ترجمة حفصة جودة
يميل الناس إلى تصور الهيمنة الإسرائيلية على الفلسطينيين بشكل أساسي من ناحية حكومية وعسكرية، فصور الجنود ومشرعي الكنيست وسياسيي اليمين المتطرف تخلق هذا التصور، لكن في الحقيقة، القمع الممنهج للفلسطينيين من البحر المتوسط إلى نهر الأردن هو مشروع استعماري مستمر قائم على التعبئة اليومية للمواطنين اليهود، بداية من الحياة الأسرية لنظام التعليم والتجنيد والإعلام وحتى الثقافة الشعبية، فتتعهد “إسرائيل” بإخضاع الفلسطينيين بشكل افتراضي.
هذا الإخضاع ليس أيدولوجيًا فقط بل عاطفيًا أيضًا، فالإسرائيليون متكيفون مع تصور الفلسطينيين بطريقة غير إنسانية، هذا هو سلاح “إسرائيل” السري وليس سلاحها النووي.
الأهداف الصهيونية
قد يتساءل البعض عما إذا كانت تلك الثقافة السياسية قد خرجت عن أخلاقياتها في نقطة ما، أو الأسوأ من ذلك أنها نتيجة مشروع وطني تم تصوره بشكل خاطئ من بدايته، رغم أنني أميل إلى التصور الأخير فإن الفكرة تكمن في مكان آخر.
فالتجسيد الضخم للأهداف الصهيونية العملية بواسطة أغلب الإسرائيليين في الأنشطة اليومية لا يترك مجالًا للشك، أما العمل المهم – وإن كان على الهامش – لـ”التقدميين الإسرائيليين” فلا يمكن أن يحقق التغيير.
يشارك المرء في الأنشطة التقدمية لأنه قد يحقق ولو فوز صغير للمضطهدين وربما بسبب إحساسه بالكرامة المصاحبة لهذا العمل، وقد أظهر “التقدميون الإسرائيليون” هذه القيم لكنهم معًا يفتقرون للعدد والجاذبية اللازمين لتغيير مجتمعهم.
لا بد من إدراك أن التغيير من الداخل ليس أكثر من مجرد أمانيّ، ويجب الدفع نحو التفكير العقلاني لدعم البديل، التغيير من الخارج، هذا لا يعني أن لا ندعم أنشطة “التقدميين الإسرائيليين”، لكن المقصود إدراك سياق عملهم لفهم قيمته وتأثيره المحدود.
تحتفظ “إسرائيل” بشبكة واسعة من العلاقات التجارية والصناعية حول العالم القائمة بشكل أساسي على الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وصناعة الأمن
إن الضغط من الخارج من خلال أعمال سلمية هو هدف حركة المقاطعة وسحب الاستثمار والعقوبات “BDS”، هذ النوع من الضغط الدولي نجح في الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وينجح في “إسرائيل”، وإلا لماذا تستثمر الحكومة الإسرائيلية كل هذا الوقت والمال لمحاربتها؟
تدّعي “إسرائيل” أن الهدف الحقيقي للحركة تدمير “إسرائيل” وهو الادعاء الذي تردد صداه عالميًا، فهي صورة قوية تستغلها “إسرائيل”، لكن هذه الفكرة تستند إلى افتراض أن المجتمع الإسرائيلي هش وفي أزمة مستمرة ويتجه نحو الهاوية، وهو أمر أبعد ما يكون عن الحقيقة.
العلاقات التجارية
مع بداية 2019 احتلت “إسرائيل” المركز الـ17 حسب مؤشر “جلوبال فايرباور” الذي يصنف الدول حسب قدرتها العسكرية، هذه المرتبة تعد إنجازًا غير معتاد لمثل هذا الكيان الصغير، ومع ذلك فقوة “إسرائيل” لا تكمن فقط في قدرتها العسكرية، لكن في استقرار ونمو اقتصادها، فبحسب المؤشرات الاقتصادية “Trading Economics” ارتفع متوسط إجمالي الناتج المحلي الإسرائيلي بنسبة 4% خلال العقدين الأخيرين وانخفضت معدلات التضخم كما انخفض مؤشر البطالة بنسبة 4%.
تحتفظ “إسرائيل” بشبكة واسعة من العلاقات التجارية والصناعية حول العالم القائمة بشكل أساسي على الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وصناعة الأمن، جانب كبير من هذه القوة مستمد من الأصول الفلسطينية المسروقة وبشكل أساسي – وليس الوحيد – الأرض، التي اعتمدت عليها “إسرائيل” في تأسيس كيانها بداية من عام 1948.
يقول الباحث الفلسطيني الشهير سلمان أبو ستة في بحثه: “وفرت الحقول المهجورة والبساتين وكروم العنب والمنازل والمتاجر والمصانع والشركات ملجأ لنحو 684 ألف مهاجر يهودي استقروا في البلاد منذ عام 1948 وحتى 1951، كما وفرت لهم فرص العمل والإعاشة الاقتصادية”.
عام 1958 كتب الباحث اليهودي الأمريكي دون بيرتز قائلًا: “كانت الممتلكات الفلسطينية المهجورة واحدة من أعظم المساهمات التي جعلت “إسرائيل” دولة صالحة للحياة، ومن الواضح أن القوة الاقتصادية الإسرائيلية مستمدة من الاستخلاص المستمر لهبات الضفة الغربية المحتلة وغزة والقدس الشرقية”.
على الساحة الدولية، تحصل “إسرائيل” على دعم غير مشروط من الولايات المتحدة بينما ترفض أوروبا الدعوات العامة لحظر البضائع الإسرائيلية المصنوعة في الضفة الغربية، تتمتع “إسرائيل” كذلك بالدعم المالي والسياسي للمجتمعات اليهودية القوية في الخارج خاصة القيادة اليهودية الأمريكية التي لها تأثير بارز في السياسة الأمريكية.
الشيكل الإسرائيلي يحمل ملصقات “حرروا فلسطين”
على المستوى الاجتماعي، لا يشعر الإسرائيليون بالخوف من التحديات، بالإضافة إلى ذلك، لا تمتلك “إسرائيل” دستورًا رسميًا يمكن أن يعمل كحاجز في وجه التغيير السياسي، ودون مبالغة في مساهماتها في أجندة الحقوق المدنية، فإن المحكمة العليا الإسرائيلية أظهرت إمكانية للتكيف والمساهمة في التغيير الهيكلي.
بمعنى آخر، بينما لم تملك المحكمة العليا سجلاً للفلسطينيين، فقد سجلت أحكامًا لصالح البشرية والحقوق المدنية بالنسبة للإسرائيليين، هذا يعني أن المحكمة لا تشكل عائقًا أمام عملية التغيير الداخلية في المجتمع اليهودي.
تحول هيكلي
بينما تمتلئ المساحة الثقافية الإسرائيلية برواية الكراهية والخوف الزائف، إلا أنها معدة جيدًا لمواجهة عملية التحول الهيكلي، فمؤسساتها السياسية ليست صلبة، وعملية التغيير فيها تعتمد بشكل أساسي على الإرادة السياسة.
أما من الناحية الاقتصادية، يتضمن التغيير إعادة التوزيع بين الإسرائيليين والفلسطينيين دون فوضى، وليس لدي أوهام بأن عملية التخلص من الاستعمار التي تتضمن التخلي عن الامتيازات ستكون سهلة، لكن البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية الإسرائيلية لن تنهار بمثل هذه العملية التي ستكون مدفوعة بضغط دولي.
وأيًا كان النموذج السياسي الذي سيتم اتباعه – شخصيًا أومن أن الهدف الأفضل هو دولة ديموقراطية واحدة للجميع – وأيًا سيكون اسم الكيان الجديد، فإنه سيحظى بدعم دولي واسع إذا كان التغيير قائمًا على العدالة وعلى مبدأ واحد “شخص واحد، صوت واحد”، وفي عملية الاستشفاء يمكن للإسرائيليين أن يتركوا وراءهم التدريب الاجتماعي الذي يضعهم في خانة الطغاة.
من الممكن أيضًا إنقاذ الهوية اليهودية من القاع المظلم الذي ألقت بها الصهيونية فيه، كما يظهر في صورة رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يؤيد الأحزاب السياسية النازية الجديدة في أوروبا، في الحقيقة، هذا التغيير قد يكون شفاءً لـ”إسرائيل” وليس تدميرًا لها.
المصدر: ميدل إيست آي