بعد سقوط نظام الأسد عادت العديد من القضايا العالقة بين سوريا والدول المجاورة إلى الواجهة، حيث تتطلع الأطراف المعنية إلى استغلال هذه المرحلة الجديدة في البلاد لإعادة فتح ملفات لم تجد حلولا طوال عقود.
من أبرز هذه الملفات قضية ترسيم الحدود مع تركيا ولبنان، بالإضافة إلى ملف تقاسم المياه مع العراق والأردن، الذي طالما أثار خلافات متجددة حول الحقوق المائية والاتفاقيات السابقة.
نستعرض في هذا التقرير أهم هذه القضايا والتحديات التي تواجه حلها، مع محاولة تقييم فرص الوصول إلى تفاهمات تسهم في تعزيز الاستقرار والتعاون الإقليمي.
سوريا ولبنان.. ترسيم الحدود
تتركز النزاعات الحدودية البرية بين سوريا ولبنان في مناطق جنوبية وشرقية عدة، أبرزها مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، بالإضافة إلى أراضٍ حدودية شمالية. حيث تشكل مزارع شبعا، التي تبلغ مساحتها حوالي 25 كيلومترًا مربعًا، محور النزاع الأكثر تعقيدًا، إذ يطالب لبنان بالسيادة عليها، بينما تعتبرها سوريا جزءًا من أراضيها، على الرغم من أن إسرائيل تحتلها منذ عام 1967.
بالإضافة إلى وجود نزاعات حول المناطق الحدودية الشمالية قرب محافظة عكار اللبنانية ومحافظة حمص السورية، حيث تتداخل الأراضي الزراعية وسط جدل مستمر حول حقوق ملكية الأراضي.
فيما يُعزى هذا النزاع إلى غياب ترسيم واضح للحدود منذ استقلال البلدين عن الاحتلال الفرنسي، مما أدى إلى تداخل الأراضي والمصالح. يفاقم هذه النزاعات الروابط الاقتصادية بين السكان المحليين المرتبطين لسنوات طويلة بأعمال التهريب عبر الحدود.
وحول ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، قامت الحكومة اللبنانية في عام 2011، برئاسة فؤاد السنيورة بإصدار المرسوم رقم 6433، الذي رسّم بشكل أحادي الحدود البحرية الجنوبية مع إسرائيل، والشمالية مع سوريا، والغربية مع قبرص.
واعتمد لبنان خط الوسط في الترسيم البحري شمالًا، إلا أن سوريا تبنت مقاربة مختلفة، حيث اعتمدت خطًا مستقيمًا لا يتماشى مع النهج اللبناني، ما أدى إلى نشوء منطقة أخرى متنازع عليها تقدر مساحتها بين 750 و 1000 كيلومتر مربع، تشمل أجزاء من البلوكات النفطية “1” و”2″ اللبنانية و”1″ السورية.
وعلى مدى عقود، لم تُبدِ سوريا اهتمامًا جديًا بحل ملف ترسيم الحدود مع لبنان، حيث اقتصرت الجهود على تشكيل لجان مشتركة دون تحقيق أي تقدم يُذكر، في ظل غياب ضغوط حقيقية من الجانب اللبناني.
وفي تصريح للرئيس المخلوع بشار الأسد، عام 2006، على خلفية المبادرة السورية – السعودية للحدّ من التوتر السياسي في لبنان، قال فيه أن مطلب الحكومة اللبنانية بترسيم الحدود في مزارع شبعا “طلب إسرائيلي”، معتبرًا إياه يضرّ في أهداف المقاومة.
لكن عقب سقوطه، صرح القائد العام للإدارة الجديدة أحمد الشرع، خلال لقائه رئيس الحكومة اللبنانية السابق نجيب ميقاتي في دمشق إن “ملف ترسيم الحدود ضمن سلم الأولويات لسوريا ولبنان، ولكن الأولوية الآن في سوريا للملف الأمني الداخلي”.
الأردن وسوريا.. خلاف مائي
يشكل الخلاف المائي بين الأردن وسوريا تحديًا كبيرًا في العلاقات الثنائية بين البلدين، ويرتكز بشكل أساسي على نهر اليرموك، الذي ينبع من جنوب غرب سوريا ويمتد نحو الأردن ليصب في نهر الأردن.
يبلغ طول النهر الذي يمثل شريانًا مائيًا للأردن حوالي 57 كيلومترًا. فيما أُبرمت اتفاقية بين البلدين عام 1987 لتنظيم استغلال مياه النهر، وتم بموجبها تحديد حصة الأردن بـ 90 مليون متر مكعب سنويًا، مقابل احتفاظ سوريا بـ 75 مليون متر مكعب.
إلا أن الالتزام بهذه الاتفاقية كان دائمًا موضع جدل، حيث اتهم الأردن سوريا بتجاوز الحصص المخصصة من خلال بناء سدود إضافية، مثل سد الوحدة، وتوسيع مشاريع الري في المناطق المحيطة بالنهر، مما أدى إلى تقليل كميات المياه المتدفقة نحو الأراضي الأردنية. وتفاقم تأثيرها مع التغيرات المناخية وانخفاض معدل الأمطار.
يعاني الأردن اليوم من شح حاد في الموارد المائية، حيث يُعد من أفقر دول العالم مائيًا بمعدل موارد لا يتجاوز 100 متر مكعب للفرد سنويًا، مقارنة بالمعدل العالمي البالغ 1000 متر مكعب. فيما تواجه سوريا من جهة أخرى، أزمة مائية تفاقمت بفعل المعارك، حيث انخفضت كميات المياه المتاحة بسبب تضرر البنية التحتية، وتراجع إنتاج المياه من الأنهار الرئيسية نتيجة الجفاف والاستغلال المفرط.
ورغم إجراء محاولات لإعادة تفعيل الاتفاقيات بين الطرفين، آخرها في عام 2021 حضرها ممثلين من سوريا والأردن، لتحسين إدارة نهر اليرموك وتعزيز التعاون الثنائي في مجال المياه، إلا أنه لم ينتج عن هذه اللقاءات أي تغييرات تذكر. كما رفض نظام الأسد طلبًا أردنيًا لبيع 30 مليون متر مكعب من المياه، وفقًا لما نقلته قناة “المملكة” الأردنية عام 2022.
وخلال لقاء بين وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي والخارجية السوري أسعد الشيباني قال الوزير الأردني: “كان هناك اتفاقيات تعود إلى ثمانينات القرن الماضي مع سوريا فيما يخص المياه، وقد حصل خرق لهذه الاتفاقيات، ومع ذلك، كان الأردن دائمًا يعالج الأمور برؤية استراتيجية، وهناك مواضيع يمكننا التعامل معها الآن مع الإدارة الجديدة”.
مؤخرًا، سيطر الاحتلال الإسرائيلي على مجرى نهر اليرموك وسد الوحدة في خطوة استراتيجية تهدف إلى تعزيز نفوذ “إسرائيل” في المنطقة، والتحكم في أحد أهم مصادر الموارد المائية في كل من سوريا والأردن. بعد أن توسعت قوات الجيش في مدينة البعث وخان أرنبة وقطنا.
أزمة المياه بين ثلاث دول
تُعد أزمة المياه بين سوريا والعراق وتركيا واحدة من أكثر النزاعات المائية تعقيدًا في منطقة الشرق الأوسط. إذ يتمحور الخلاف حول نهر الفرات، الذي ينبع من تركيا ويمر عبر سوريا قبل أن يصل إلى العراق، ما يجعل تدفقه يخضع بشكل كبير للسياسات المائية التركية مما يجعل تهديد أمنه سببًا رئيسيًا في اختلال توازن الأمن الغذائي والاقتصادي في تلك المناطق.
ومما زاد من تفاقم الأزمة، تنفيذ تركيا مشروع يتضمن سلسلة من السدود الكبرى على نهري دجلة والفرات، مثل سد أتاتورك، بهدف تحسين الإنتاج الزراعي وتوليد الطاقة.
وأظهرت الإحصائيات أن السدود التركية خفضت تدفق المياه في نهر الفرات بشكل حاد، ما أدى إلى استبعاد حوالي 40% من الأراضي الزراعية في العراق الواقعة ضمن حوض الفرات من الاستخدام، في حين تضررت ثلثا الأراضي السورية المروية.
وفقًا لتقرير مؤشر الإجهاد المائي لعام 2019، يُتوقع أن يصبح العراق أرضًا بلا أنهار بحلول عام 2040، مع جفاف شبه كلي لنهر الفرات باتجاه الجنوب بحلول عام 2025.
أما بالنسبة لسوريا، فيعتمد الاقتصاد السوري بشكل كبير على مياه نهر الفرات لتلبية الاحتياجات المائية والكهربائية. وأعلنت الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا (قسد)، الحسكة مدينة منكوبة في يوليو/ تموز عام 2023، بسبب توقف محطة مياه سد علوك، محملة تركيا والأسد وروسيا مسؤولية الكارثة.
على الرغم من توقيع عدة اتفاقيات بين الدول الثلاث لتنظيم تقاسم المياه، إلا أن هذه الاتفاقيات غالبًا ما تُنتهك بفعل التوترات السياسية المتصاعدة. وساهمت حالة العداء بين تركيا و”قسد”، إلى جانب القطيعة السياسية المستمرة بين أنقرة ودمشق، في ترسيخ حالة الجمود، مما جعل الأزمة عالقة دون حلول ناجعة لعقود.
ترسيم الحدود البحرية بين سوريا وتركيا
تعد مسألة ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وسوريا خطوة ذات جذور تاريخية تتصل بالمساعي الإقليمية لاكتشاف احتياطيات الغاز الطبيعي في المنطقة، بعد أن سعت دول شرق المتوسط إلى تأمين حقوقها عبر ترسيم حدود بحرية تحدد مناطق النفوذ الاقتصادي الحصري لكل دولة.
وعقب سقوط الأسد، أكد وزير النقل والبنية التحتية التركي، عبد القادر أوال أوغلو، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، عزم بلاده بدء مفاوضات لترسيم الحدود البحرية مع سوريا في البحر المتوسط بعد تشكّل حكومة دائمة في دمشق.
جغرافيًا، يمتد الساحل السوري بطول يقارب 180 كيلومترًا على البحر المتوسط، مشكِّلًا نقطة استراتيجية تفصل بين المياه الإقليمية التركية من الشمال (بالقرب من رأس البسيط جنوب الجبل الأقرع) واللبنانية من الجنوب. فيما تمتلك تركيا أحد أطول السواحل في شرق المتوسط، ما يجعلها لاعبًا رئيسيًا في صياغة الحدود البحرية مع الدول المجاورة.
كما قدّر المسح الجيولوجي الأمريكي عام 2010 إجمالي منطقة حوض الشام من البحر المتوسط (مصر ولبنان وسوريا وفلسطين وتركيا و”إسرائيل”) بـ 3450 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي و1.7 مليار برميل من النفط. فيما يمثل الترسيم المحتمل فرصة تاريخية لسوريا وتركيا للبدء في التنقيب عن موارد الطاقة واستغلالها. الأمر الذي من شأنه أنه يدعم إعادة الإعمار وينعش الاقتصاد السوري. إلى جانب تعزيز الشراكات الاقتصادية بين البلدين.
تبرز اليوم لدى سوريا ودول الجوار فرصة لإعادة بناء العلاقات الإقليمية على أسس جديدة قائمة على التعاون وحل النزاعات العالقة، من خلال الاستفادة من ثروات شرق البحر المتوسط وتحقيق توزيع عادل لموارد المياه، وإنهاء عقود من التوترات والحرمان التي يعيشها سكان المناطق المذكورة. عبر النظر إلى هذه القضايا على أنها مفتاح لتوحيد الجهود لإعادة الإعمار والاستثمار في البنى التحتية المائية والحدودية التي يمكن لها أن تكون فرصة للتكامل الاقتصادي والتنمية المستدامة لكافة الأطراف.