نحيب وصراخ أحال المدن السودانية إلى مأتم كبير، هكذا هو المشهد في السودان منذ شهور، سواء قبل الإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشير أم بعدها، فقبل يوم واحد من استئناف قادة حركة الاحتجاج والجنرالات العسكريين الحاكمين لإجراء محادثات جديدة بشأن الإعلان الدستوري، شهدت مدينة الأُبيِّض في ولاية شمال كردفان أحدث حلقات مسلسل نزيف الدماء، وتضم قائمة القتلى عددًا من طلاب المدارس الذين لم يكن حتمًا لديهم سلاح غير حناجرهم.
ما زال الاحتجاج مستمرًا ومعه القتل أيضًا
لم تكد ردود الفعل تخفت حدتها بشأن مجزرة القيادة العامة حتى تحولت عروس الرمال “الأُبيّض” في وسط السودان إلى مسرح لمجزرة جديدة، ففي مشهد آخر من سيرة القتل المستشري على يد القوات المسلحة الظاهرة والمندسة، انهمر الرصاص على طلاب المدارس الثانوية الذين خرجوا في مظاهرات للتعبير بطريقة سلمية عن مطالب تتعلق بالظروف المعيشية.
“ندرة الخير وارتفاع أسعار المواصلات على انعدامها وانقطاع التيار الكهربائي المستمر وشح السلع بما في ذلك الوقود”، كانت السبب الرئيسي وراء خروج طلاب المدارس الثانوية الذين هتفوا “مدنية مدنية”، عائدين بالثورة إلى مربع مطالبها الأولى، كما احتج المتظاهرون المنضمون لهم على تقرير لجنة التحقيق في فض اعتصام القيادة العامة للجيش السوداني بالخرطوم.
جرائم القتل الأخرى في مدينة ربك وسوق مدينة الأُبيِّض تبدو كرحلة قنص عادية قياسًا بالمجازر الكبرى
في تفاصيل مشهد الأُبيّض الدامي، كانت البنادق حاضرة كعادتها دائمًا لا تقيم وزنًا لحياة مواطن، فقد أكدت نقابة أطباء السودان سقوط 8 قتلى حتى الآن في صفوف المحتجين السوادنيين، من بينهم ممرض و4 طلاب، ليرتفع بذلك عدد الضحايا إلى 246 شخصًا منذ بدء الاحتجاجات في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بحسب لجنة أطباء السودان المركزية.
بالإضافة إلى ذلك، ازدحم مستشفى الأُبيّض التعليمي بالجرحى، الذين كان غالبية حالتهم حرجة، ما جعل أرقام عدد الضحايا مرشحًا للازدياد خلال الوقت القريب، وفي منشور على صفحتها على فيسبوك، حث تجمع المهنيين السودانيين “جميع المواطنين والطاقم الطبي” على التوجه إلى المستشفيات التي تعالج الجرحى، في حين لم يصدر المجلس العسكري الحاكم بيانًا فوريًا.
وبُعيد هذه الأحداث، توالت ردود الفعل في عدد من المدن والمناطق السودانية، ومنها العاصمة السودانية الخرطوم، حيث أغلق متظاهرون طرقات وأضرموا النيران في إطارات سيارات، بينما عمّت مظاهرات غاضبة مدينة الأبيض عقب الأحداث، لا سيما خلال مراسم تشييع الضحايا، اعتراضًا على استخدام الرصاص الحي في وجه المتظاهرين العزَّل من جديد، ما يهدد مسار المفاوضات المرتقبة بين الحرية والتغيير والمجلس العسكري، لا سيما بعد اتهام الأخير للمعارضة بالمماطلة وعدم وحدة الصف.
ازدحم مستشفى الأُبيّض التعليمي بالمصابين جراء إطلاق الرصاص الحي عليهم
كالعادة، ردّت الشرطة السودانية بإطلاق الغاز المسيل للدموع لتفريق مئات المحتجين في حي بحري في شمال الخرطوم وحي بوري في شرق العاصمة، كما أصدر والي ولاية شمال كردفان المكلف اللواء الركن الصادق الطيب عبد الله أصدر قرارًا بإعلان حظر التجول من الـ9 مساءً وحتى الـ6 صباحًا في 4 مدن سوادنية (الأُبيّض وأم روابة والرهد وأبو دكنة) اعتبارًا من اليوم وحتى إشعار آخر، إلى جانب تعليق الدراسة لمرحلتي الأساسي والثانوي، وانتشار قوات كبيرة من الجيش والأمن الداخلي في الشوارع لتحل محل قوات الدعم السريع.
قوات الدعم السريع في قلب المشهد كالمعتاد
بدا واضحًا – بحسب قوى الثورة – أن قتل المواطنين بالرصاص ما كان له أن يضطرد على هذا النحو دون موافقة من القيادات العليا في مختلف التشكيلات العسكرية، وهو ما يعني أن المجلس العسكري الذي تراكمت سجلات قتل المواطنين على طاولته ليس بالجهة المؤتمنة على تحقيق العدالة وإنصاف الضحايا من قتلتهم، فالمجلس بحسب الأمر الواقع مسؤول عن صون أمن المجتمع وكل رصاصة أُطلقت وكل روح أُزهقت وكل كرامة مواطن أُهدرت.
وعلى عكس القيام بهذه المسؤولية، يسخر حميدتي بأحلام الشعب المطالب بـ”المدنية”، ويتكفل جنوده بالترجمة العملية لتلك السخرية، بينما يؤكد السودانيون في تظاهراتهم “مدنية مدنية”، وهو قول بذل له أرواح ودماء أبنائه، ودخلت قوى الثورة في سبيل تحقيقه مسارًا تفاوضيًا بحسن ظن في العسكر الشركاء، لكنها لم تجن منه إلا الاتفاقات التي لا تصمد طويلاً.
كل ذلك جعل من السهل أن تكون قوات الدعم السريع في قلب مشهد سفك الدماء كالمعتاد، فقد سقط مئات بين قتيل وجريح منذ عزل الرئيس عمر البشير في 11 من أبريل/نيسان الماضي، دون أن ينال قاتل جزاءه، أمَّا جرائم القتل الأخرى في مدينة ربك وسوق مدينة الأُبيِّض فهي قياسًا بالمجازر الكبرى تبدو كرحلة قنص عادية.
حمَّل قادة المعارضة قوات الدعم السريع مسؤولية الدماء التي سالت في المظاهرات الطلابية
ورغم أن بيان لجنة الأطباء المركزية لم يشر علانية إلى الجهة التي ينتمي إليها “القناصة”، غير أن متظاهرين صرَّحوا بأنهم تابعون لقوات الدعم السريع، وأكد ذلك مقطع فيديو تناقله النشطاء، ويُظهر بشكل واضح إطلاق قوات الدعم السريع الرصاص الحي على الطلاب العزَّل رغم غياب أي مظاهر اشتباك معهم.
وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، أثارت هذه الأحداث ردود فعل شعبية غاضبة، وانصبت التفاعلات على تحميل المجلس العسكري الانتقالي مسؤولية الدماء التي سالت في المظاهرات الطلابية، وانتشر وسم “#الأبيض_تنزف”، تنديدًا باستهداف القناصة للمظاهرة الطلابية السلمية في الشوارع، وتضرج الوسم بصور القتلى والجرحى حاملاً مشاعر الحزن والتضامن التي خيمت على البلاد.
أمَّا تجمع المهنيين السودانيين فدعا إلى تحشيد المظاهرات، وحمَّل كذلك المجلس العسكري مسؤولية استمرار عملية القتل بحق طلاب سلميين في أثناء استمرار العملية السياسية، وطالب في بيان “بمحاسبة كل المسؤولين عن هذه الجرائم ومحاكمتهم محاكمة أمام قضاء مستقل ومؤهل، وليس أمام قضاء نيابة النظام الذي ورثه المجلس العسكري ويستثمره لمواصلة الإفلات من العقاب”، على حد تعبيره.
وجاء رد بعض قيادات الحرية والتغيير حيال تطورات مدينة الأُبيّض في شكل اتهام مستتر لجهات لم يتم تسميتها بتأجيج الأوضاع ميدانيًا كلما أحرز التفاوض تقدمًا، في حين جاء رد البعض الآخر أكثر علانية بتحميل المجلس العسكري المسؤولية الجنائية والتقصيرية في كل ما تم من حوادث، وأعلنت قوى الحرية والتغيير إرسال وفدها التفاوضي مع المجلس العسكري إلى المدينة لتقصي حقيقة ما جرى.
ويأتي تصعيد حدة الاتهامات للمجلس العسكري بعدما لم ير السودانيون محاكمةً لمن أمر ونفذ مجزرة الـ8 من رمضان، وهي التي أثبتت الأيام فيما بعد أنها كانت تجربة أولية للقتل على نطاق واسع في مجزرة فض اعتصام القيادة العام في الـ29 من رمضان.
تحت مظلة التفاوض مع المجلس العسكري جرت كل هذه الجرائم في حق المدنيين، الأمر الذي يجعل استمرار سقوط المحتجين بالرصاص الحي مثار تساؤلات بشأن جدوى مسار المفاوضات
إنها المجزرة التي أنكرها المجلس العسكري، وعلقها برقبة “ضابطين غير منضبطين”، وقال بشأنهما رئيس لجنة التحقيق التي شكَّلها النائب العام السوادني إنهما “خالفا التعليمات وأصدرا أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين”، لكن أجوبة المجلس العسكري النافية في البداية والمعترفة تحت الضغط لاحقًا بدعوى حدوث تجاوزات وانحرافات لم تُبعد عنه الاتهامات بقتل مواطنين سلميين.
ولم يكن غريبًا أن يرفض المواطنون وكل القوى السياسية الرواية التي خرجت بها النيابة العامة لمجزرة فض الاعتصام لمَّا رأوا من ثقوبها الواسعة ما يكفي لخروج أعضاء المجلس جميعًا دون أن تلصق بأيديهم نقطة دم.
صوت الرصاص يعلو على لغة الحوار
في خلفية كل مشاهد استباحة دم المواطنين العزَّل ثمة صراع على مستقبل السودان بين العسكر المشاركين بإرادتهم والقوى المدنية الطامحة لإنقاذ الدولة السودانية من حكم الأجهزة العسكرية والأمنية.
وتحت مظلة التفاوض مع المجلس العسكري جرت كل هذه الجرائم في حق المدنيين، الأمر الذي يجعل استمرار سقوط المحتجين بالرصاص الحي مثار تساؤلات بشأن جدوى مسار المفاوضات، فلا أدرك المفاوضون ما يكفي من النجاح لتثبيت دعائم الدولة المدنية الديمقراطية ولا استطاعوا كف أذى العسكر عن الناس.
قُبيل البت في الإعلان الدستوري وتشكيل حكومة مدنية انتقالية، يسير الرجل الثاني الفريق حميدتي قائد قوات الدعم السريع في حركة دائبة لترتيب علاقات خارجية، يُفترض أن تكون من مهام الحكومة المدنية المنتظرة لا المجلس العسكري
مجددًا، عاد صوت الرصاص عشية التمهيد للتفاوض بين المجلس العسكري السوداني وقوى الحرية والتغيير، فغير بعيد تنطلق اجتماعات اللجنة الفنية المشتركة بين الأطراف السودانية الموقعة على الاتفاق السياسي، وذلك تمهيدًا للقاءات التي ستجري بين وفدي التفاوض للبت النهائي في الإعلان الدستوري اليوم الثلاثاء.
الخلافات بشأن هذا الإعلان ما زالت تراوح مكانها باستثناء الاتفاق على عدم منح حصانة استثنائية لأي شخصية سياسية أو عسكرية، والتقيد بما نصت عليه تشريعات الحصانات السابقة في السودان، كما تم الاتفاق على منح المجلس السيادي صلاحية تعيين رئيس الوزراء دون سواه، وحصر مهام المجلس في صلاحية الاعتماد فقط، وهو اهتمام شكلي محدد زمنيًا بأسبوعين لا أكثر.
“لا تراخٍ ولا تأخير”، هذا ما أكده المبعوث الإفريقي للسودان محمد حسن لبات في بيان وجهه إلى الطرفين، ودعاهم فيه إلى التقيد بالمواعيد المحددة للحسم في القضايا العالقة، لكن قلة المنجز السياسي والأمني للثورة قد يضطر قادتها طوعًا أو بضغط من الشارع إلى مراجعات لا بد منها لتصحيح مسار تفاوضي تعثرت خطوات الثورة فيه، أمَّا المجلس العسكري فلا يكاد يشغله صوت رصاص أصاب أهدافه أم لم يصبها.
في الأثناء، وقُبيل البت في الإعلان الدستوري وتشكيل حكومة مدنية انتقالية، يسير الرجل الثاني الفريق حميدتي قائد قوات الدعم السريع في حركة دائبة لترتيب علاقات خارجية، يُفترض أن تكون من مهام الحكومة المدنية المنتظرة لا المجلس العسكري.
التقي حميدتي بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لأول مرة عشية أحداث الأُبيّض
في مطلع الأسبوع الحاليّ، زار حميدتي عاصمة جنوب السودان جوبا، في مسعى إلى حوار مع الحركة الشعبية قطاع الشمال، لكن على ما يبدو أن زيارته فشلت ولم تحقق أهدافها، حيث رفض قائد الحركة القائد عبد العزيز الحلو لقاءه، في حين عزا المجلس العسكري الانتقالي ذلك إلى مرض قائد الحركة الشعبية التي أصدرت الحركة بيانًا وصفت فيها الخرطوم بأنها “محتلة من ميليشيات متعددة الجنسيات”، في إشارة إلى قوات الدعم السريع.
وفي حين أعلن رئیس اللجنة السياسية بالمجلس العسكري الفريق أول شمس الدين كباشي أن اللقاء مع الحركات المسلحة (حركتي مالك عقار وعبدالعزيز الحلو) كان إيجابيًا ومثمرًا، طالبت الحركة نفسها بالتحقيق في منتسبي قوات الدعم السريع قبل التفكير في إدماجها في أي قوات نظامية سودانية في المستقبل، فهي، أي قوات الدعم السريع أو ميليشيا الجنجويد، توجَّه إليها الاتهامات بترويع الأهالي لسنوات طوال في دارفور، وتنفيذ مذبحة تضمنت قتل عشرات المعتصمين وإلقاء جثثهم في نهر النيل أمام مقر القيادة العامة للجيش السوداني.
وبُعيد ساعات من عودته من جوبا، وعشية استئناف المفاوضات بين الأطراف السودانية، توجه حميدتي إلى القاهرة، حيث التقى بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لأول مرة، ربما لبحث ما لم يبحثه غيره من أعضاء المجلس العسكري في زيارتهم القريبة إليها، في حين اكتفت وسائل إعلام مصرية بالتأكيد على موقف القاهرة الداعم للسودان، والقول إن زيارة حميدتي ناقشت مشروعات الربط الكهربائي بين البلدين.
وقبل حميدتي استضافت مصر رئيس أركان الجيش السوداني الفريق الركن هاشم عبد المطلب أحمد بابكر، الموقوف حاليًا بتهمة تدبير محاولة انقلاب بالبلاد، وسبقه رئيس المجلس العسكري الفريق أول عبد الفتاح البرهان، لكن ليس حميدتي كالبرهان في التصور المصري، هنا، ربما تتقاطع المصالح المصرية مع المصالح السعودية والإماراتية في بلد تقدمت فيه مصالح غيره على مصالحه وتراجعت قيمة مواطنه لتساوي رصاصة واحدة.