأنها إيقافه بالكامل حين قدم صحافي نيوزلندي يدعى نيكي هاجر، كتابًا تفصيليًا بعنوان “القوة السرية ECHELON- دور نيوزيلندا في شبكة التجسس الدولية”، استشهد به البرلمان الأوروبي في اجتماع لتقييم التحكم السياسي بالتكنولوجيا عام 2000، دعا البرلمان من خلاله إلى اتخاذ قرار بشأن “العيون الخمسة” وشبكة مراقبة ECHELON الخاصة به التي كانت ستدعو إلى “التفكيك الكامل لـECHELON” لو تمت الموافقة عليه، إلا أن المفوضية الأوروبية أعاقت هذه التحقيقات وفقًا لعدد من السياسيين الأوروبيين من بينهم Esko Seppänen من فنلندا.
يعرف التحالف الآن بقدرته على التجسس وتتبع أيّ مؤسسة أو شخص حول العالم بسهولة ودقة عالية
أما المرة الثانية فكانت حين نشر إدوارد سنودن، موظف سابق في الاستخبارات الأمريكية، عام 2011، ما يقارب 200 وثيقة تضم أسرار استخباراتية إلكترونية حساسة تفيد بأن وكالة الأمن القومي الأمريكي احتفظت بكميات هائلة من البيانات من بريطانيا ودول أخرى من دول الاتحاد، تشمل معلومات لمواطنين قد يتم توريطهم بجرائم دون علاقتهم بها، واصفًا التحالف بأنه “منظمة استخبارات خطرة لا تنطبق عليها قوانين أيّ بلد”، رغم أن هناك مسودة أعدت عام 2005 تنص على أنه لا يمكن للشركاء في “تحالف العيون الخمسة” التجسس على مواطني الدول الأخرى إلا بالحصول على إذن مسبق، وهذا يعني تعرّض مواطني دول الحلفاء إلى التجسس حتى داخل بلادهم وهو ما أثار غضب دول التحالف الكبرى أمريكا وبريطانيا.
يعرف التحالف الآن بقدرته على التجسس وتتبع أيّ مؤسسة أو شخص حول العالم بسهولة ودقة عالية يمكنه من خلالها معرفة أدق التفاصيل. وقد سبق وأن تتبع شخصيات سياسية ومشاهير، أمثال الممثل الكوميدي الشهير، تشارلي شابلن، بسبب صلاته المزعومة بالشيوعية، لإبعاده من الولايات المتحدة. وأيضًا الأميرة الراحلة، ديانا ويلز، التي ما يزال حادث موتها غير مفهوم حتى الآن، بينما يحتفظ التحالف بملف سرّي للغاية من ألف صفحة حول حياتها كاملة. كما تأتي المستشارة الألمانية، إنجيلا ميركل، ورئيس دولة الاحتلال السابق، إيهود أولمرت، من أبرز الشخصيات العالمية التي استهدفها الحلف بالتجسس ومراقبة الاتصالات، فضلًا عن زعماء ورؤساء كثر آخرين، وإن كان الأمر كذلك بالنسبة لشخصيات بهذا الوزن على المستوى الدولي، فما الذي يمنعه من التجسس على عامة الناس ومراقبتهم والاحتفاظ ببياناتهم.