“كيف الحياة هناك؟”، يسأل الصائغ المتسمر أمام محله بينما تهز يداه كأس شاي تركي، “الحياة كريهة، مثل أي مكان إذا كنت مفلسًا” يجيب سنان العائد لتوه إلى قريته بعد انتهاء دراسته في جامعة (تشاناكالي)، يُستكمل الحوار ليعلم سنان أمرين يخصَّان أباه، لا يزال كما تركه، رجلًا غارقًا بديون لا يسددها، ولا يتخلى عن كلبه ولو دفعوا فيه الملايين.
هكذا يستهل التركي نوري جيلان تحفته السينمائية الأخيرة (شجرة الكمثرى البرية)، مشكلةً امتدادًا لأفلامه السابقة في الاقتراب من الريف التركي وبناه الاجتماعية وثقافة حياته والأدب عنه، وأولًا وقبل كل شيء، أهله الذين لا يشبهون شيئًا عند جيلان مثلما يشبهون شجرة الكمثرى البرية، لا شكل لها وطعمها مر.
يركز المخرج التركي في فيلمه الممتد لثلاث ساعات ونيف على علاقة الابن بالأب، عبر قصة شاب تخرج لتوه وعاد لقريته في الريف التركي، حاملًا معه شهادةً جامعية ومسودة كتاب أدبي، يبدأ فور عودته في البحث عن مصدر تمويل لنشره.
شكلت رحلة سنان لنشر كتابه خطًا رسم جيلان على طوله رؤى وصراعات الفيلم، التي يقع في القلب منها صراع سنان مع نفسه ووالده الذي يخاف أن يصيره، خوف تكشّف في حوار سنان مع أحد الكتّاب المحليين، حين يبدي له سنان قلقًا وكرهًا من عُبَّاد الكتابة، أولئك الذين يسميهم “المبشرين الثقافيين” الذين يرددون دائمًا أنهم سيموتون إن لم يتمكنوا يومًا من الكتابة، كان ذلك خوفًا يتلبس سنان من أن يمضي درب أبيه، أن تنسيه الكتابة عائلته وأصدقائه، بل ويستغلهم إن لزم الأمر.
وإن كانت الكتابة عند سنان، فإنه القمار عند إدريس أبيه، المعلم القروي الذي خسر بيته وسيارته وعلاقته على مراهنات الخيول وقسائم اليانصيب. نعرف لاحقًا، أنه لم يكن خوفًا فقط، بل كان استعدادًا نفسيًا أو تبريرًا يقدمه سنان لنفسه، الذي سيستغل عائلته من أجل الكتابة، عندما يبيع كلب صيد أبيه سرًا بغية تحصيل أموال تكفي لنشر كتابه. يبيع سنان الكائن الوحيد الذي لا يحكم على إدريس، ليقضي بعدها ليالي يبكي في قبو البيت من أجل كلبه.
سنان الحانق على والده والشاعر بالخذلان منه، نراه في أحد حوارات الفيلم يُقدم تفسيرًا فلسفيًا لأفعال والده، هو تبرير في ذات الوقت، يقتبس من نيتشه ويلتقي مع أبو ليلى المقاتل الفلسطيني في المسلسل السوري “غدًا نلتقي” لكاتبه إياد أبو الشامات، إذ يصف مشاعره خلال حرب لبنان عام 1982، بالقمار، عند أبو ليلى، يُدمن المقاتل والمقامر على حد سواء ذات مشاعر الخوف والخطر، وتنتهي الحرب واللعبة، ويجد كلاهما نفسه ضائعًا، غير قادر على العيش، الزمن لا قيمة له عند كليهما، وهما بلا قيمة عند الزمن، حينها يبدأ كلاهما بالبحث عما يُرجع لهما تدفق الدم في الرأس، ولا يكون ذلك إلا في لعبة جديدة مع سخرية القدر وعبثية الحياة.
نفهم بعد ذلك، أن والد سنان كان يشبهه تمامًا في شبابه، بينما كان يتحدث الكل عن المال ويحسب ممتلكاته، كان إدريس يتحدث عن رائحة الأرض والحملان ولون الحقول، لكنها الحياة الكريهة لا تترك أحدًا وشأنه، ولا يكون أمام إدريس لمواجهة الألم الراقد في صدره والوحدة التي تعج بها تخوم حياته إلا ثورة على عبثية الحياة، والنتيجة غير مهمة بالنسبة، لإدريس، الأستاذ الخاسر، كما كانوا يلقبونه.
بُنيت شخصية إدريس التي جسدها مراد جمجير بإتقان، على مذكرات أكين أكسو – كاتب السيناريو الرئيس – عن طفولته ووالده وعلاقته به، أفصح جيلان لاحقًا في أحد اللقاءات أن شخصية إدريس في الفيلم بها “شيء حزين من والده”، وإلى جانب أكسو شارك كل من جيلان وزوجته إبرو جيلان في كتابة السيناريو، الذي كثفت حواراته على الرغم من استطالتها وحصرت أحداثه الدرامية، وهو ما اعتبره كل من مراد جمجير وأيدين دوغو ديميركول الذي لعب دور سنان، أمرًا زاد أداء دورهما تعقيدًا.
بالطبع، من الصعوبة بمكان أن تؤثث فيلمًا يتجاوز الثلاث ساعات على حوارات فقط، وتُعول عليها في إيصال الصراعات إلى حدتها وذروتها، ولكن نجح جيلان في ذلك، ساعده في ذلك الكتابة الأدبية المتقنة التي حضر فيها اقتباسات من أعمالٍ عالمية.
حوارات الفيلم الطويلة والحادة حضر سنان فيها جميعًا بلسانه اللاذع وكلماته الساخرة ونظرته التشاؤمية للعالم، بدايةً من حواره مع صديقته السابقة خديجة عن الرأسمالية وصناعة النماذج الحداثية، تُخبره خديجة صديقته التي عاد ليجدها تتجهز للزواج من صائغ خمسيني، عن توقها لحياة المدينة التي استقت معرفتها عنها من صور التلفاز وأفواه الناس، تتوق الفتاة الريفية لشوارع مدينة مزدحمة مضاءة، تلال تلعب بها الرياح، طعام لطيف، سفن تبحر بعيدًا، أمسيات الصيف، العشق، السُكْر، والتبلل تحت المطر، وسنان العائد من هناك، يخبرها بكل برود بألا شيء مميز في ذلك، فراغ فقط يستوطن كل شيء، إن كان بالإمكان رؤية شيء، فذلك لا يعني القدرة على لمسه.
ومرورًا بأحاديث السياسة التي لا تغيب عن أفلام جيلان، حين يتوجه سنان في أولى خطوات جمع تمويلٍ لنشر كتابه إلى رئيس البلدية ويعود خائبًا من هناك، بعد خوض الاثنين حوارًا مطولًا حادًا يكون فرصة يوجه فيها جيلان نقدًا لاذعًا لسياسات الدولة التركية وبيروقراطيتها.
نقد ماركسي اجتماعي آخر نراه في مكالمة هاتفية تجري بين سنان وأحد أصدقائه الذي كان من المفترض أن يكون مربيًا للأطفال، ولكن عدم اجتيازه لامتحان التوظيف يضطره للعمل في الشرطة، تأخذ المكالمة حديثًا ساخر الطابع، عن ضرب صديقه لأحد اليسارين الأتراك خلال قمعهم لمظاهرة في إحدى المدن، في ذات المكالمة يعيد سنان تعبيره عن خوفه من “التعفن” في قريةً تمنى لو كان ديكتاتورًا ليُسقط قنبلة ذرية عليها.
ومن السياسة إلى الدين والفلسفة، يخوض سنان حوارًا طويلًا آخر مع إمام قريته فيصل الذي لعب دوره كاتب السيناريو الرئيس أكين أكسو، يُفتتح الحوار بمشهد سرقة الإمام لحبات تفاح برفقة صديقه من إحدى أراضي القرية، الإمام فيصل الذي لا يسدد ديونه، يرى الاحساس بالأمان في الخضوع غير المشروط، فالإيمان عنده رغبة وليس بحثًا عن الحقيقة، على عكس ما يعتقد سنان، يمتد الحوار بين الاثنين ليصل إلى العدالة والأخلاق وعلاقتهما بالإيمان والدين، ولينتهي بحديثٍ عن الروحاني والمقدس في عصر الحداثة.
وعودةً إلى كتاب سنان الذي ينشره بعد أن باع كلب صيد والده دون علمٍ منه، ربما كان ذلك انتقامًا من والده الذي سطا على نقوده لينفقها في محل المراهنات، نقود خصصها سنان لنشر كتابه الذي حمل اسم الفيلم ذاته “شجرة الكمثرى البرية”، جمع بين دفتيه مقالات وقصص قصيرة، تُشكل بمجملها روايةً عن ثقافة الحياة في الريف التركي ولا تخلو من اعترافات حميمة عنه وعن علاقته بأبيه.
يذهب بعدها سنان لأداء الخدمة العسكرية، ويعود منها ليعلم أن كتابه لم يبع نسخةً واحدة، ولا قارئ له إلا والده الذي كان حينها قد تقاعد من عمله واتخذ من غرفةٍ رطبة مليئة بالفئران في قبو منزل والده مسكنًا وملاذًا.
كانت حياة إدريس بالشكل الذي كانت عليه، انتصارًا بالنسبة له، هذا اعترافه لسنان في حوارهما الأخير، الانسحاب في الوقت المناسب انتصار، هكذا فسر الأمر، ربما كانت هذه تعزية هزيمة وسلوان معاناة لا أكثر، في النهاية لم يكن سنان إلا ابن أبيه، وكذا كان أبوه “هامشيون، منعزلون، وغريبو أطوار كشجرة كمثرى برية” يقول سنان في كلمات أخيرة، سبقت موته المتأرجح في غياهب جُب أبيه المسدود.