ترجمة وتحرير: نون بوست
على الرغم من تباطؤ اقتصاد الصين، إلا أن قوّة جيشها لا تزال في تزايد. وبعد سنوات من الإنفاق العسكري الكبير الذي دعمه النمو الاقتصادي العالي، ظهرت النتائج في شكل تقنيات جديدة، إلى جانب تأكيد الصين لذاتها، كما حققت بكين خطوات واضحة في قدراتها في مجال الدفاع الجوي والبحري والصاروخي. ومن خلال مطالبة الصين بالاستحواذ على مناطق إقليمية في بحر الصين الجنوبي أو فتح أول قاعدة عسكرية خارجيّة في جيبوتي، شرعت الصين في فرض نفوذها العسكري بالقرب من المناطق الخارجيّة وما تجاوزها.
كيف تنظر روسيا إلى هذا التطور؟ على الرغم من تعزيز موسكو وبكين لتعاونهما في جميع المجالات، يحذّر العديد من الخبراء الغربيين من أن القوة العسكرية المتنامية للصين ستصبح مصدرا للتوترات بين البلدين على نحو متزايد. وفي هذا السياق، تحدّثت مجلّة “ناشيونال انترست” مع العديد من محللي الدفاع الروس والعلماء الصينيين لفهم وجهة نظر روسيا حول النهضة العسكرية للصين بشكل أفضل.
في هذا الشأن قال الأستاذ في الجامعة الروسيّة لصداقة الشعوب، يوري تافروفسكي: “في الوقت الراهن، تتماشى مصالحنا الوطنية مع المصالح الوطنية الصينيّة، وبالتالي لا يخيف تطوير القوات المسلحة والتكنولوجيا العسكرية في الصين القيادة العسكرية والسياسية لروسيا”.
قال الباحث الصيني في المدرسة العليا للاقتصاد ألكساندر لوكين، إذ صرّح لي: “أعتقد أن الكرملين يعلم أن الصين قد تشكّل تهديدا في يوم ما، لكن في الوقت الراهن، تظلّ هذه المخاوف أقل بكثير من تلك المتعلقة بالغرب”
في المقابل، اعترف تافروفسكي بأنه كان هناك القليل الخوف في موسكو بشأن الحشد العسكري الصيني. وأضاف تافروفسكي قائلا: “نحن نراقب على المدى البعيد نجاح الصين ولا نستبعد أي سيناريو ممكن لأننا نتذكر كيف تغيرت سياسة بكين الخارجية منذ الخمسينيات إلى غاية فترة الإصلاح في عهد دنغ شياوبنغ”.
من جهة أخرى، عبّر الباحث الصيني في المدرسة العليا للاقتصاد ألكساندر لوكين عن شعور مماثل، إذ صرّح لي: “أعتقد أن الكرملين يعلم أن الصين قد تشكّل تهديدا في يوم ما، لكن في الوقت الراهن، تظلّ هذه المخاوف أقل بكثير من تلك المتعلقة بالغرب”. وأضاف لوكين قائلا: “من الناحية النظرية، في حال كانت العلاقات مع الغرب أفضل، فمن المحتمل أن يختلف النهج المتّبع تجاه الصين. لكن بما أن العلاقات لا تشهد أي تحسّن ومن غير المرجح أن تتحسن أيضا، فإن الميول نحو تحقيق تعاون أوثق مع الصين سيستمر”.
عموما، لا يظنّ المحللون الروس، الذين تحدثوا إلى “ناشيونال انترست”، أن الحشد العسكري الصيني يمثّل تهديدا مباشرا. وفي هذا الصدد، أخبرني رئيس تحرير مجلة “آرسنال أوف ذا فاذرلاند”، فيكتور موراكوفسكي، أن جهود بكين كانت موجهة بوضوح نحو واشنطن وليس موسكو. وذكر موراكوفسكي أنه “من وجهة نظر جغرافيّة استراتيجيّة، لا تهتم الصين بالتوسع في اتجاه روسيا ولكنّها تبدي اهتماما واضحا للغاية بضمان أمنها في بحر الصين الجنوبي وفي منطقة المحيط الهادئ”.
في الواقع، ساهمت الرغبة المشتركة لكل من روسيا والصين في موازنة الولايات المتحدة في التأثير على وجهة نظر الخبراء الذين تحدثت معهم “ناشيونال إنترست” فيما يتعلّق بالقوة العسكرية الجديدة للصين. علاوة على ذلك، اعتقد البعض أن هذه القوّة قد تكون نعمة محتملة لموسكو. وفي هذا الإطار، أوضح تافروفسكي أن روسيا تستفيد في الواقع من الصين القوية التي يمكنها مواجهة الولايات المتحدة بشكل أكثر فعالية.
يعترف لوكين بأنه من خلال مصالحها الاقتصادية العالمية المتنامية، من المرجح أن تعتمد الصين بشكل متزايد على القوة العسكرية لحماية تلك المصالح
من جانبه، أفاد تافروفسكي قائلا: “لقد كان الوضع مختلفا عندما كانت روسيا هي الخصم الاستراتيجي الوحيد للغرب. ولكن اليوم وبعد أن أصبحت استراتيجية الدفاع الوطني للولايات المتحدة تركّز على خصمين اثنين، فإن كل موارد الولايات المتّحدة والغرب تنقسم بين الصين وروسيا”. ومن جانبه، أشار تافروفسكي إلى أن تركيز الولايات المتحدة المتزايد على احتواء الصين “يقلل إلى حدّ ما من الضغط المسلّط على روسيا”. ويشعر عدد متزايد من صناع السياسة والمحللين في واشنطن بالقلق إزاء طموحات بكين العسكرية العالمية. في المقابل، يصف الناس في موسكو الصين بأنها قوة عسكرية محافظة ومسؤولة.
فضلا عن ذلك، صرّح لي لوكين قائلا: “تتصرّف الصين حتى الآن بطريقة مقيدة للغاية”، وأضاف أيضا أنه بفضل مواردها المالية الحالية، كان باستطاعة بكين أن تحظى اليوم بالعديد من القواعد الخارجية إذا ما أرادت ذلك. وبما أن البصمة العسكرية العالمية للصين لا تزال صغيرة، فيعد ذلك بمثابة دليل بالنسبة للوكين يشير إلى أن الصينيين “أكثر اهتماما بحل المشكلات الاقتصادية” عوضا عن توسيع نفوذهم العسكري في الخارج.
بالإضافة إلى ذلك، يعترف لوكين بأنه من خلال مصالحها الاقتصادية العالمية المتنامية، من المرجح أن تعتمد الصين بشكل متزايد على القوة العسكرية لحماية تلك المصالح. في المقابل، أكد لوكين أنه “حتى في حال زادت الصين من أنشطتها العسكرية، فسيستغرق الأمر مئة سنة حتى تتمكن من مقارنتها بقوّة الولايات المتحدة”.
علاوة على ذلك، أوضح لوكين أنه على الرغم من أن الصين أصبحت أكثر نشاطًا عسكريًا، إلا أنها أقل تهديدًا بالنسبة لروسيا مقارنة مع الغرب لأن سياسة بكين الخارجية تعتمد أيديولوجيّة أقلّ شأنا من واشنطن. وفي هذا السياق، قال لوكين: “نعلم أن الولايات المتحدة تقصف دولًا أخرى لأنها لا تحبهم، وتسعى لنشر الديمقراطية في جميع أنحاء العالم. لكنّ الصين لا تريد فرض الكونفوشيوسية أو الشيوعية في روسيا”.
في الواقع، لعبت روسيا دورا أساسيا في المساعدة في تجهيز القوات المسلحة الصينية الجديدة. ووفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام، كانت الصين أكبر مشترٍ للأسلحة من روسيا بين سنة 1999 و2006، حيث حظيت الصين بقرابة 60 بالمئة من صادرات الأسلحة الروسية في سنة 2005. ولكن على مدى السنوات اللاحقة، انخفضت حصة الصين من مبيعات الأسلحة الروسية بشكل كبير، وبلغت بحلول سنة 2012، قرابة 8.7 بالمئة.
انتعشت تجارة الأسلحة بين روسيا والصين إلى حد ما خلال السنوات الأخيرة. وفي سنة 2015، حصلت موسكو على صفقة لتزويد بكين بنظام إس-400 تريومف المضاد للطائرات وطائرات مقاتلة طراز سوخوي سو-35
يُعتبر القلق الروسي المتزايد حول الهندسة العكسية الصينية السبب الرئيسي وراء هذا الانخفاض السريع. فعلى سبيل المثال، خلال التسعينيات، باعت موسكو لبكين مجموعة طائرات مقاتلة من طراز سوخوي سو-27 ومنحت الصين في وقت لاحق ترخيصا لتركيبهم محليا. لكن الصين ألغت هذا العقد في وقت لاحق واستخدمت المعرفة التقنية التي اكتسبتها من تركيب طائرات سوخوي سو-27 بغية الشروع في تصنيع طائراتها المقاتلة شنيانغ جيه -11، التي تُعد تقريبا نسخة طِبقا للأصل من الطائرة الروسية.
في الواقع، انتعشت تجارة الأسلحة بين روسيا والصين إلى حد ما خلال السنوات الأخيرة. وفي سنة 2015، حصلت موسكو على صفقة لتزويد بكين بنظام إس-400 تريومف المضاد للطائرات وطائرات مقاتلة طراز سوخوي سو-35، التي تُعد من أكثر الأسلحة تطورا في روسيا. وتفيد التقارير أن روسيا مهتمة أيضا ببيع مقاتلات الجيل الخامس الجديدة “سوخوي سو-57” للصين.
تمتلك موسكو رؤية واضحة حول الهندسة العكسية للأسلحة الروسية المستقبلية. وقد اعترف فاديم كوزيولين، مدير المشروع الأمني الآسيوي في مركز بير للدراسات المتعلقة بالسياسات في موسكو، قائلا: “عندما نعقد صفقات مع الصين، نضع في اعتبارنا دائما أن الصين ترغب أولا وقبل كل شيء في تقليد أسلحتنا”. وأضاف كوزيولين: “إن الروس واعون بهذا التهديد، لكن الأدوات اللازمة للتصدي لهذا الأمر ليست كثيرة”.
إذن، ما الذي يفسر التغير المفاجئ في سياسة موسكو في تجارة الأسلحة؟ وفقا لما قاله لوكين، إن التداعيات السياسية لضم روسيا لشبه جزيرة القرم سنة 2014 لدى الغرب جعلت الكرملين أكثر استعدادا لقبول بعض التكاليف الناجمة عن التعاون الوثيق مع الصين. وفي هذا الصدد، صرح لوكين قائلا إن “ما تقوم به الحكومة الروسية يوضح لنا عدم امتلاكنا لأي خيار آخر سوى التقرب من الصين”.
اعترف جميع الخبراء الروس الذين أُجريت معهم مقابلات بأن بكين قد تفوقت بالفعل على موسكو في مجالات معينة
في الوقت نفسه، يثق المحللون الروس بشكل متزايد في قدرة بلادهم على الحفاظ على تفوقها المبتكر في التكنولوجيا العسكرية. وقد أخبرني تافروفسكي أن الهندسة العكسية الصينية أصبحت لا تشكل خطرا في الوقت الراهن مقارنة بما كانت عليه في التسعينيات نظرا لأن الوضع تغير وأضحت “صناعة الدفاع الروسية والبحوث العسكرية اليوم تتلقى تمويلا كافيا من الحكومة”. وأوضح تافروفسكي أن المجمع الصناعي العسكري الروسي “يشعر الآن بثقة تامة” و”يبيع الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية المتقدمة إلى الصين تحت فرضية أن بُنية الأسلحة التي تُصنّعها روسيا لنفسها أكثر تقدما من تلك التي نبيعها إلى الصين ودول أخرى”. كما يتوقع موراكوفسكي أن تظل صناعة الدفاع الروسية قادرة على المنافسة بشدة ضد نظيرتها الصينية.
وأضاف موراكوفسكي قائلا: “عندما يتحدثون [عن الصين]، يعتبرون أنها دولة عملاقة تتضمن عددا هائلا من السكان وتحظى باقتصاد عظيم وجيش قوي على نحو متزايد، وهو أمر صحيح. لكن عندما يقزّمون من حجمنا ويعتبروننا بائسين واقفين إلى صفهم ونطلب منهم أن يبيعوا لنا بعض التكنولوجيا العسكرية، فلا صحة لهذا الأمر”. وفي هذا الإطار، أضاف موراكوفسكي: “لن تتفوق الصين على روسيا في تطوير الأنظمة العسكرية الرئيسية، نظرا لأننا نمتلك قدرة عسكرية تقنية هائلة، يتم تحديثها باستمرار ونتطلع إلى المستقبل بثقة”.
في الوقت نفسه، اعترف جميع الخبراء الروس الذين أُجريت معهم مقابلات أيضا بأن بكين قد تفوقت بالفعل على موسكو في مجالات معينة. وقد شملت بعض الأمثلة التي ذكروها تطوير تطبيق عسكري للذكاء الاصطناعي وبناء السفن وصنع الطائرات دون طيار وبداية تصنيع الصواريخ الباليستية المضادة للناقلات.
في المستقبل القريب، قد تكون الصين الجهة التي تبيع الأسلحة لروسيا. وفي هذا السياق، أخبرني موراكوفسكي أنه يعتقد أن “شراء أنواع معينة من الأسلحة من الصين، سيكون مفيدا للغاية لكلا البلدين”. ويرحب بشكل خاص باحتمالية قيام روسيا بشراء طائرات دون طيارات أو سفن صينية.
على الرغم من أن روسيا تمتلك تحفظات على تداعيات القوة العسكرية الجديدة للصين وسجلها في الهندسة العكسية للتقنيات الأجنبية، إلا أنها مهتمة للغاية بتشكيل جبهة موحدة مع بكين لموازنة نفوذها مع الغرب
في هذا الصدد، قال موراكوفسكي إن “الصين قوية في مجال بناء السفن، وهم من يصنعون فُرقاطاتهم ومُدمراتهم، مثلما يُصنع الكعك الساخن على الموقد، وينتجون العديد من هذه المركبات في السنة ويخرجونها إلى البحر. ومن الممكن تماما طلب هياكل سفننا المستقبلية من الصين نظرا لأن التجربة التي خاضتها موسكو في بناء السفن تكشف مدى بُطئنا في هذه الصناعة”.
لذلك، تحاول الجارة الشمالية للصين تحقيق استفادة قُصوى من تقدم بكين في هذا المجال. وعلى الرغم من أن روسيا تمتلك تحفظات على تداعيات القوة العسكرية الجديدة للصين وسجلها في الهندسة العكسية للتقنيات الأجنبية، إلا أنها مهتمة للغاية بتشكيل جبهة موحدة مع بكين لموازنة نفوذها مع الغرب. ويبقى السؤال الوحيد المطروح: هل سيتواصل هذا الأمر على المدى الطويل؟
المصدر: ناشيونال إنترست