من المحتمل أنك سمعت شخصًا يقول: “الأخ الأكبر يراقبك”، ربما قال ذلك لثنيك عن القيام بشيء لا ينبغي لك القيام به عندما تكون بمفردك وتعتقد أن لا أحد سيعرف، أو ربما قال ذلك ليعني أن الحكومة تراقب مواطنيها بكاميرات المراقبة أو غيرها من الوسائل.
يأتي هذا القول في الأصل من رواية جورج أورويل الديستوبية “1984”، التي تحمل فيها شخصية “الأخ الأكبر” الافتراضية الممثلة في الحكومة التي تراقب جميع جوانب حياة المواطنين وتتحكم فيها، رسالة تحذيرية من معارضة الحكومة وتذكير أفراد المجتمع بأنه تحت المراقبة بشكل دائم، بما في ذلك أفكارهم وسلوكهم، الأمر الذي جعلهم يشعرون بالخوف والترهيب.
ربما تكون تلك هي الحالة التي تنطبق على ما يعيشه المصريون اليوم، حيث يتخوف الكثيرون منهم من استعداد حكومة السيسي لانتهاك حرمتهم وخصوصيتهم بعد موافقة مجلس النواب مؤخرًا على مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد، وسط تساؤلات حول ما إذا كان هذا التشريع سيفتح الباب لمزيد من شرعنة المراقبة والتجسس على المواطنين والتدخلات في حياتهم الخاصة، أم أنه خطوة ضرورية لحماية الأمن العام.
شرعنة التجسس على المصريين
أثير جدل واسع على مدار الأيام القليلة الماضية داخل أروقة البرلمان المصري بعد مناقشة مشروع قانون الإجراءات الجنائية، والموافقة حتى الآن على 102 مادة من أصل 540 تمثل إجمالي مواد المشروع الذي تلاحقه انتقادات بانتهاك حرمة الحياة الخاصة للمصريين وحقوقهم الإنسانية.
وقد لا يبدو ذلك غريبًا بالنظر إلى أن البرلمان، الذي يهيمن عليه أعضاء موالون للحكومة، صادق تلقائيًا مرات عديدة على القوانين التي تقترحها الحكومة، لذلك ليس من المستبعد الموافقة على ما تبقى من مواد مشروع قانون الإجراءات الجنائية المعيب، وهو القانون الذي يجمع القواعد القانونية التي تحدد صور الجريمة، والجزاء المقرر على مخالفتها، وقواعد البحث عن مرتكبها، والتحقيق معه ومحاكمته، وإصدار الحكم عليه وتنفيذه.
- وزير الشؤون النيابية محمود فوزي ممسكًا بالدستور خلال مناقشة مشروع قانون الإجراءات الجنائية بمجلس النواب
ومن بين عشرات المواد التي تم تمريرها دون تعديل، يتضمن القانون مادة تسمح صراحةً بضبط أو مراقبة أو الاطلاع على وسائل الاتصال المختلفة والتنصت على الاجتماعات الخاصة، وسط تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الخطوة ضرورية لتحقيق العدالة أم لتقليص الحريات الشخصية وتكميم الأفواه، ما قد ينعكس على حرية التعبير.
وتنص المادة 79 من مشروع القانون على أنه يجوز للنيابة العامة، بعد الحصول على موافقة القاضي الجزئي، إصدار أوامر بضبط الخطابات والرسائل والبرقيات والصحف والمطبوعات والطرود.
وأقر مشروع القانون في مادته المثيرة للجدل حق النيابة العامة في الأمر بمراقبة الاتصالات السلكية واللاسلكية وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي ومحتوياتها المختلفة غير المتاحة للكافة، والبريد الإلكتروني والرسائل النصية أو الصوتية أو المرئية على الهواتف المحمولة، وغيرها من الأجهزة أو أي وسيلة تقنية أخرى.
كما يسمح مشروع القانون للنيابة العامة بضبط هذه الأجهزة، وكذلك تسجيل المحادثات التي جرت في مكان خاص إذا كان ذلك ضروريًا للتحقيقات في الجنايات أو الجنح التي يعاقب عليها بالسجن لأكثر من 3 أشهر.
كما تنص المادة 79 على أن يكون أمر المراقبة لمدة لا تزيد على 30 يومًا مع إمكانية تجديدها لمدة مماثلة أو لمدد أخرى إذا اقتضت الحاجة لذلك، لكن هذه العبارة بالتحديد يرى فيها مراقبون صياغة غير محددة المدة، معتبرين أن المراقبة لا يجب أن تستمر لفترات غير محدودة، ويجب تحديدها بوضوح لضمان عدم استخدامها بشكل تعسفي.
لكن المجلس رفض اقتراحات عدد من النواب لتحديد مدة المراقبة، من بينهم النائب فريدي البياضي، الذي اقترح أن يكون تجديد الإذن لمدة أو مدتين فقط (60 يومًا) بدلًا من جعلها مفتوحة، وذلك حتى لا يتعارض النص مع المادة 57 من الدستور، التي “تكفل حرمة الحياة الخاصة، ومنع المراقبة والاطلاع على المراسلات والاتصالات إلا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة”.
وتكرر الجدل ذاته بشأن المادة 80 التي وافق عليها البرلمان،، وتجيز للنيابة العامة أن “تأمر بمراقبة المكالمات الهاتفية أو أي موقع إلكتروني أو أي وسيلة تقنية أخرى، بناءً على إذن مسبب من القاضي، ولمدة 30 يومًا قابلة للتجديد لمدة أو مدد لا نهائية”، ورغم المطالبة بوضع حد زمني لذلك الإجراء، قوبلت الطلبات بالرفض، وأُقر نص المادة كما هو.
ووسط حالة من الجدل التي أثارتها هذه المواد على مواقع التواصل الاجتماعي، ومع تزايد القلق من تأثيرات تطبيقها على الحريات الفردية، استمات رئيس مجلس النواب المصري حنفي الجبالي، في الدفاع عن هذا التعديل، للتخفيف من وطأة تبعاتها.
وفي محاولة لتبرير الموافقة على بعض مواد مشروع القانون، قال الجبالي: “لا يمكن بأي حال من الأحوال إخضاع أي شخص للمراقبة بشكل عشوائي أو غير قانوني، وإنما يكون ذلك في إطار أحكام الدستور والقانون”، مشيرًا إلى أنه “لا يوسع صلاحيات سلطات الضبط”، لكنه أكد أيضًا أن “المراقبة لن تتم إلا بإذن قضائي ودون تجاوزات قانونية”.
ورغم سعي مجلس النواب للتأكيد على أن المراقبة محدودة، يرى العديد من الحقوقيين – على عكس ما يقول الجبالي – أن بعض الصياغات قد أفضت إلى أن المراقبة أصبحت أمرًا متاحًا على نطاق واسع، ويؤكدون أن هذه المواد تشكل تهديدًا لخصوصية الأفراد، وتوسع من سلطات الضبط والتحقيق والمحاكمة، وتفتقر إلى الضمانات الإجرائية والإشراف القضائي القوي.
وبينما ينتظر الجميع قرارات حاسمة توضح حدود هذا القانون، اتسع النقاش بشأن صياغة ونصوص المواد المستحدثة وكيفية تطبيقها، وطالب معارضون لهذه الإجراءات بحماية الخصوصية الشخصية، وحذروا من تقييد الحريات وانتهاك حرمة الحياة الخاصة.
مجلس النواب المصري، المعروف شعبيا بلقب “برلمان المخابرات”، حيث تم اختيار غالبية أعضائه من قبل الأجهزة الأمنية، برئاسة القاضي حنفي جبالي، أحد مخططي انقلاب 2013، يوافق علي منح المخابرات والأمن الوطني حزمة إجراءات خطيرة لمحاصرة المواطنين وترهيبهم وتقنين التجسس الدائم والشامل عليهم،… pic.twitter.com/j2VMt0S2gC
— جمال سلطان (@GamalSultan1) January 13, 2025
أمَّا المؤيدون للتعديلات، ومعظمهم برلمانيون تابعون للأحزاب الموالية للنظام، فيرون أن مشروع القانون لا يخالف الحريات العامة، وأن هذه الإجراءات ضرورية لإثبات التهم في حالة الشكوك في وجود جرائم معينة، وأنها تهدف – كما يقولون – إلى مواكبة التطور التكنولوجي، ولذلك وسَّعت المادة 79 نطاق الأدوات المشمولة بالمراقبة بما يتماشى مع التغيرات التقنية الحديثة.
على الجانب الآخر، لم تخل بعض مواد القانون من العوار الدستوري، فقد أعرب حقوقيون وبرلمانيون هاجموا هذه المواد عن قلقهم من تعارض النصوص الجديدة مع مواد الدستور المصري التي تحمي حرمة الحياة الخاصة (بما في ذلك المراسلات البريدية والبرقية والإلكترونية والمحادثات الهاتفية وغيرها من وسائل الاتصال) من أي رقابة غير قانونية، ولا يمكن المساس بها، ما يثير مخاوف من تجاوز آليات التطبيق مفهوم الخصوصية.
يُضاف إلى ذلك أن المادة التي أقرها البرلمان رغم الاعتراضات الجوهرية تخالف نصًا دستوريًا آخر وهو المنوط بتنظيم إجراء الاجتماعات الخاصة، إذ يكفل الدستور حق الاجتماع دون إخطار مسبق، ويحظر على رجال الأمن حضوره أو مراقبته أو التنصت عليه.
رغم كل هذا، لا يبدو أن “النيابة العامة في مصر في حاجة إلى إذن هيئة رهن إشارتها” كما يقول الكاتب والباحث السياسي عمار علي حسن، فعلى مدار السنوات الأخيرة من حكم السيسي، وسَّعت النيابة العامة سلطاتها لمراقبة مستخدمي الإنترنت رسميًا، وانتهاك حقهم في الخصوصية وحرية التعبير، ففي عام 2019، أصدر النائب العام السابق حماده الصاوي، بعد مرور أقل من شهرين على توليه هذا المنصب، قرارًا باستحداث إدارة جديدة تحت اسم “البيان والتوجيه”.
وكأنهم في حاجة إلى إذن هيئة رهن إشارتهم. pic.twitter.com/41nVpLvkOt
— عمار علي حسن Ammar Ali Hassan (@ammaralihassan) January 12, 2025
منذ ذلك الحين، أصبحت النيابة العامة التي تتبع السلطة القضائية المحرك الرئيسي لعدد من الدعاوى القضائية ضد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، وتوسعت صلاحياتها لتشمل رصد وتعقب الجرائم والمخالفات والقيام بالتحريات المبدئية، قبل أن تتلقى بلاغات أو شكاوى بشأنها، والتي من المفترض أن تجريها الشرطة التابعة للسلطة التنفيذية، لتكرس بذلك لممارسة المراقبة الجماعية عبر الإنترنت بوصفه دورًا وظيفيًّا لها.
ويعود اهتمام النيابة العامة بالتواجد على مواقع التواصل الاجتماعي إلى عام 2018، عندما كلف النائب العام الأسبق نبيل صادق بمتابعة ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي، واتخاذ الإجراءات الجنائية اللازمة حيال أصحاب هذه المنشورات التي يعتبر محتواها من وجهة نظره مهددًا للأمن الوطني أو الأمن القومي الاجتماعي أو قيم الأسرة المصرية.
خلقت هذه المتابعة نمطًا من الاتهامات الموجهة إلى أصحاب حسابات مواقع التواصل بسبب محتوى منشوراتهم التي تُصنف في خانة “الأكاذيب والأخبار غير الحقيقية التي تستهدف أمن وسلامة الوطن”، وتعرض الكثيرون منهم منذ ذلك الحين للمساءلة القانونية التي انتهت إلى الزج بهم في غياهب السجون لمجرد التعبير عن رأيهم.
قانون معيب
كانت الحكومة المصرية قد اقترحت مشروع القانون الذي استعرضته لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية في مجلس النواب في أغسطس/آب 2024، ووافقت عليه في الشهر التالي، ومن المقرر أن تحل أحدث مسودة للتشريع محل قانون الإجراءات الجنائية لعام 1950، مع الاحتفاظ ببعض أحكامه.
ومنذ عرضه على البرلمان، أثار قانون الإجراءات الجنائية قلقًا حقوقيًا كبيرًا بسبب احتوائه على نصوص كارثية تكرس قمع السلطة، وتسلط يد الأجهزة الأمنية والقضائية على المصريين، وتساهم في انتهاك حقوقهم بجميع طوائفهم.
كما تعمل هذه النصوص على ترسيخ عيوب قانون الإجراءات الجنائية الحالي، ومنها تركيز سلطات التحقيق والمحاكمة والإحالة في أيدي النيابة العامة، وحماية مأموري الضبط القضائي من المساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان مثل التعذيب والاختفاء القسري.
ويعمل مشروع القانون على ترسيخ الممارسات غير القانونية التي تقوض الحق في المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع التي أُضعفت أصلًا في مصر، على سبيل المثال، يحظر على المحامين التحدث خارج نطاق تقديم الدفوع والطلبات دون إذن من النيابة، ويمنح النيابة الحق في منع محامي الدفاع من الوصول إلى التحقيق.
🔴#بيان
يستكمل مجلس النواب اليوم مناقشة #قانون_الإجراءات_الجنائية، بعد إقرار 61 مادة دون تعديلات على مضمونها، وتجدد مؤسسة حرية الفكر والتعبير اليوم رفضها للمشروع الذي يخالف #الدستور المصري والمواثيق الدولية في مواد عديدة، والذي تستمر إجراءات تمريره “دون أي اهتمام بالاعتراضات التي… pic.twitter.com/9ETeGOpr8V
— AFTE (@afteegypt) January 12, 2025
وواجه القانون معارضة خاصة من الصحفيين والمحامين، لأنه يعطي للنيابة حق حجب الأوراق عن المحامي بعد إحالة الدعوى إلى المحاكمة، ويعطي الحق للقاضي بسلطة تقديرية بالقبض على المحامي تحت زعم الإخلال بنظام الجلسة، كما قد يُفاجأ المحامي بالمنع من حقه في استجواب الشهود ومواجهتهم بالأدلة، بالإضافة إلى عدم إطلاعه على التحقيقات قبل استجواب المتهم، وطالب بعض أعضاء البرلمان بنشر هذه التحقيقات لكن طلباتهم قوبلت بالرفض.
وبحسب وصف عضو نقابة المحامين عمرو الخشاب، فإن “هذا الأسلوب وهذه الصياغة الركيكة التي كُتبت بها مواد قانون الإجراءات الجنائية تشير إلى أنه من وضعه هو ضابط في الأمن الوطني”، ووصفه خلال ندوة مناقشة مشروع القانون الجديد التي عُقدت في سبتمبر/ أيلول 2024 بـ”الكارثي على المجتمع المصري بأسره”.
وصف عمرو الخشاب، عضو مجلس نقابة المحامين، قانون الإجراءات الجنائية الجديد، بـ”الكارثي على المجتمع المصري ككل”، متوقعًا أن يكون من وضعه ضابط بالأمن الوطني، ومشددًا على ضرورة التكاتف للتصدي له. pic.twitter.com/E2acNPQsDr
— المنصة (@Almanassa_AR) September 5, 2024
وأثارت مواد قانون الإجراءات الجنائية الجديد جدلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، بينما يعتبر بعض المسؤولين أن التعديلات القانونية تلتزم بحقوق الانسان، ويرون أنها تهدف إلى تعزيز الحقوق والحريات العامة، وتتفق مع الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان (2021-2026) التي يعدها نظام السيسي بمثابة “خريطة طريق وطنية طموحة في مجال حقوق الإنسان”.
والواقع أن هذه التعديلات لا تفي بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتضع الدولة في موقف يتعارض مع التزاماتها الدولية، فرغم أن المشروع يزعم أنه يهدف إلى تحسين كفاءة النظام القضائي وتسريع وتيرة العدالة، فإنه يخفي مخاطر جسيمة تهدد حقوق الإنسان، حيث تمنح التعديلات المقترحة النيابة العامة وضباط الضبط القضائي سلطات غير مسبوقة على حساب حقوق المتهمين وحقوق الدفاع، وقد تؤدي هذه التعديلات إلى انتهاكات خطيرة للحقوق الدستورية.
وواجه القانون انتقادات واسعة من حقوقيين وأعضاء بالبرلمان، حيث توسع في منح سلطة الضبطية القضائية للعُمد ومشايخ البلد ومعاوني ومندوبي الشرطة وضباط الصف، الذين تُسند إليهم مسؤوليات أكبر من قدراتهم، مثل منحهم سلطات تقديرية لاستجواب المتهمين، ما يهدد بحدوث المزيد من انتهاكات موظفي الأمن المنتهِكين واستغلال النفوذ وتعزيز السلطة التنفيذية وإضعاف دور القضاء كحامي للحقوق الفردية.
بالإضافة إلى ذلك، واجه القانون انتقادات بخصوص زيادة الغرامات وتكاليف التقاضي بشكل كبير، ما يزيد من الأعباء المالية على المواطنين، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الحالية، وبالتالي يصعب على المتهمين الحصول على محاكمة عادلة.
وأثارت المادة الخاصة بتفتيش النساء جدلًا كبيرًا خلال مناقشة القانون بسبب ما اُعتبر انتهاك لكرامة المرأة وتعدي على حرمة جسدها، حيث لم يحدد القانون صفة من يقوم بالتفتيش إذا كان رجلًا أو أنثى، كما تجاهل أيضًا ذكر الطريقة التي يجب أن تتم بها عملية التفتيش.
المجلس انتهي الاسبوع ده من مناقشة تعديلات ٦٠ مادة من مواد قانون #الاجراءات الجنائية
للأسف فيه تعديلات منطقية جدًا و مهمة مش بتمر و ال٦٠ مادة اقروا تقريبًا كما هم
المداخلة ديه فيها تعديلي علي المادة ٤٨ من القانون واللي نصها
“يجوز لمأموري الضبط القضائي تفتيش المتهم في الأحوال… pic.twitter.com/OH1fhPuucK
— Amira Saber Qandil🇪🇬 (@amirasabersd) December 31, 2024
القانون رفض أيضًا إعطاء الحق للمواطنين بالسؤال عن هوية مسؤول الضبط القضائي، ما دفع بعض النواب للاعتراض واقتراح تعديلات لضمان الشفافية، تضمن اقتراحًا بتصوير عملية الضبط والتفتيش بالفيديو، لكن كل المقترحات والتعديلات المقدمة قوبلت بالرفض، وشهدت المناقشات خلافات أدت إلى الحذف من المضبطة بعد هجوم على المعارضين للقانون.
وعلاوة على ذلك، فإن التعديلات المتعلقة بالحبس الاحتياطي، على الرغم من تقصير مدته، لا تزال تسمح للنيابة العامة بتمديد احتجاز الأفراد لفترات طويلة دون محاكمة، ولا تضمن وقف ممارسات مثل تدوير المعتقلين، والتي تسمح بالتلاعب بفترات الحبس الاحتياطي القانونية، وتمثل مثل هذه الممارسات تهديدًا خطيرًا للحريات الفردية، وتزيد من احتمالات إساءة استخدام السلطة.
ترسانة من قوانين المراقبة
لا يعد قانون الإجراءات الجنائية الحالي السبب الوحيد للاعتقال والاحتجاز التعسفي، بل يكمله أيضًا قوانين قمعية تجرم ممارسة حرية الرأي والتعبير وحرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، مثل قانون العقوبات وقانون مكافحة الإرهاب وقانون الجرائم الإلكترونية وقانون التظاهر وقانون المنظمات غير الحكومية، وتُستخدم جميعها كأدوات لمعاقبة المعارضين السياسيين والناشطين وأي مواطن يعبر سلميًا عن آرائه.
بدأ الجدل بشأن شرعنة الإجراءات التي تمس الحقوق والحريات الخاصة، وتمثل تكميمًا للأفواه وتجاوز القانون، بقرار لوزارة الداخلية – تزامن مع الإعلان عن فوز السيسي بفترة رئاسية أولى – لمراقبة شاملة على نشاط الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي، في عصر كان الشباب يرون فيه أنه لا مكان للقبضة الأمنية بعد أن انكسر حاجز الخوف لديهم عقب الإطاحة بنظام مبارك.
وعلى مدار الثلاث سنوات التي سبقت هذا القرار، كانت مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة “فيسبوك”، لاعبًا أسياسيًا في الحياة السياسة، فمن رحم بعضها خرجت العديد من الدعوات الاحتجاجية التي غيَّرت أنظمة سياسية وأتت بأخرى.
ومنذ الانقلاب العسكري الذي قاده السيسي في 3 يوليو/تموز 2013، اعتقلت أجهزة الأمن عشرات الآلاف من المواطنين لمشاركتهم في المظاهرات أو لكونهم أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين، وفي حين تم القبض على العديد منهم في أثناء الاحتجاجات، ركزت الحكومة بشكل متزايد على الاتصالات عبر الإنترنت للمجموعات التي تعتبرها أصوات معارضة للسيسي وحكومته.
لم يمر سوى شهرين على وصول السيسي إلى السلطة حتى تبين أن اتصالات المصريين عبر الإنترنت تخضع للمراقبة من شركة “See Egypt” الشقيقة لشركة الأمن السيبراني الأمريكية “بلوك”، التي عملت بالفعل مع الحكومة المصرية، ولديها علاقات قوية مع أجهزة أمن الدولة، ما يمنح الحكومة قدرة غير مسبوقة على فحص البيانات من “سكايب” و”فيسبوك” و”تويتر” و”يوتيوب” وغيرها.
في حين تتبعت مصر الاتصالات عبر الإنترنت قبل ذلك باستخدام أنظمة مراقبة سمحت للمسؤولين بمراقبة الشبكات المحلية بشكل فضفاض، كانت هذه المرة الأولى التي تستخدم فيها الحكومة على نطاق واسع تقنية تمكن من تحديد الموقع الجغرافي والتتبع والمراقبة المكثفة لحركة الإنترنت.
وبدأت جماعات حقوق الإنسان المصرية بالفعل في الاحتجاج على مراقبة الاتصالات عبر الإنترنت، ورفعت دعوى قضائية بعد أيام قليلة من تنصيب السيسي، مشيرة إلى النظام الذي تستخدمه مصر “يهدد الحياة الخاصة والحريات العامة”، ومع ذلك استغرقت الدعوى القضائية سنوات حتى تشق طريقها عبر المحاكم، وفي غضون ذلك، استمر استخدام تقنيات المراقبة والتجسس.
وفي يوليو/تموز 2018، أصبحت الرقابة الإلكترونية على وسائل التواصل الاجتماعي في مصر تتم وفق قانون صدّق عليه السيسي، وبموجب هذا القانون المسمى بـ”قانون تنظيم الصحافة والإعلام”، يحق للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والمشكل بقرار رئاسي عام 2017 “متابعة المواقع الإلكترونية والمدونات والحسابات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي التي يبلغ عدد متابعيها 5 آلاف أو أكثر”.
وينص القانون على معاملة هذه الحسابات الشخصية باعتبارها منافذ إعلامية تخضع لقانون الإعلام، ويحق للدولة وقفها أو حجبها ومقاضاتها في حال بث أو نشر أخبار يُنظر إليها على أنها “كاذبة” أو “ما يدعو لمخالفة القانون أو يحرض على العنف والكراهية”، وترى السلطات أنه يساعد على “مكافحة الإرهاب والحفاظ على الأمن”.
واعتبرت المنظمات الدولية القانون ضربة جديدة لحرية التعبير على مواقع التواصل الاجتماعي وحرية الصحافة في مصر، فوفقًا لاحصائيات نشرتها منظمة “مراسلون بلا حدود” فقد تم حجب أكثر من 500 موقع، أغلبها مواقع إخبارية، بما في ذلك موقع المنظمة نفسه، وسجن 25 صحفًيا، لتصبح مصر من بين أكثر 10 دول في العالم سجنًا للصحفيين في 2024.
ومنذ دخول هذا القانون حيز التنفيذ، شنت الأجهزة الأمنية حملات توقيف شملت مدونين وصحفيين وناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي بتهم فضفاضة شملت “الانضمام لجماعة إرهابية” أو “نشر أخبار كاذبة”، ما جعل مصر تحتل المركز 170 ضمن قائمة تضم 180 دولة في التصنيف الدولي لحرية الصحافة لعام 2024.
الكل مراقب
بخلاف ما سبق، يقبع المصريون تحت عيون كاميرات المراقبة التي ترصد تحركاتهم كافة وتتعرف على هوياتهم، فقد دأبت الحكومة المصرية على انتهاك حقوق الخصوصية لمواطنيها بشكل مستمر من خلال المراقبة الجماعية، ويفعل موظفوها ذلك دون عقاب، حتى عندما يتم القبض عليهم، لم تكن هناك ملاحقات قضائية أو فقدان أي شخص لوظيفته بسبب انتهاكات المراقبة، كما يقول الخبير في الحقوق الرقمية توني روبرتس.
واشتكى المشاركون في قمة المناخ “كوب 27” التي عقدتها الأمم المتحدة في مصر في عام 2022، من تعرضهم للتجسس من خلال ضباط من الشرطة المصرية ممن وفرتهم الدولة المضيفة لتأمين سلامتهم، وأيضًا عبر تطبيق الهاتف المحمول الرسمي الذي أعدته وزارة الاتصالات المصرية لتوفير المعلومات اللازمة بشأن أبرز الأحداث والأنشطة التي تشهدها القمة وطرق التنقل في شرم الشيخ خلال المؤتمر، ليتبين قدرة التطبيق على الوصول إلى بيانات المستخدمين الخاصة بالكاميرا والميكرفون والبلوتوث والموقع، وأن بإمكانه مراقبة هواتف مستخدميه.
وفي حين تستخدم المدن الذكية حول العالم تقنيات المراقبة المتقدمة بهدف مكافحة الجريمة وحفظ الأمن في بيئة تتمتع بالحرية والحفاظ على الخصوصية، تعد هذه الأنظمة وسيلة بيد الدولة لفرض مزيد من القمع.
في مطلع عام 2023، كشفت وكالة “رويترز” خطة السيسي لفرض السيطرة على العاصمة الإدارية التي يُتوقع أن يسكنها أكثر من 6 ملايين مواطن، وستكون تحت مراقبة نظام طورته شركة “هانيويل” الأمريكية، ويشمل 6 آلاف كاميرا على الأقل، وسط مخاوف من سوء استخدام السلطات لهذه الأنظمة، عبر مراقبة الأماكن العامة وقمع المواطنين الذين يرغبون في الاحتجاج أو ممارسة حقهم في التجمع السلمي.
في فبراير/شباط 2024، فرضت الولايات المتحدة عقوبات تجارية على شركة التقنية الكندية “ساندفاين” التي استعان بها السيسي لمراقبة وسائل التواصل الاجتماعي والتجسس على معارضيه، وزودته بتكنولوجيا تُستخدم في المراقبة والتجسس، بغرض استهداف بعض السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان.
كانت هذه الشركة، ومقرها واترلو في كندا، تملك سابقًا مجموعة “أن أس أو” المصنعة لبرمجيات التجسس “بيجاسوس”، التي اشتهرت باستخدامها من جانب بعض الحكومات الديكتاتورية ضد معارضيها، وتردد اسمها سابقًا بالتزامن مع انتخابات الرئاسة، حيث تورطت في عملية تجسس استهدفت المرشح الرئاسي السابق أحمد الطنطاوي.
واُستخدمت تقنيات الشركة الكندية لحجب أكثر من 600 موقع، بما في ذلك 100 موقع إخباري وإعلامي، وبلغت قيمة التعاقدات التي أبرمتها الحكومة المصرية معها 30 مليون دولار، بينها 10 ملايين دولار ضمن صفقة تمت مع شركة “المصرية للاتصالات” المملوكة للدولة، وصُنفت حينها كأعلى صفقة في تاريخ الشركة.
وبحسب تقرير لمنظمة الخصوصية الدولية، باعت شركات أوروبية متخصصة في معدات المراقبة المتطورة، تقنيات للتنصت والتجسس لإدارة البحوث التقنية المصرية، وهي وحدة سرية في المخابرات العام، استخدمت هذه المعدات خلال ثورة يناير/كانون الثاني 2011، عندما كان السيسي مديرًا للمخابرات الحربية.
زودت شبكة “نوكيا سيمنز” المخابرات بأجهزة تعترض اتصالات الهواتف، وراقبت شركة “هاكينج تيم” لتقنية المعلومات شبكة الإنترنت لصالح المخابرات المصرية، ما دفع البرلمان الأوروبي إلى حظر بيع أجهزة المراقبة لمصر باعتباره مخالفًا للالتزامات التجارية لمبادئ حقوق الإنسان.
ويرصد تقرير حقوقي أصدرته الجبهة الوطنية لحقوق الإنسان، في سبتمبر/أيلول 2022، تحول جهاز الأمن الوطني (أمن الدولة سابقًا) ليصبح المسيطر على جميع حلقات التقاضي والمتحكم الأول فيها، منتهكًا القانون والدستور في جميع خطواته، بداية من تتبع المعارضين على مواقع التواصل الاجتماعي، ومحاولات اختراق حساباتهم وهواتفهم من أجل القبض عليهم،مرورًا بعمليات كتابة تقارير التحريات، والاعتماد على رأي كاتبيها دون أدلة ملموسة، بجانب عمليات القبض التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب الممنهج للمعتقلين، بالإضافة إلى تدخلات الجهاز في حياة السجناء عن طريق إدارة جميع سجون مصر.
وتمتد المراقبة غير القانونية على مدار الساعة إلى داخل السجون المصرية، التي تبين استخدامها لكاميرات مميزة من صنع شركة “فيفوتيك” التايوانية، تستطيع الرؤية ليلًا دون الحاجة إلى وجود إضاءة، والتنصت على أحاديث المعتقلين عبر مكبرات الصوت المزودة.
وأظهرت مقاطع الفيديو الدعائية التي نشرتها وزارة الداخلية المصرية في وقت سابق عن مجمع بدر الجديد، الموصوف بأقسى سجون السيسي على الإطلاق، استخدام هذه الكاميرات داخل المسجد والكنيسة وورش التدريب، لتؤكد شكاوى المعتقلين من انعدام الخصوصية التي نقلها حقوقيون.
وتواصل الأجهزة الأمنية انتهاكاتها بحق معتقلات الرأي بعد الكشف عن مراقبتهن داخل الزنازين بواسطة شبكة من الكاميرات ترصد جميع تحركاتهن على مدار الساعة، ما يحول مجمع الإصلاح والتأهيل إلى كابوس المعتقلات، ويثير مخاوف بشأن انتهاك الخصوصية واستغلال الصور ضدهن.
وفي شكل آخر من أشكال المراقبة، وافقت الحكومة على مشروع قانون لم يكتفِ فقط بتغليظ عقوبة سرقة الكهرباء، بل أقر بتطبيق العقوبة على أي مواطن لا يبلغ السلطة المختصة عن أي مواطن يستخدم وصلات غير شرعية أو يحتال على نظام القراءات بغرض تقليل قيمة الفواتير، ما ينزع عن المصريين صفة الجيرة، ويحولهم إلى “مخبرين” بنص القانون.
وفي حالة أخرى، سعى السيسي إلى تحويل المواطنين إلى “مرشدين” بعدما طالب أهالي سيناء بالإبلاغ عن أبنائهم الذين وصفهم بـ”المتخبطين”، رغم تسببه في تهجير آلاف الأسر من أهالي سيناء.
و لم تتوقف مساعي تحويل المواطنين إلى مخبرين عند حد الدعوات الفردية، بل تعدتها إلى حد إجبارهم على ممارسة التجسس والوشاية بأمر قانوني من الحكومة، التي وافقت في منتصف عام 2015 على مقترح مقدم من وزارة الداخلية بإضافة مادة جديدة لقانون العقوبات تجرِّم عدم إبلاغ النيابة العامة أو أقرب مأمور ضبط قضائي عن وجود مفرقعات أو مواد خطرة.
سبق كل هذا تشريعات أخرى تصب في نفس مرمى توسع دائرة التجسس على المواطنين، فقد سبق أن وافق قسم التشريع في مجلس الدولة على تعديلات طالت قانون الشرطة قدمتها وزارة الداخلية، وتضمنت إضافة هيئة شرطية جديدة تحمل صفة الضبطية القضائية، تحت اسم “الشرطة المجتمعية“، وهو ما يُنظر إليه على أنه غطاء لتوسيع دائرة التجسس على المعارضة.
وبحسب وصف الكاتب والصحفي المصري فهمي هويدي في مقال له، فإن “ذلك غدا توجًها عامًا تمت بموجبه توجيه دعوة للمواطنين للتحول إلى مرشدين ومخبرين، وهي الرسالة التي نقلها الإعلام إلى الجميع كأنما أصبح هاجس الإرهاب مختزلًا في التحول إلى مجتمع المخبرين وليس المنتجين”.