أدى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب (78 عامًا)، الاثنين 20 يناير/كانون الثاني 2025، اليمين الدستورية، ليصبح الرئيس الـ47 للولايات المتحدة الأميركية خلفا للديمقراطي جو بايدن، ليعود مجددًا للبيت الأبيض منتشيًا بانتصار تاريخي على منافسته كامالا هاريس، بعد ماراثون دام أربعة سنوات من الملاحقات القضائية والاتهامات الجنائية التي تعرض لها منذ خسارته في انتخابات 2020.
ورغم تدخل الطبيعة لإفساد حفل التنصيب بعدما أُجبر المنظمون على نقل الحفل من حديقة الكابيتول إلى داخل المبنى بسبب الأحوال الجوية، إلا أن التنصيب كان استثنائيًا، سواء من حيث نوعية الحضور أو القرارات والتصريحات الصادرة عن ترامب والتي تأرجحت بين الصادمة والمفاجئة والغريبة.
وتشير التقديرات الأولية إلى أن كلفة هذا الحفل تجاوزت 200 مليون دولار، ليصبح الأعلى في تاريخ حفلات تنصيب الرؤساء الأمريكيين، والتي جُمعت في معظمها في صورة تبرعات وصلت تقريبًا 250 مليون دولار من أباطرة المال والأعمال الداعمين للرئيس الجمهوري، على رأسهم الرئيس التنفيذي لشركة “ميتا بلاتفورمز” مارك زوكربيرغ، مالك فريق هيوستون روكتس، تيلمان فيرتيتا، قطب صناعة النفط والغاز، هارولد هام، الرئيس التنفيذي لشركتي “تسلا” و “سبيس إكس”، إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركة أمازون، جيف بيزوس، الرئيس التنفيذي لشركة “أبل” تيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة “أوبن إيه آي” سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة “أوبر” دارا خسروشي، رئيس شركة “غوغل”، سوندار بيتشاي وأمبراطور العقارات ستيف ويتكوف.
وخلال خطابه المطول الذي ألقاه بعد أداءه اليمين الدستوري، والذي تجاوز نصف الساعة، وسيطرت عليه العنجهية والفوقية والقفز على القانون والأخلاقيات، قدم ترامب تصورًا عامًا عن الخطوط العريضة لسياسة إدارته داخليا وخارجيا، مع تحديد أولويات ولايته الجديدة والتحديات التي تواجه البلاد واستراتيجية التعاطي معها، معلنا بداية العهد الذهبي للولايات المتحدة، وأنه سيضع “أمريكا أولا” كما تعهد خلال حملته الانتخابية.
خطاب شعبوي بامتياز
كعادته التي لا تنقطع، وسلاحه الذي يجيد استخدامه بجودة عالية الدقة، تبنى ترامب خطابًا شعبويًا من الدرجة الأولى، فالرجل يعرف جيدًا كيف يخاطب جمهوره، وما هي مداخلهم الإقناعية المؤثرة، فتراقص على أوتار الدين والعلمانية معًا، وغازل العاطفة والعقل سويًا، واستطاع بحركاته البهلوانية الاستعراضية أن يأسر قلوب الكثير من عشاق هذا النوع من السياسة الميكافيللية التي تنتصر في النهاية لصالح الدولة والشعب بعيدًا عن أي اعتبارات أخلاقية أو إنسانية أخرى.
بدأ الرئيس الجديد عهده الثاني بانتقاد سلفه جو بايدن، وتشويه ولايته الوحيدة التي وصفها بالفشل، متهما إياه بالعجز في مواجهة كافة التحديات والأزمات التي تعرضت لها الولايات المتحدة خلال السنوات الأربعة الماضية، أخرها الحرائق التي اجتاحت ولاية كاليفورنيا وحصدت الكثير من الخسائر في الأرواح والممتلكات.
تعهد ترامب باستعادة أمن وسيادة أمريكا، مشيرًا إلى أن الله قد أنقذه – في إشارة لمحاولة الاغتيال التي تعرض لها أثناء حملته الانتخابية وما سبقها من محاولات سجنه بسبب قائمة الاتهامات التي تعرض لها- من أجل أن يجعل من أمريكا أمة عظيمة، مؤكدًا بلغة استعلائية بحتة أنه منذ هذه اللحظة فإن الانهيار الأميركي قد انتهى.
كما تعهد كذلك بعود ما أسماه الحلم الأميركي، وفرض تعريفات جمركية وضرائب على منتجات الدول الأجنبية، ومساعدة الأمريكيين في شراء السيارات التي يرغبون فيها، مؤكدًا أن أمريكا ستكون أمة مصنعة مرة أخرى وستمتلك أكبر قدر من النفط والغاز وسنخفض الأسعار وسنصدر طاقتنا إلى العالم.
الخطاب الذي ألقاه ترامب في تنصيب ولايته الثانية اختلف بشكل كبير عن نظيره في الولاية الأولى 2017، الأمر الذي يعكس تحولا كبيرًا في أسلوبه وسياسته التي كانت دوما محل انتقاد خلال سنوات حكمه الأربعة الأولى، وإن حافظ فيهما على أولوياته السياسية الرئيسية، وفقا لتحليل الذكاء الاصطناعي الذي أجراه موقع “أكسيوس” الأمريكي
في 2017 كان خطاب تنصيب ترامب لا يتجاوز 1433 كلمة، وصف حينها بأنه الأقصر في التاريخ الأمريكي الحديث، أما خطاب الاثنين فبلغ 2888 كلمة، أي الضعف تقريبًا، أما من حيث المضمون فجاء الخطاب “دافئًا” بحسب وصف الموقع الأمريكي، فيما تحولت نبرة ترامب من “جريئة وحازمة” في خطابه الأول، إلى “متفائلة لكن معتدلة”، وانتقاداته للمعارضين من “مباشرة” إلى “أكثر تحفظاً وتم تأطيرها كقضايا منهجية”.
الأسلوب البلاغي تطور بشكل لافت كذلك، من “العظمة والدراما” في بداية ولايته السابقة، إلى نبرة تتسم “بالإلهام والوطنية”، حسب المصدر ذاته، في إشارة إلى استفادة ترامب من الانتقادات التي تعرض لها في السنوات الماضية بسبب جنون الكبرياء الذي كان يسيطر عليه وأثر بشكل كبير في إدارته الأولى
الإحصائيات اللغوية للخطاب تؤكد هي الأخرى اللغة الحميمية الشعبوية التي خاطب بها ترامب جماهيره، فجاءت كلمات “أنا” و”نحن” و”أنتم” الأكثر استخداماً في الخطاب، بزيادة تقترب من الضعف مقارنة بخطاب التنصيب الأول، حيث ارتفع استخدام الضمير “أنا” من 52 مرة في خطاب 2017 إلى 124 مرة في خطاب 2025، كذلك “نحن” من 48 مرة في الخطاب الأول إلى 72 مرة في الخطاب الحالي، وتضاعف استخدام “أنتم” من 12 إلى 24 مرة.
تدشين مرحلة ترامبية خالصة
بعد دقائق معدودة من انتهاء خطاب التنصيب، وتسلم السلطة رسميًا، جلس الرئيس الأمريكي الـ 47 على مكتبه في البيت الأبيض، يدشن لمرحلة جديدة من الترامبية الخالصة، لا مكان فيها للإدارة الديمقراطية القديمة، حيث كانت البداية إلغاء 78 إجراءً تنفيذيًا نفذتها إدارة بايدن، من بينها إجراءات تعزيز المساواة العرقية ومكافحة التمييز بين الجنسين وتعبئة الاستجابة الفدرالية لجائحة كورونا.
هذا بخلاف التوقيع على سلسة من الأوامر التنفيذية والتوجيهات، التي تتقاطع شكلا ومضمونا مع توجهات الإدارة السابقة، أبرزها ما يتعلق بالهجرة والعفو الجنائي ومجتمع “الميم” والانسحاب من اتفاقيات دولية، وبحسب القانون فإن الأمر التنفيذي يصدره الرئيس بشكل فردي وله قوة القانون، ويدخل حيز التنفيذ فور توقيعه مباشرة أو بعد فترة قصيرة، اعتمادا على ما إذا كان يتطلب إجراء رسميا من وكالة فدرالية، وربما تواجه بعض القرارات طعونا أمام المحكمة، مما قد يؤجل تنفيذها أو يلغيها بالكلية.
🔵 في أول منشور بعد تنصيبه.. أعلن الرئيس الأميركي، #دونالد_ترامب، عبر منصته "تروث سوشيال"، بأن مكتب شؤون الموظفين الرئاسي يعمل حاليا على تحديد وإقالة ما يزيد عن ألف معين في مناصب المسؤولية من الإدارة السابقة، "لعدم توافق هؤلاء المسؤولين مع رؤيته".
🔵 ترامب أشار أيضا إلى إقالة 4… pic.twitter.com/5gc8YCAvYe
— قناة الحرة (@alhurranews) January 21, 2025
واستمرارًا لسياسة “نسف حمامك القديم” أعلن ترامب، عبر منصته الاجتماعية “تروث سوشال”، عن موجة إقالات واسعة في العديد من المناصب الرئاسية في الإدارة السابقة، مُرجعا ذلك “لعدم توافق هؤلاء المسؤولين مع رؤيته”، التي تهدف إلى “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، البداية كانت بإقالة 4 مسؤولين كدفعة أولى، وهم خوسيه أندريس من مجلس الرئيس للرياضة واللياقة البدنية والتغذية، ومارك ميلي من المجلس الاستشاري للبنية التحتية الوطنية، بالإضافة إلى كل من براين هوك من مركز ويلسون للباحثين، وكيشا لانس بوتومز من مجلس الرئيس للتصدير، مع توقع المزيد من قرارات الإقالة قريبًا، في إطار سعيه لإعادة تشكيل المناصب الإدارية العليا، بما يتوافق مع توجهات ورؤية إدارته الجديدة.
حقيبة هدايا لإسرائيل
قدم ترامب في اليوم الأول له في البيت الأبيض حقيبة هدايا للكيان الإسرائيلي المحتل، كشف بها بشكل أو بأخر عن ملامح ولايته الجديدة فيما يتعلق بدعم تل أبيب وتوجهاتها في المنطقة، وهو بذلك يكافئ الحكومة الإسرائيلية على الرضوخ للضغوط التي مارسها عليها بشأن إبرام اتفاق وقف إطلاق النار في غزة قبل تسلمه السلطة رسميًا من جانب، ويبعث برسالة مغازلة للصهيونية العالمية التي ربما رأت في هذا الاتفاق هزيمة لمشروعها في فلسطين من جانب أخر.
البداية كانت مع قرار رفع العقوبات المفروضة على بعض المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، استنادا إلى الأمر التنفيذي الذي أصدره بايدن مطلع فبراير/شباط 2024 ويهدف إلى معاقبة المستوطنين اليهود المتطرفين الذين يهاجمون الفلسطينيين في الضفة ويستولون على ممتلكاتهم، وبذلك أعطى ترامب الضوء الأخضر لهؤلاء المستوطنين لممارسة إجرامهم بأريحية وطمأنة كاملة.
قرار مفاجىء.. #ترامب يوقع على إلغاء عقوبات فرضتها إدارة #بايدن على مستوطنين إسرائيليين في الضفة الغربية، وسط ترحيب من اليمين المتطرف الإسرائيلي. pic.twitter.com/7kogCPErKf
— نون بوست (@NoonPost) January 21, 2025
القرار لاقى ترحيبًا كبيرًا من الإسرائيليين فيما اعتبرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية أنه ضمن مجموعة من الحوافز التي قدمها ترامب إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وأعضاء في حكومته للموافقة على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، إذ تعهد الرئيس الأمريكي حينها بدعم إسرائيل في حال تجدد القتال في غزة، هذا بخلاف احتمالية أن يحصل وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش على تصاريح بناء لمستوطنات جديدة في الضفة بموجب وعود قدمها مسؤولون كبار في إدارة الرئيس الجديد، بحسب الصحيفة.
وتضمنت حقيبة الهدايا الترامبية للكيان المحتل اعتزام الإدارة الجديدة شن حرب شعواء ضد المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، عقابًا لها على أوامر الاعتقال التي أصدرتها بحق نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت، وضد خطوات أخرى ربما تكون قد اتخذت ضد مسؤولين إسرائيليين آخرين، وكان برلمانيون جمهوريون قد لوحوا قبل ذلك بملاحقة المحكمة وأعضائها بسبب تلك القرارات.
حتى اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، لم يدافع عنه ترامب بالشكل المتوقع رغم أنه من دفع نحو إبرامه، في تناقض مثير للشك والقلق معًا، حيث قال إنه غير متأكد من استمرار اتفاق وقف إطلاق النار في القطاع، دون أن يتحدث عن ضغوط قد يقوم بها لإكمال مراحل الاتفاق الثلاثة، مقارنة بتحذيراته السابقة حال لم تتم الصفقة قبل تسلمه السلطة، مضيفًا خلال تصريحاته للصحفيين عقب توقيع عدد من القرارات في البيت الأبيض، أن “هذه ليست حربنا، هذه حربهم، أعتقد أن الجانب الآخر (حماس) أصبح ضعيفا جدا”.
الانتهازية الرأسمالية
من الواضح أن الانتهازية الرأسمالية ستكون السمت المهيمن على إدارة ترامب الجديدة، هذا الأمر بات يتضح نسبيًا مع الاعتماد بشكل كبير على أباطرة المال والأعمال الذي أصر الرئيس الجمهوري على أن يكونوا في الصفوف الأولى في حفل التنصيب عكس المعتاد في مثل تلك المناسبات الوطنية التي في الغالب يتصدر المشهد فيها النخبة السياسية.
تلك الانتهازية بطبيعة الحال ستكون بيئة خصبة لازدهار ونمو الشركات الكبرى والكيانات الاقتصادية العملاقة، كذلك الدول والحكومات ذات القدرات الاقتصادية القوية، وفي المقابل ستنعكس بصورة سلبية على الدول الناشئة والفقيرة والشركات المتواضعة التي من المرجح أن تدفع فاتورة هذا التغول مما سيكون له تداعياته وارتداداته الكارثية على الخارطة المجتمعية والسياسية.
وكشف ترامب مع اليوم الأول له في السلطة عن ملامح تلك السياسة، حيث انتهاز واستغلال قوة بلاده في جمع أكبر قدر ممكن من المكاسب والثروات، الأمر هنا لا يقتصر على الداخل الأمريكي وفقط، بل تجاوزت طموحات الرجل إلى ماهو خارج حدود بلاده، حين أشار إلى اعتزامه شراء جزيرة غرينلاند الخاضعة للسيطرة الدنماركية، كذلك معاودة الحدث عن هيمنة الولايات المتحدة على قناة بنما، هذا بجانب فرض المزيد من الرسوم الجمركية على العديد من الدول.
ترامب يعلّق على أول زيارة خارجية له.. إذا دفعت السعودية 50 مليار إضافية ستكون السعودية وجهتي الخارجية الأولى pic.twitter.com/UURXwoPbD0
— نون بوست (@NoonPost) January 21, 2025
وفي ذات السياق وقّع أمراً تنفيذياً يقضي بتعليق جميع برامج المساعدات الخارجية الأميركية مؤقتاً لمدة 90 يوماً، وذلك لحين إجراء مراجعات لتحديد مدى توافقها مع أهداف سياساته، حيث جاء في نص الأمر أنّ “قطاع المساعدات الخارجية والبنية البيروقراطية المرتبطة به لا يتماشى مع المصالح الأميركية، وفي كثير من الأحيان يتعارض مع القيم الأميركية”، وهو ما يعني أن أمريكا لن تقدم مساعدة لأي أحد لا تتماشى مع السياسة الخارجية لترامب.
الانتهازية الرأسمالية بلغت مستوياتها القصوى في انسحاب أمريكا للمرة الثانية من اتفاقية باريس للمناخ، اذ كان قد انسحب منها إبان فترة رئاسته الأولى في 2017، قبل أن يصدر بايدن قرارًا بالعودة إليها في يناير/كانون الثاني 2021، وهو القرار الذي يكشف الوحشية الرأسمالية لترامب ولو على حساب تدمير المنظومة البيئية رغم ما تدفعه بلاده من ثمن باهظ جراء هذا التغول متمثلا في الحرائق والأعاصير التي تزلزل أرجاء الولايات.
الخطوة ذاتها اتخذها الرئيس الجديد مع منظمة الصحة العالمية التي أعلن انسحاب بلاده منها بزعم أنها فشلت في التصرف باستقلالية بعيداً عن “التأثير السياسي” لأعضائها، وأنها تطلب من الولايات المتحدة “مدفوعات باهظة بشكل غير منصف” لا تتناسب مع المبالغ التي تقدمها بلدان أخرى أكبر، مثل الصين، مضيفاً “منظمة الصحة العالمية احتالت علينا”.
صدام مع الأوروبيين.. التطاوس النرجسي
بعيدًا عن ردود الفعل الدبلوماسية الصادرة عن العواصم الأوروبية بشأن فوز ترامب وتنصيبه لولاية جديدة، فإن عودة الرئيس الجمهوري للبيت الأبيض لاشك وأنها ليست الخبر الجيد بالنسبة للحالمين بعلاقات جيدة بين الولايات المتحدة وأوروبا، فالرجل يتبنى سياسة حمائية معروفة ولديه سجل حافل من المواقف الصدامية مع أبناء القارة العجوز.
الصدام الأول المرتقب يتعلق بالملف الأوكراني، فمع تأكيد ترامب على بناء علاقة جيدة مع موسكو، واستعادة المفاوضات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن المخاوف الأوروبية تتصاعد بشأن مخططات روسيا قضم المزيد من الأراضي الأوكرانية، أو على الأقل ترسيخ هيمنتها على المناطق التي سيطرت عليها بالفعل، مع تقليص حجم المساعدات المقدمة لكييف مما يضعفها كثيرًا أمام الجيش الروسي، وهو ما يعتبره الأوروبيون تهديدًا أمنيًا لهم على حدودهم الشرقية.
ويعد ملف حلف شمال الأطلسي والتمويل الأمريكي له أحد الملفات الصدامية المتوقعة بين واشنطن وأوروبا، فلطالما تعهد ترامب بأنه سيعيد النظر في “مهمة حلف شمال الأطلسي والغرض من تأسيسه”، وطالب الحكومات الأوروبية بتعويض بلاده عن المساعدات العسكرية التي قدمتها لأوكرانيا، مع التلويح بورقة خفض التمويل الدفاعي المقدم للحلف، بزعم أن واشنطن تدفع أكثر من حصتها، وأن على الدول الأعضاء في الناتو إنفاق ما يعادل 5% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، وهو أعلى بكثير من الهدف الحالي البالغ 2%.
يتعامل ترامب مع الأوروبيين بمنطق فوقي نرجسي، إذ يرى أنهم عبء وعالة على الولايات المتحدة التي تدافع عنهم في كثير من الساحات الملتهبة مما يؤدي في النهاية إلى استنزاف خزائن بلاده، ومن ثم تصاعد السخط الشعبي في ظل الأوضاع الاقتصادية المتأرجحة بسبب الأزمات الطارئة التي تتعرض لها الخارطة العالمية من حروب وتغيرات مناخ وكورونا وخلافه.
في ضوء ما سبق..
لم يتغير ترامب الولاية الثانية عنه في ولايته الأولى، من حيث التوجهات والمواقف والسياسات، الفارق الوحيد تمثل في الاستعانة نسبيًا بالدبلوماسية الدافئة مقارنة بالصادمة التي كان ينتهجها في الولاية السابقة، علاوة على تبنيه للانتهازية الرأسمالية بشكل أكثر تشددًا خاصة بعد ارتكازه على أباطرة المال والأعمال في الولايات المتحدة، ربما ساعده على ذلك الظروف والمستجدات الإقليمية والدولية، ناهيك عن ضعف إدارة سلفه الذي قدمه للعالم في صورة الزعيم المتمترس بقوة الانتصار الكاسح، الأمر الذي يُبقي على ذات التحديات القديمة قائمة، ويدفع دول الشرق الأوسط تحديدًا لإعادة النظر في تموضعها في مواجهة التحديات المحتملة المتوقع أن تفرضها عودة الرئيس الجمهوري للبيت الأبيض مرة أخرى.