لطالما عانى الشعب الفلسطيني من سياسات القمع والتطهير الممنهجة التي تهدف إلى اقتلاع جذوره من أرضه، غير أن حرب الإبادة في غزة التي استمرت لمدة 470 يومًا، أظهرت وجهًا أكثر قسوة ووحشية لسياسات التطهير العرقي وقطع النسل الفلسطيني.
فمنذ احتلال فلسطين عام 1948، لم تتوقف محاولات الاحتلال الإسرائيلي محو الهوية الفلسطينية، سواء بالتهجير القسري، أم هدم المنازل على رؤوس ساكنيها، ونسف مربعات سكنية بأكملها وإبادة شعب بكل ما أوتيت “إسرائيل” من قوةٍ عسكريةٍ ودعم وتحالف أمريكي.
ففد خلّفت الحرب آلاف الشهداء والجرحى، جلهم من الأطفال والنساء ما جعل غزة تعيش في كارثة إنسانية تهدد بقاء شعب بأكمله.
استهداف الأمهات والأطفال
يقول الدكتور أحمد الفرا، رئيس قسم الأطفال في مشفى التحرير بمجمع ناصر الطبي إن الحرب الإسرائيلية لم تستثنِ الأطفال والنساء وكبار السن، مشيرًا إلى أن ثلث الشهداء الذين تجاوز عددهم 50 ألفًا، وأكثر من 60% من المصابين الذين وصلوا إلى المستشفى كانوا أطفالًا، معظمهم يعاني من إصابات خطيرة قد تتركهم بعجز دائم.
ويشير الدكتور أحمد إلى أن هذه الأرقام تعكس سياسة ممنهجة لتدمير الأجيال القادمة، مضيفًا أن بعض الإصابات تبدو كأنها نتيجة استخدام أسلحة محرّمة دوليًا.
وأوضح أن الاحتلال ينتهج استهدافًا مباشرًا وغير مباشر للأطفال، كقصف خيام النازحين أو منع وصول الغذاء والمكملات الغذائية، ما يؤدي إلى ولادة أطفال خدج، أو وفاتهم بسبب سوء النمو في أثناء الحمل.
وأضاف أن الحوامل يواجهن صعوبات في الوصول إلى المستشفيات بسبب غياب المواصلات وتعطيل سيارات الإسعاف، ما يجبر كثيرات على الولادة في الخيام، وهو ما يعرضهن والأطفال لمخاطر صحية نتيجة نقص الرعاية الطبية.
وأشار الفرا إلى أن نقص الحليب الصناعي يدفع الأمهات للبحث عن بدائل مثل الأعشاب، ما يسبب سوء تغذية للأطفال، ويؤثر على نموهم الذهني والجسدي، فضلًا عن انتشار فقر الدم الذي يضعف التركيز والإنتاجية لدى الجيل القادم.
وبيّن أن الحرب خلفت آثارًا جسيمة على الأطفال، إذ تسببت بإعاقات دائمة وبتر الأطراف والحروق، مؤكدًا أن الكثير من الأطفال الذين يعانون من إصابات خطيرة، مثل كسور الجمجمة، لم يتمكن الأطباء من إنقاذهم بسبب نقص الإمكانيات الطبية، كما أشار إلى أن المستلزمات الأساسية مثل الشاش والمعدات الطبية والمكملات الغذائية كانت شبه معدومة.
وتحدث الفرا عن ظاهرة جديدة شهدها أطباء الأطفال، حيث يعاني 90% من الأطفال الذين يصلون إلى المستشفيات من التهابات رئوية حادة بسبب نقص المناعة الناتج عن سوء التغذية وغياب الفيتامينات.
وفي سياق آخر، انتقد الفرا المجتمع الدولي، معتبرًا أنه يتبنى شعارات زائفة، ويتعامل مع الفلسطينيين كأرقام بلا قيمة، واستنكر الصمت العالمي تجاه استهداف المستشفيات واعتقال الأطباء، متسائلًا عن رد الفعل لو حدث ذلك في أوكرانيا. وفي المقابل، أشاد الفرا بالجهود التي تبذلها الوفود الطبية الأجنبية والعربية التي تساهم في تقديم المساعدة رغم نقص الأجهزة والمستلزمات الطبية، مؤكدًا أن هذه الجهود تضيف بصيص أمل في ظل المأساة المحيطة بالشعب الفلسطيني.
واختتم الفرا حديثه بالتأكيد على أن أطفال فلسطين، الذين يُستهدفون بالتطهير العرقي في غزة والضفة الغربية، هم الضحية الأولى لهذه الممارسات الوحشية، رغم أنهم لا ذنب لهم فيما يحدث.
وصرّح الدكتور ماهر فروانة دكتور النساء والولادة في مجمع ناصر الطبي، أن الاحتلال الإسرائيلي يتعمد استهداف النساء الفلسطينيات بشكل مباشر وغير مباشر، ما أدى إلى استشهاد الآلاف وإصابة العديد منهن بجروح متفاوتة. وأوضح أن معاناة النساء الحوامل والمرضعات تفاقمت بسبب عدم توفر غذاء متوازن يدعم صحتهن وصحة أجنّتهن.
وأشار فروانة إلى أن النقص الحاد في الإمكانيات الطبية ساهم في زيادة معاناة النساء الحوامل، حيث أدى إلى حالات إجهاض ونزيف داخلي، وأوضح أن الأطباء غالبًا ما يجدون أنفسهم في معضلة إنقاذ حياة الأم أو الطفل، مؤكدًا أن الأولوية تُمنح عادةً لإنقاذ حياة الأم في ظل الظروف الصعبة، مع استحالة إنقاذهما معًا في كثير من الأحيان.
وأكد فروانة أن نقص الكوادر الطبية أثّر سلبًا على النظام الصحي، حيث اضطر بعض الأطباء إلى البقاء مع عائلاتهم، مشيرًا إلى أن بعضهم كان له عذر في ذلك، بينما تخلى آخرون عن مسؤولياتهم المهنية التي تفرض عليهم البقاء لخدمة المرضى والمصابين.
واتهم فروانة الاحتلال الإسرائيلي بالسعي الممنهج لتقويض النسل الفلسطيني من خلال قتل النساء، وهي سياسة وصفها بأنها مستمرة منذ الحروب السابقة، لكنه أكد فشل الاحتلال في كسر إرادة الشعب الفلسطيني الصامد.
وأضاف أن النساء الفلسطينيات يعانين من فقر الدم الناتج عن سوء التغذية، ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الإجهاض، خاصة في الأشهر الأولى من الحمل. ورغم ذلك، أشار إلى جهود الكوادر الطبية التي تسعى لتوفير الدعم النفسي للنساء من خلال برامج مجتمعية ودينية تعزز صمودهن وتدعم تقبلهن لقضاء الله.
وانتقد فروانة مؤسسات حقوق الإنسان الدولية، واصفًا إياها بأنها قادرة على حماية الحيوانات، لكنها تقف عاجزة عن إنصاف المرأة الفلسطينية. وختامًا دعا النساء الفلسطينيات إلى الصبر والثبات، مؤكدًا أنهن يشكّلن الركيزة الأساسية للمجتمع الفلسطيني ولا يمكن الاستغناء عن دورهن المحوري.
تقول الأخصائية النفسية والاجتماعية عبير العطوانة إن الحرب تركت آثارًا عميقة على المجتمع الفلسطيني، حيث أثرت النزاعات المتكررة والنزوح المستمر على جميع جوانب الحياة النفسية والاجتماعية والاقتصادية. وأشارت إلى أن غياب الاستقرار نتيجة التنقل المستمر بين بيئات مختلفة زاد من معاناة الأسر، خاصة الأطفال الذين فقدوا قدرتهم على تكوين علاقات مستقرة مع أقرانهم، في ظل عجز الوالدين عن تلبية الاحتياجات الأساسية.
وأضافت العطوانة أن الأمهات يواجهن صعوبات بالغة في تربية أطفالهن، مع فرض ظروف التشرد عادات تربوية جديدة وغريبة، بينما يستمر العبء النفسي في تصاعد، خاصة مع مشاهد العنف التي حفرت ذكريات مؤلمة في أذهان الأطفال، وحوّلت طفولتهم إلى مرحلة نضج مبكرة بسبب مشاهد الدمار وانعدام مظاهر الحياة الطبيعية من غذاء وكهرباء، أو حتى أماكن ترفيهية.
ورغم هذه التحديات، لفتت العطوانة إلى مظهر إيجابي برز في صمود الشعب الفلسطيني وتماسكه المجتمعي، فالتكافل يظهر جليًا في الأوقات الصعبة، سواء من خلال تقاسم الموارد أم الدعم المتبادل، كما لم تغب المناسبات السعيدة وسط الحرب، حيث تستمر حفلات الزفاف البسيطة بدعم الجيران والأقارب، ما يعزز الروابط الاجتماعية ويخفف من وطأة الألم.
وشددت على أهمية دور الأخصائيين النفسيين في دعم جميع فئات المجتمع، من السيدات والأطفال إلى الرجال الذين يبذلون قصارى جهدهم لتوفير لقمة العيش لأسرهم، مشيرة إلى أن تعزيز الدعم النفسي والاجتماعي هو المفتاح لمواجهة الأزمات وتحقيق التوازن.
إحصائيات مروعة
أعلنت وزارة الصحة بقطاع غزة، في أحدث بيان لها، ارتفاع حصيلة ضحايا حرب الإبادة إلى “47 ألفًا و283 شهيدًا” منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 حتى 19 يناير/كانون الثاني الجاري، كما ذكر مسؤول في وزارة الصحة الفلسطينية بقطاع غزة، أن إجمالي عدد الأطفال الفلسطينيين الذين يتمتهم حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في القطاع خلال 16 شهرًا، تجاوز 38 ألفًا، فيما ترمّلت نحو 14 ألف امرأة.
وقال مدير وحدة المعلومات بوزارة الصحة في غزة لوكالة الأناضول، إنّ حرب الإبادة الإسرائيلية تسببت بفقدان 32 ألفًا و152 طفلًا لآبائهم و4 آلاف و417 آخرين أمهاتهم، فيما فقد 1.918 طفلًا كلا والديه.
واستهدفت “إسرائيل” 50% من المستشفيات في القطاع وتوقف 34 من أصل 38 مشفى عن الخدمة بالكامل خلال حرب الإبادة الجماعية، كما استهدف الاحتلال أكثر من 100 فريق إسعاف واعتقل 2260 من الطواقم الطبية.
على الرغم من قسوة الحرب وشراسة السياسات الإسرائيلية، يبقى الشعب الفلسطيني رمزًا للصمود، فكل طفل يولد في غزة هو شهادة على فشل الاحتلال في كسر إرادة الشعب الفلسطيني، وبينما يسعى الاحتلال إلى محو الهوية الفلسطينية، تستمر غزة في إنجاب أجيال جديدة تحمل حلم العودة والحرية.
يبقى سؤال العدالة مطروحًا أمام العالم: هل ستبقى هذه السياسات بلا عقاب؟ وهل ستستمر غزة في دفع ثمن الصمت الدولي؟