ترجمة وتحرير: نون بوست
وسط هتافات مدوية من آلاف الأشخاص في ساحة غزة الرئيسية، تم تسليم ثلاث أسيرات إسرائيليات للصليب الأحمر يوم الأحد، في لحظة تجاوزت التوقعات وأعادت كتابة قصة الحرب.
وقف مقاتلون من الجناح العسكري لحركة حماس، كتائب عز الدين القسام، بالزي العسكري الكامل، إلى جانب الأسيرات، وكان وجودهم إعلانًا جريئًا للتحدي.
بعد 15 شهرًا من القصف المتواصل، والتهجير القسري الجماعي، والتدمير شبه الكامل، خرجت المقاومة الفلسطينية بمظهر المنتصر، مستنهضة معاني البقاء والصمود، بينما سادت في إسرائيل حالة من عدم التصديق والشعور بالإهانة.
أكد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لشعبه مراراً وتكرارًا أن شمال غزة قد “تم تطهيره”، وأن حركة حماس – التي تُصنف كجماعة إرهابية في المملكة المتحدة ودول أخرى – قد تم تدميرها، وأن المنطقة تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية بالكامل.
لكن الأسرى، الذين فشل جيشه في إنقاذهم، تم الإفراج عنهم على يد المقاتلين الواثقين الذين ادعى نتنياهو أنه قد تم القضاء عليهم. كشفت تلك اللحظات مدى زيف ادعاءات نتنياهو.
بينما تعم الاحتفالات في قطاع غزة، تواجه إسرائيل عملية كشف حساب. ففي مقابلة تلفزيونية، وصف الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي غيورا آيلاند، مهندس “خطة الجنرالات” لتطهير شمال غزة عرقيًا، الحرب بأنها “فشل ذريع” لإسرائيل. وبسؤاله عما إذا كانت حماس قد انتصرت، لم تكن إجابته قابلة للتأويل: “بالتأكيد نعم. بالتأكيد. إنه فشل ذريع”.
رفض الانحناء للمحتل
وصف ديفيد ك. ريس، الكاتب الإسرائيلي الأمريكي، هذا الزلزال بعبارات صارمة: “اضطرت إسرائيل لخوض حرب تلو الأخرى من أجل الدفاع عن نفسها. انتصرت في حروب 1948 و1967 و1973. قاتلت حزب الله وانتهت الحرب متعادلة في 2006. لكن ذلك قد تغير الآن، فمع الأسف الشديد، بدلًا من أن يُذكر في التاريخ باعتباره الرجل الذي استطاع الدفاع عن إسرائيل، سيُذكر نتنياهو كأول رئيس وزراء إسرائيلي يخسر حرباً”.
لا يُقيم النصر في الحروب غير المتكافئة بقوة النيران، وإنما بالقدرة على سحق روح المقاومة لدى الطرف الأضعف. حسب هذا المعيار، فشلت حملة نتنياهو فشلًا كارثيًا.
خلّف نتنياهو دمارًا غير مسبوق، من خلال استخدام 70 ألف طن من المتفجرات على 360 كيلومتر مربع من أرض غزة في الأشهر الستة الأولى من الحرب، أي أكثر مما تم إلقاؤه على درسدن وهامبورغ ولندن مجتمعين خلال الحرب العالمية الثانية.
وكشفت صور الأقمار الاصطناعية أن ثلثي مباني غزة قد تضررت أو دُمرت، مع نسف أحياء كاملة. وقد شمل الحصار الإسرائيلي قطع إمدادات المياه والطعام والوقود، ما حوّل غزة إلى معسكر اعتقال ضخم.
اعتمدت استراتيجية نتنياهو على القضاء على قادة المقاومة، معتقدًا أن قتلهم سيؤدي إلى تفكيك الحركة وتمرد السكان عليها. عندما قُتل قائد حماس يحيى السنوار وهو يقاتل على الجبهة، أعلن نتنياهو أن النصر بات قريبًا. لكن حساباته كانت فاشلة وخاطئة، إذ لم يحدث التمرد الذي انتظره.
حتى عندما وعد بمبلغ 5 مليون دولار وممر آمن لأي فلسطيني مستعد للخيانة وتحرير الأسرى، لم يستجب أحد من السكان الذين يعانون الجوع والتشرد.
انهار معيار قياس النصر الذي لهث وراءه نتنياهو، أي كسر روح المقاومة في غزة. بدلًا من ذلك، فرضت حماس شروطها: سيتم إطلاق سراح الأسرى فقط عندما يتوقف إطلاق النار، مع انسحاب الجيش الإسرائيلي. هذا الواقع كشف عبثية حرب نتنياهو، وترك الإسرائيليين والعالم يعيدون تقييم الحسابات الخاطئة.
كلما تحطمت موجة من المقاومة، ظهرت موجة جديدة بعدها بوقت قصير. ذات مرة، تنبأ أبو إياد، القيادي السابق في منظمة التحرير الفلسطينية، والذي تم اغتياله في مسقط رأسي تونس عام 1991، قائلًا: “شعبنا سينجب ثورة جديدة، حركة أقوى من حركتنا، وقادة أكثر خبرة وأكثر خطرًا على الصهاينة. إن إرادة الفلسطينيين الثابتة في مواصلة المعركة هي حقيقة لا شك فيها … نحن عازمون على البقاء كشعب، وفي يوم من الأيام سيكون لدينا وطن”.
مازال صدى كلامه يتردد حتى اليوم، حيث يرفض الفلسطينيون في غزة -خلافًا لكل التوقعات- الانحناء للمحتل، ويواصلون مسيرتهم نحو الحرية.
رمزية العودة
تحوّل ما تصور نتنياهو أنه سيكون نكبة ثانية إلى “مسيرة عودة“. فالفلسطينيون المهجرون والجرحى يعودون الآن إلى منازلهم المدمرة، وأصبح صمودهم الأيقونة المميزة لهذه الحرب، وشهادة على قوة شعب يرفض أن يُمحى.
تستدعي هذه المعركة مقارنة تاريخية مؤلمة مع حرب فيتنام، كما صاغها تامير باردو، مدير الموساد السابق. يتذكر باردو كلمات ضابط أمريكي وهو يخاطب نظيره الفيتنامي الشمالي: “لم نخسر معركة واحدة”.
وكان رد الضابط الفيتنامي الشمالي عميقًا ومدمرًا: “قد يكون ذلك صحيحًا، لكن في صباح الغد، ستغادرون، وسنبقى نحن”.
لم تكن هذه الحرب أبدًا حرب حركة حماس وحدها، بل هي كفاح فلسطيني منذ قرن كامل من أجل الحرية. حماس التي تأسست في 1987، هي الفصل الأخير في قصة المقاومة التي بدأت مع وعد بلفور في 1917 واستيلاء الاستعمار على الأراضي الفلسطينية. وعلى مر الأجيال، ناضل الفلسطينيون بالإضرابات والاحتجاجات والثورات المسلحة.
اتخذ نضالهم أشكالاً عديدة – قومية ويسارية وإسلامية – لكن الجوهر بقي نفسه: رفض قاطع للخضوع للاحتلال، وعزم على استعادة الوطن.
احتفل حلفاء نتنياهو خلال الفترة الماضية بالتهجير القسري للفلسطينيين من غزة، متصورين أنه الفصل الأخير في النكبة. كانت زعيمة المستوطنين الصهاينة دانييلا فايس تحلم بتحويل غزة إلى مستوطنة، وتحدث وزير الأمن القومي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير، الذي استقال من الحكومة في أعقاب اتفاق وقف إطلاق النار، عن ترحيل الفلسطينيين إلى أسكتلندا.
واليوم، خلافًا لكل التوقعات، يعود الفلسطينيون إلى منازلهم، عازمين على عدم مغادرتها مرة أخرى. هذه العودة ليست مجرد فعل مادي، بل عمل رمزي أيضا، يؤكد حقهم في الوجود والعودة والمقاومة.
مقارنات مثيرة للقلق
بينما كان الفلسطينيون يحتفلون بنهاية الحرب، رد وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بكلمات سامّة: “لا تنبهروا بفرحة عدوّنا المصطنعة. هذا مجتمع حيواني يقدس الموت. قريبًا جدًا، سنمحو ابتسامتهم مرة أخرى”.
تجسد كلماته وحشية المشروع الاستعماري الإسرائيلي، الذي كشف عن همجيته للعالم على مدار 15 شهراً. وقد وثق الجنود الإسرائيليون العديد من مشاهد الدمار بأنفسهم، مما قد يشكل دليلاً يمكن استخدامه يومًا ما في المحاكم الدولية.
كتب الكاتب الصحفي جدعون ليفي، تعليقًا على سلوك إسرائيل حتى بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار، قائلا إنه يشعر بـ”الانزعاج والحرج” جراء هذه الأحداث، وأضاف: “الأمر لا يتعلق فقط بالقتل… وإنما التفاخر بالتدمير. لا خجل، لا شيء. إسرائيل فخورة للغاية… وهذا أمر مقلق جدًا”.
وعقد مؤرخا الهولوكوست دانيال بلاتمان وعاموس غولدبرغ مقارنات مثيرة للقلق في مقال بعنوان “رغم أن ما يحدث في غزة ليس أوشفيتس، إلا أنه يندرج تحت التصنيف ذاته – جريمة إبادة جماعية”.
في واحدة من أكثر لحظات الحرب تأثيرًا، وبعد ساعات فقط من إعلان وقف إطلاق النار، قام المنقذون بسحب الطفل أسعد فاضل خليفة (ثلاث سنوات) من تحت الأنقاض في مدينة غزة. كان مغطى بالغبار ويعاني من صعوبة في التنفس، ويحاول إزالة الحصى من فمه بيديه الصغيرتين، ومن حوله أنقاض منزل عائلته، وأحباؤه الذين دُفنوا تحتها.
تلك اليد الممدودة، التي تعلو من بين الأنقاض، تجسد الروح التي لا تقهر للشعب الفلسطيني: الصامد والمتماسك وغير القابل للكسر. وخلافًا للتوقعات، ينهض الفلسطينيون في كل مرة رافضين الإبادة.
إن نجاة الطفل أسعد، ونجاة المقاومة في غزة، يرمزان للأمل والثبات والسعي الدؤوب نحو الحرية.
المصدر: ميدل إيست آي