تعدّ سرقة البيانات وتوظيفها في وقتنا الحاليّ من أبرز الخطط الناجحة للتأثير على الرأي العام وإدارة التوجهات والرؤى والمواقف والدعاية للأجندات وترسيخ البروباغاندا بأشكال جديدة لم تكن مطروحة بهذا الوضوح والانتشار من قبل. ومع ظهور فضيحة تعاون شركتيّ “كامبردج أتلانتيكا” وفيسبوك العام الماضي والذي حصلت الأولى بموجبه على معلومات وبيانات ملايين من مستخدمي الشبكة الاجتماعية بهدف تحليلها لفهم سلوك المستخدمين وتوجيه محتوى معين لهذه الفئة والتأثير عليها لجرها لاتخاذ مواقف محددة أو لتجاهل قضايا يراد أن يتم تجاهلها، كان من بينها على سبيل المثال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتصويت في حملات انتخابية في أكثر من مكان حول العالم.
القضية التي دفعت المخرجان كريم عامر وجيهان نجيم للعمل على فيلم وثائقي بعنوان الاختراق الكبير “The Great Hack”، طرحته شبكة نتفليكس الشهيرة في 24 من يوليو ليسلّط الضوء على الطريقة التي اتبعتها الشركة لتحقيق أهدافها والتأثير على 87 ألف أمريكي من خلال كشف حقائق ومقابلات مع خبراء وصحفيين وموظفين سابقين في الشركة، كما ركز الفيلم على 3 شخصيات أثرت عليهم القضية بشكل شخصيّ، وهم ديفيد كارول وهو أستاذ جامعيّ أقام دعوى قضائية ضد الشركة لاسترداد بياناته التي اشترتها من منصة فيسبوك دون علمه، وقد أدت هذه الحادثة إلى تغيير علاقته بالتكنولوجيا ومجال تخصصه إلى الأبد.
أما الشخصية الثانية فهي بريتاني كايزر الموظفة التي فضحت أعمال الشركة وقالت إن دافعها من العمل مع شركة تعمل بطريقة غير قانونية كان الحصول على المال الوفير، بالإضافة إلى صحفية في جريدة الغارديان البريطانية كارول كادوالادر التي عملت على كشف حقيقة الشركة وكانت أحد الأطراف المؤثرة في القصة رغم تعرضها للإساءة جراء كتابتها عن القضية.
كيف تعمل شركة كامبردج ومثيلاتها؟
تعود أحداث القضية إلى بداية عام 2018 عندما أبلغ كريستوفر ويلي، مستشار بيانات عمل سابقًا مع شركة كامبريدج، صحيفتيّ نيويورك تايمز والغارديان عن شركة تدعى “كامبريدج أناليتيكا” اشترت بيانات الآلاف من الأمريكيين دون علمهم من شركة فيسبوك لبناء “أداة حرب نفسية” ضد المستخدمين بأخذ 5000 معلومة عن 30 ألف أمريكي وتصنيفها حسب الفئة العمرية والمكان الجغرافي لاستهدافهم بمحتوى ضد الناخبين الأمريكيين وتوجيههم لانتخاب دونالد ترامب رئيسًا.
ولكن قبيل اندلاع الأخبار، كان فيسبوك قد حظر بالفعل حسابات الشركة والشركة الأم SCL، وألكسندر كوغان الباحث الذي قام بجمع البيانات من المنصة، إلا أنه كان قد تأخر كثيرًا ولم يستطع كبح جماح غضب المستخدمين والمدافعين عن الخصوصية الذين عرفوا بالأمر بعد إعلان كريستوفر، فبدأت أسهم شركة فيسبوك بالانخفاض سريعًا واستدعي مارك زوكربيرغ للإدلاء بشهادته أمام الكونغرس الأمريكي، ليبدأ عام طويل من المناقشات الدولية بشأن حقوق الخصوصية للمستهلكين عبر الإنترنت.
مارك زوكربيرغ أمام الكونغرس الأمريكي
وحسب ما جاء في الفيلم فإن للشركة انتهاكات خصوصية كبيرة ومتكررة في عدة أشكال، فقد عملت على مشاريع في عدة بلدان من بينها الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، ودفعت الناس للتصويت لصالحه، وإدارة حملة أنشأتها عبر صفحات وهمية في مواقع مختلفة من بينها فيسبوك لدفع الشباب الكاريبي لمقاطعة الانتخابات المحلية والتسبب بفوز الحزب اليميني.
كما ساهمت في نشر وتسويق منشورات تحمل كراهية عنصرية أدت إلى مجازر عرقية في ميانمار، وغيرها الكثير من الأمثلة المدعومة بأدلة وشواهد تدفعنا للتساؤل عن مدى تأثير أعمال هذا النوع من الشركات التي تعتمد طبيعة عملها على بياناتنا التي نضيفها مجبرين في شبكات التواصل الاجتماعي، وكيف ستعمل في المستقبل بعد أن تم كشف مخططاتها.
عمق تأثير مواقع التواصل الاجتماعي
تأتي هذه الفضيحة -التي أطاحت بمدى مصداقية الخصوصية المدعاة من ملّاك شركات مواقع التواصل الاجتماعي- لتضع مسألة سرقة البيانات واستخدامها في تحليل سلوكيات الأفراد ولتناقش مخاطرها وكيفية عملها من المختصين في مجال تحليل البيانات والمدافعين عن حقوق الإنسان.
بالإضافة إلى تعاون شركات التواصل الاجتماعي التي من المفترض أن لها حدودًا وقوانين حماية لا يمكن تجاوزها، بينما هي الآن تخالف القوانين وتتعدى على الحريات والخصوصية وتتدخل في مسائل كبيرة فاصلة كالسياسة، من بينها ما جاءت على ذكره في الفيلم الصحفية كارول من أن الحكومة الروسية استخدمت أدوات الفيسبوك لتحريض الأمريكيين السود ضد البيض بهدف إشعال الفتنة بين الفئتين من خلال تطبيق صور هزلية مزيفة عن السود، وتحويل بيانات وتحليلها لتعود بها على المستخدم بصورة رسائل مستهدفة لتغير من تصرفاته.
وقد قالت كايزر، الموظفة السابقة في شركة كامبردج، من ضمن المعلومات التي كشفت عنها للفيلم بأن هذه هي الطريقة ذاتها التي اتبعتها الشركة في التحريض ضد هيلاري كلينتون، عام 2016 لمنعها من الوصول إلى الحكم عبر الانتخابات، مما يقودنا للتفكير بالدور الذي بدأت به مواقع التواصل الاجتماعي بلعب دور خطير في مجالات أكبر مما هي مصممة لتكون عليه.
انتهت قضية شركة “كامبريدج أناليتيكا” بإغلاقها في مايو 2018 بعد أن عرف الناس كيف انتهى الأمر بانتخاب الرئيس دونالد ترامب وعمق التأثير الذي تصنعه شركات التواصل الاجتماعي ببيعها بيانات الأفراد والمتاجرة بهم كسلعة غالية الثمن مقابل ملايين الدولارات بتجاوزها القوانين والتعدي على الحريات بالإضافة إلى مساعدتها في صعود حكومات سلطوية لسدة الحكم مستخدمة سياسة التخويف والسيطرة من خلال هذه المنصات الاستغلالية، ما حدا بالصحفية كادوالادر، إلى نعت شركات التكنولوجيا الضخمة بالمجرمين الرقميين الذين تجب محاسبتهم.