لم تستطع لجنة الحوار الوطني والوساطة في الجزائر تحقيق ما كان منتظرًا منها، بعد مرور أسبوع من إعلان تركيبتها، بل إن المؤشرات كلها تصب في خانة تعثر المشاورات التي تنوي القيام بها، خاصة في ظل غموض الوضع وعدم نية السلطة تقديم تنازلات قد تشجع بعض الشخصيات التي وجهت لها الدعوة للالتحاق بالتشكيلة السداسية لإعطائها نوعًا من الثقل السياسي والمصداقية.
وقبل شهر من الدخول الاجتماعي، تتزايد مخاوف الجزائريين مما تخبئه لهم الأيام القادمة بعد قرابة نصف عام من انطلاق الحراك الشعبي المطالب بالتمسك بمطالبه، وتطوير نضاله بتعيين ممثلين عنه لعدم ترك أي أحد ليتكلم باسمه.
انسحاب
لم تصمد تشكيلة لجنة الوساطة والحوار الوطني كثيرًا أمام تعقيد المشهد الجزائري وصعوباته، فيوم الثلاثاء الماضي فضل الخبير الاقتصادي إسماعيل لالماس الانسحاب والاستقالة من اللجنة بحجة عدم وجود رد إيجابي من السلطة على المطالب الشعبية لتهدئة الأوضاع.
الانتكاسة التي تعرض لها عمل لجنة الحوار لم يتوقف عند انسحاب أحد أعضائها فقط، بل إن محاولاتها إعطاء نوع من الثقل السياسي لنفسها بدعوة عدة شخصيات أخرى للانضمام إليها باءت بالفشل
لكن إذا كان انسحاب لالماس قد يمثل ضربة موجعة للجنة السداسية، فإنه عند البعض قد يشكل إنقاذًا لها، الذين رأوا منذ الوهلة الأولى في تعيين الخبير الاقتصادي إعلانًا لانتصار طرف على آخر، خاصة أن الرجل أطلق قبل انضمامه للتشكيلة السداسية تصريحات نارية وصلت حد تخوين من يتحاور مع رئيس الدولة عبد القادر بن صالح.
وفي مسيرة الجمعة الماضية، تعرّض لالماس الذي حرص على النزول ككل أسبوع إلى الشارع للتظاهر، للرفض من بعض الشباب الذين لم يقتنعوا بطرحه ودفعوه لمغادرة الشارع الذي دأب على النزول إليه نهاية كل أسبوع، وهو سلوك استهجنه الكثيرون حتى المختلفين مع الرجل، ودعوا إلى وقف ما يسميه أستاذ علم الاجتماع نور الدين بكيس بـ“ديكتاتورية الحراك”.
لكن الانتكاسة التي تعرض لها عمل لجنة الحوار لم يتوقف عند انسحاب أحد أعضائها فقط، بل إن محاولاتها في إعطاء نوع من الثقل السياسي لنفسها بدعوة عدة شخصيات أخرى للانضمام إليها باءت بالفشل، بعد أن رفضت عدة شخصيات وازنة هذا الطلب، ومنهم المجاهدة جميلة بوحيرد ورئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش والناشط الحقوقي مصطفى بوشاشي.
وتجد اللجنة السداسية اليوم نفسها في وضع صعب، بفقدها كل من كان يمكن أن يشكل سندًا لها، فالسلطة يبدو أنها غير جادة في دعمها للحوار الذي دعت هي بنفسها إليه، أما المعارضة والحراك فيبقيان يرفضان أي مبادرة مستها يد النظام حتى ولو قادها من كانوا إلى الأمس فقط من قادة تظاهرات الشارع والمعبرين عن آرائه.
حدود الجيش
انسحاب إسماعيل لالماس جاء بعد ساعات فقط من تصريح للفريق أحمد قايد صالح قائد الجيش الذي يبدو أن كلامه لم يرق لعضو اللجنة السداسية حتى إن امتنع الرجل عن ذكر المسؤول الأول في المؤسسة العسكرية بالاسم.
كان واضحًا أن الكلام موجه للجنة الوساطة التي اشترطت إطلاق سراح الموقوفين وتخفيف الإجراءات الأمنية في المسيرات
في حفل تكريم أشبال الأمة (التلاميذ المنتسبين لمدارس العسكرية) المتفوقين في شهادتي البكالوريا (الثانوية العامة) والتعليم المتوسط (الإعدادي)، تحدث قايد صالح بإسهاب عن موقف المؤسسة العسكرية التي تبقى أبرز اللاعبين في الأحداث التي تعرفها الجزائر.
واستهل قائد الجيش كلمته بتثمين “الخطوات المقطوعة على درب الحوار الوطني، لا سيما بعد استقبال رئيس الدولة لمجموعة من الشخصيات الوطنية التي ستتولى إدارة هذا الحوار، حيث تعهد بتوفير الإمكانات اللازمة والضرورية لمرافقتها في هذا المسعى النبيل، وتهيئة الظروف الملائمة لتنظيم الانتخابات الرئاسية في أقرب الآجال، ولا مجال للمزيد من تضييع الوقت، فالانتخابات النقطة الأساسية التي ينبغي أن يدور حولها الحوار”.
لكن سرعان ما بيّن قائد الجيش موقفه من الحوار واللجنة السداسية وكل من قد ينضم إليها، فأعلن أن الحوار الذي يباركه يجب أن يكون “بعيدًا عن أسلوب وضع الشروط المسبقة التي تصل إلى حد الإملاءات، فمثل هذه الأساليب والأطروحات مرفوضة شكلاً ومضمونًا”.
وكان واضحًا أن الكلام موجّه للجنة الوساطة التي اشترطت إطلاق الموقوفين وتخفيف الإجراءات الأمنية في المسيرات، إضافة إلى رحيل حكومة الوزير الأول نور الدين بدوي، وهي مطالب وعد رئيس الدولة عبد القادر بن صالح بالنظر فيها والاستجابة لها، ما يعني أن رفضها لا يشكل إحراجًا للجنة فقط إنما حتى لبن صالح الذي لم يتوقف رئيس أركان الجيش عن دعمه دائمًا.
وذهب قائد الأركان بعيدًا في انتقاداته، فوصف لالماس ومن معه بتبني “أفكار العصابة”، في إشارة إلى الفاسدين من رموز نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
البعض قد لا يتفهمون عدم تأييد إطلاق سراح الموقوفين في الحراك حتى ولو كان تحت جرم رفع راية غير العلم الوطني، بالنظر إلى أن الظرف الذي تعيشه البلاد قد يتطلب تقديم بعض التنازلات
وقال قايد صالح: “يجدر بي في هذا المقام الإشارة إلى بعض الأفكار المسمومة التي بثتها العصابة، والمتمثلة في الدعوة إلى إطلاق سراح الموقوفين الموصوفين زورًا وبهتانًا بسجناء الرأي، كتدابير تهدئة حسب زعمهم”.
ولم يغفل قائد الجيش أي مطلب من شروط لجنة الحوار، فوصف مطلبها بتخفيف الإجراءات الأمنية المتخذة على مداخل العاصمة والمدن الكبرى بـ” الدعوة المشبوهة وغير المنطقية”، موضحًا أن هذه التدابير تتخذ “لتأمين المسيرات، وهي في مصلحة الشعب وحماية له وليس العكس”.
وقد تفهم البعض رفض تدخل لجنة الحوار في الجانب الأمني، بالنظر إلى أن التدابير الأمنية التي اتخذت سمحت بأن تجرى عشرات المسيرات في ظروف آمنة دون أن تمسها أي شوائب تخوّف البعض من وقوعها لدى انطلاق الحراك، وكانت فزاعة يتحجج بها نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة لمنع المسيرات في العاصمة.
لكن البعض قد لا يتفهمون عدم تأييد إطلاق الموقوفين في الحراك حتى ولو كان تحت جرم رفع راية غير العلم الوطني، بالنظر إلى أن الظرف الذي تعيشه البلاد قد يتطلب تقديم بعض التنازلات، فمن أجل المصلحة العليا للبلاد يمكن التغاضي عن بعض الجزئيات التي يجب معالجتها في ظروف أخرى غير التي عليها الجزائر اليوم.
إقالة غامضة
خطابات السلطة بالتشبث بروح الدستور الذي رفضت بفزاعته معظم مطالب لجنة الحوار والحراك الشعبي، وفي مقدمتها رحيل الوزير الأول نور الدين بدوي وحكومته قد سقطت في الماء الأربعاء الماضي، بتعيين وزير عدل جديد.
وحسب بيان للرئاسة الجزائرية، فقد عين رئيس الدولة عبد القادر بن صالح بلقاسم زغماتي وزيرًا للعدل حافظًا للأختام، خلفًا لسليمان براهمي الذي أنهيت مهامه.
الأكيد أن إقالة براهمي واستبداله بزغماتي لم يكن سبب اهتمام الجزائريين بهذا التعديل خاصة أن كثيرًا منهم يتفقون على أحقية الوزير الجديد بهذا المنصب
وأضاف بيان الرئاسة “طبقًا لأحكام الدستور، عين رئيس الدولة بلقاسم زغماتي وزيرًا للعدل حافظًا للأختام، وذلك بعد استشارة الوزير الأول”، غير أن المادة 104 من الدستور تقول: “لا يمكن أن تُقال أو تعدّل الحكومة القائمة إبّان حصول المانع لرئيس الجمهوريّة، أو وفاته، أو استقالته، حتّى يَشرَع رئيس الجمهورية الجديد في ممارسة مهامه”.
ويفهم من هذه المادة أن رئيس الدولة المؤقت عبد القادر بن صالح لا يسمح له القانون بإنهاء مهام وزير في الحكومة وتعيين آخر جديد خلفًا له، لأن هذا الحق يملكه رئيس الجمهورية فقط الذي يأتي عبر صندوق الانتخابات.
واختلفت الآراء بشأن إقالة براهمي، بين من ربطها ببطء التحقيقات في قضايا الفساد، والخطأ الذي وقعت فيه محكمة تلمسان عندما ادعت أن وزيرة الثقافة السابقة خليدة تومي في حالة فرار لذلك لم يتم التحقيق معها، في حين أن المعنية لا تزال بالجزائر ولم تغادرها منذ سنة على الأقل، مثلما أكدت لوكالة الأنباء الجزائرية.
وتم تداول أخبار غير مؤكدة على مواقع التواصل الاجتماعي تشير إلى أن سبب إقالة وزير العدل يتعلق بمخالفته لقانون المرور، وضبطه في حالة من اللاوعي.
والأكيد أن إقالة براهمي واستبداله بزغماتي لم يكن سبب اهتمام الجزائريين بهذا التعديل خاصة أن كثيرًا منهم يتفقون على أحقية الوزير الجديد بهذا المنصب، إنما سلوك بن صالح هو ما طرح عدة استفهامات عن دستورية هذا التغيير الوزاري، وكذا عن الحجج التي يقدمها للجنة الحوار بشأن مطلب إقالة وزيره الأول بعد أن كان هو السبب في سقوط ورقة العوائق الدستورية، وهي عوامل تصب كلها في الدفع نحو تعثر الحوار الوطني وإمكانية رمي لجنة الوساطة المنشفة، في حال لم تقدم السلطة تنازلات تشجيعية تجعل الفريق السداسي يؤمن بإمكانية تحقيق الهدف الذي وجد من أجله.