من مجرد ضابط مكلف في الجيش الباكستاني إلى “ديكتاتور عسكري” قاد انقلابًا عسكريًا لحكم بنغلاديش خلال معظم فترة الثمانينيات، كان الجنرال محمد حسين إرشاد شاهدًا رئيسيًا على سياسة جنوب آسيا لمدة 7 عقود، وأثبت خلال الأربعة عقود الأخيرة أنه كان سيد البقاء في الحياة السياسية.
جلبت ديكتاتوريته العسكرية التي استمرت 8 سنوات درجة من الاستقرار إلى واحدة من أكثر دول العالم اكتظاظًا بالسكان، ولكن بتكلفة دفعتها مؤسساتها السياسية الهشة، فضلاً عن ممارسته تأثير باهظ على الديمقراطية البنغلاديشية الناشئة.
في 14 من يوليو/تموز في العاصمة دكا، أُعلن انتهاء مسيرة الرجل السياسية المثيرة للجدل بإعلان وفاته عن عمر يناهز 89 عامًا، كانت وفاة إرشاد بسبب تقدمه في السن بمثابة نهاية غير متوقعة لأحد المهن السياسية الأكثر إثارة للجدل في بنغلاديش، لا سيما بالنظر إلى أن بعض أقرانه انتهى بهم المطاف بالقتل أو السجن مدى الحياة.
كان الجنرال إرشاد نحيلًا ويرتدي ملابس غير لائقة، وكان أيضًا رجلاً غريبًا يتمتع بمجموعة معقدة من العلاقات مع الزوجات والعشيقات، على الرغم من قيادته رابع أكبر دولة ذات غالبية مسلمة في العالم، كما اعتبر نفسه شاعرًا ورجلًا مثقفًا، رغم ما قيل عن سرقة مساعديه أبيات من الشعر البنغالي الغامضة نيابةً عنه.
وفي مفردات السياسية البنغلاديشية، يُشار إلى الجنرال إرشاد فقط بـ”الديكتاتور العسكري”، على الرغم من أن البلاد حكمها قادة بدرجات متفاوتة من التطلعات الديكتاتورية منذ الخمسينيات، لكنه أوقف البرلمان والدستور وشن حملة على المعارضين السياسيين، وفشل في القضاء على الفساد وترك 80% من البنغلاديشيين في حالة فقر.
بالنسبة للأجيال الشابة التي ليس لديها ذكريات عن حكم إرشاد، فإنهم ينظرون إليه على أنه فقط “انتهازي سياسي لا يمكن الاعتماد عليه، ولكنه قوي، وشخص لم يكن قادرًا على أن يصبح الرئيس نفسه
غالبًا ما يلقي كبار السن البنغلاديشيين باللوم على إعلان الجنرال إرشاد الأحكام العرفية عام 1982 وتدميره الديمقراطية الوليدة والتعددية السياسية في البلاد، التي بدأها سلفه الجنرال ضياء الرحمن الذي اُغتيل في مايو/أيار 1981.
لكن بالنسبة للأجيال الشابة التي ليس لديها ذكريات عن حكم إرشاد، فإنهم ينظرون إليه على أنه فقط “انتهازي سياسي لا يمكن الاعتماد عليه، ولكنه قوي، وشخص لم يكن قادرًا على أن يصبح الرئيس نفسه، لكنه مَنْ ساعد في تحديد من تذهب إليه سلطة الدولة بعد ذلك”.
أمَّا الشباب البنغلاديشيين الذين شاهدوا بلدهم تغرق بشكل أعمق وأعمق في الاستبداد في العقد الماضي، فربما سيتذكرون إرشاد على أنه عامل تمكين للاستبداد أكثر من كونه مستبدًا، وذلك بسبب دعمه المستمر للحكومة الغاشمة وغير الليبرالية المسؤولة حاليًّا عن البلاد.
توفي إرشاد عن عمر يناهز 89 عامًا
بينما يقول النقاد إن الجنرال إرشاد دمر العديد من مؤسسات الدولة، أشار المدافعون إلى أنه قام بإضفاء اللامركزية على الهيكل الإداري لبنجلاديش من خلال وضع المناطق الريفية ضمن أجندة التنمية التي شملت بناء العديد من الطرق السريعة والمناطق الفرعية وغيرها من مشاريع البنية التحتية. خلال فترة حكمه أيضًا، حسنت بنغلاديش العلاقات مع الولايات المتحدة والدول في الشرق الأوسط.
رحلة الصعود الانتهازي
وُلد إرشاد مقاطعة كوش بيهار في البنغال الغرب بالهند البريطانية أو الراج البريطاني عام 1930، هاجرت عائلته إلى بنغلاديش الحاليّة عام 1948، التي كانت آنذاك جزءًا من باكستان، بعد نهاية الحكم الاستعماري البريطاني وتقسيم الهند على أسس دينية.
عام 1952، كُلف بمهمة قتالية في الجيش الباكستاني، وسرعان ما أصبح ضابطًا عسكريًا مختصًا، كان متمركزًا في غرب باكستان في أثناء حرب التحرير “الدموية” في بنغلاديش ضد باكستان، وبحسب ما ورد، اُعتقل إرشاد مع ضباط بنغال متمركزين هناك، وعاد إلى بنغلاديش بعد عامين من استقلالها عام 1973، سرعان ما ارتفع إرشاد في صفوف جيش بنغلاديش.
أمضى سنواته التكوينية كأحد أفراد الجيش في الهند – في وقت قريب من اغتيال الشيخ مجيب الرحمن (المؤسس الحقيقي لدولة بنغلاديش) عام 1975 – في كلية الدفاع بالبلاد، وعمل على تطوير علاقاته العميقة مع النخبة الحاكمة في الهند، وكان على مقربة من أعضاء الدولة العميقة في العديد من بلدان جنوب آسيا، بما في ذلك الهند.
رغم أنه ليس مستبدًا مثل بعض أسوأ الديكتاتوريين في عصره، فقد دمَّر فرص بنغلاديش في أن تصبح ديمقراطية فاعلة في أثناء وجوده في المنصب وسهل الانهيار الأوتوقراطي في البلاد بمجرد أن أصبح سياسيًا مدنيًا
شارك علاقة مهنية معقدة مع الرئيس الراحل لبنغلاديش الجنرال ضياء الرحمن، التي لم يتم استكشافها بعمق بعد، وأعاد الرئيس البنغلاديشي الأسبق إرشاد من الهند وروج له في الجيش، وفي عام 1975، عيَّن إرشاد – الذي كان ضابطًا متحمسًا ومتحدثًا بارعًا – كرئيس أركان للجيش لأسباب غير معروفة للكثيرين في ذلك الوقت، وظل إرشاد مخلصًا للرئيس عبد الرحمن لبقية حياته.
بعد وفاة الجنرال عبد الرحمن عام 1981، تولى رئاسة الدولة نائب الرئيس الحاكم عبد الستار، وسرعان ما دعا إلى الانتخابات، وبصفته مرشح حزب بنغلاديش الوطني الحاكم ، فاز عبد الستار بسهولة بثلثي الأصوات وأصبح رسميًا الرئيس الجديد للبلاد في نفس العام.
ورغم كونه رئيسًا منتخبًا في سن متقدمة، فإنه فشل في إنهاء الخلافات داخل القيادات المدنية واكتساب ثقة الجيش، فاغتنم إرشاد هذه الفرصة وأطاح بالرئيس وحكومته المنتخبة بانقلاب عسكري غير دموي، لكن طال أمده، مما أجبر ستار على مغادرة المشهد تدريجيًا وبسلام.
تولى إرشاد السلطة في مارس/آذار 1982 بصفته كبير مديري قانون الأحكام العرفية، وبعد 3 أيام، نصَّب – بحكم منصبه الحكومي الرفيع الذي يمنحه سلطة تنفيذية وصلاحيات كبيرة – القاضي إحسان الدين شودري كرئيس، وظل هو يحكم من وراء الكواليس إلى أن تولى رسميًا رئاسة البلاد في ديسمبر/كانون الأول عام 1983.
إرشاد يلوح إلى أنصاره عندما تم إطلاق سراحه من السجن في دكا عام 1997
بعد أن استولى على سلطة الدولة، سرعان ما علَّق العمل بالدستور وحل البرلمان، كما أنهى النبرة العلمانية للدستور، وفي سبيل التشبث بالسلطة، قمع جميع الأحزاب السياسية المنافسة له، واستخدم العنف ضد المحتجين، فقتل شخصيات بارزة منها ديبالي ساها وزينال ومزاميل وأيوب كانشان والعديد من القتلى بالرصاص عام 1983، وواجه كل من سليم وكاسي ديلوار حسين عام 1984 ونور حسين في عام 1987 ونزير الدين جهاد ووشمس علم خان ميلون في عام 1990 المصير نفسه في أثناء مشاركتهم في حركة مناهضة لإرشاد.
ومع افتقاره إلى أي نسب اجتماعي أو مصداقية سياسية، اتبع إرشاد إلى حد كبير سياسات ضياء الرحمن المركزية على الساحتين المحلية والدولية، وواصل أيضًا تدويل إسلام بنغلاديش التدريجي من خلال خطابه السياسي وتحسين العلاقات مع الدول الإسلامية في الخليج والشرق الأوسط وظل مؤيدًا لأمريكا والهند، في حين يقول منتقدوه إنه فعل ذلك لكسب الملايين السياسيين في بلد ذي غالبية مسلمة.
كونه الحاكم المؤيد للإسلام الذي جعل الإسلام الدين الرسمي لبنغلاديش، سعى إرشاد إلى تهدئة الحساسيات الثقافية للهند من الناحية الجيوسياسية، كما سعى للاستفادة من ميله للشعر في تكوين أصدقاء مفيدين داخل النخب الثقافية والسياسية الهندية، الذين ظلوا متحمسين له حتى يومنا هذا.
عندما قرر البدء في تأسيس حزبه السياسي الجديد (جاتيا)، في أثناء وجوده على رأس الحكومة ومنصب رئيس أركان الجيش، كان عليه أن يجذب كبار القادة إستراتيجيًا من مجموعة متنوعة من الحركات والأحزاب السياسية، لأنه ليس لديه رأس مال سياسي خاص به، فعيَّن رؤساء وزراء بمختلف المعتقدات السياسية، بما في ذلك الماويين الموالين للصين.
لكن على الرغم من الاضطرابات السياسية، ومعارضة تحالفين رئيسيين بقيادة حزب “رابطة عوامي” وحزب بنغلاديش الوطني، ظل إرشاد في الحكم مع انتخابات معيبة أو بدون أي شكل من أشكال الديمقراطية التي تقودها الانتخابات، فقد أجرى إرشاد انتخابات استطلاعات للرأي، فضلاً عن استفتاء على نفسه عام 1985، وانتخابات رئاسية عام 1986، وانتخابات برلمانية في العام نفسه، وانتخابات برلمانية أخرى عام 1988، وحصل حزب “جاتيا” الجديد على أغلبية المقاعد، وقاطعت جميع الأحزاب السياسية الكبرى تقريبًا صناديق الاقتراع، وفي العام التالي، تحول الاحتجاج الموحد ضد إرشاد إلى حركة جماهيرية شاملة مارست ضغوطًا هائلة على ما وُصف بـ”الحاكم المستبد”.
وعلى الرغم من ضعف المعارضة التي واجهها خلال رحلة صعوده إلى السلطة في ذلك الوقت، فقد نثر بذور الاضطرابات السياسية لعقود قادمة، كذلك على الرغم من أنه ليس مستبدًا مثل بعض أسوأ الديكتاتوريين في عصره، إلا أنه دمَّر فرص بنغلاديش في أن تصبح ديمقراطية فاعلة في أثناء وجوده في المنصب وسهل الانهيار الأوتوقراطي في البلاد بمجرد أن أصبح سياسيًا مدنيًا.
أُرغِم إرشاد على ترك منصبه في 6 من ديسمبر/كانون الأول عام 1990 في أعقاب حركة جماهيرية شعبية قادها بشكل رئيسي الطلاب، وأيضًا جميع الأحزاب السياسية الرئيسية، وكذلك الأحزاب اليسارية، ودبرها اثنان من خصومه السياسيين: زعيمة رابطة عوامي (الشعب) شيخة حسينة واجد، وزعيمة الحزب الوطني البنغلاديشي البيجوم خالدة ضياء.
لعب إرشاد، رغم عدم وجوده في السلطة بنفسه، دورًا مهمًا في انحدار بلاده إلى الحكم الاستبدادي
في ذلك الوقت، كانت المشاعر المؤيدة للديمقراطية تهيمن على المشهد العام حيث كانت موجة الديمقراطية تجتاح العالم بأسره، لكن رغم جميع تعهداتهم المؤيدة للديمقراطية، فإن الأنظمة المتعاقبة التي جاءت بعد رحيل إرشاد أصبحت أكثر شمولية وإساءةً وفسادًا.
أول هذه الأنظمة بعد سقوط إرشاد، كانت حكومة رئيسة وزراء بنغلاديش خالدة ضياء من 1991 حتى 1996، التي كانت أول امرأة في تاريخ البلاد تتقلد هذا المنصب وثاني امرأة مسلمة في العالم تتولى منصب رئاسة حكومة ديمقراطية بعد بينظير بوتو، وتولتها لفترة ثانية من 2001 حتى 2006، وتقبع الآن في السجن بعد الحكم عليها العام الماضي بالحبس 7 سنوات، بالإضافة إلى عقوبة بالسجن 5 سنوات في قضية أخرى تتعلق بالفساد، واعتبر أنصارها أن التهم بحقها مدفوعة سياسيًا بهدف منعها من الترشح في الانتخابات المقبلة.
سيد البقاء السياسي
على مدى العقود الثلاث الماضية، كان هناك ارتفاع مستمر في عمليات اعتقال الصحفيين، وإغلاق الصحف ووسائل الإعلام، وخنق الحريات الأكاديمية، والاعتقالات التعسفية، وقتل وسجن الناشطين السياسيين. ولعب إرشاد، رغم عدم وجوده في السلطة بنفسه، دورًا مهمًا في انحدار بلاده إلى الحكم الاستبدادي.
بعد الإطاحة به علم 1991، أُرسل إرشاد غلى السجن بأكثر من عشرين تهمة تمت تبرئته من أغلبها، ولكن أُدين بالفساد واستغلال السلطة، وسجن لمدة 6 سنوات، لكنه كان ما زال قادرًا على المنافسة والفوز في الانتخابات من وراء القضبان، حيث استغل التحالفات السياسية الضعيفة، وتمكن من البقاء نشيطًا في المشهد السياسي المضطرب في بنغلاديش حتى نهاية حياته.
مثل هذه المنافسات “المخزية” لدعم إرشاد من الحزبين السياسيين الرئيسيين بعد 5 سنوات فقط من إجباره على الخروج من السلطة لم تؤد بحسب مجلة The Economist إلى إعادة تأهيل الديكتاتور السابق فحسب، بل جعلته عاملاً في جميع عمليات التبادل السياسي في المستقبل في بنغلاديش
وفي انتخابات 1996، وهذه المرة لم يفز فقط، ولكن ظهر أيضًا كـ”صانع ملوك” عندما تأخر حزب “رابطة عوامي” بفارق 5 مقاعد عن الأغلبية المطلقة لتشكيل الحكومة، وطُلب من الديكتاتور العسكري السابق المساعدة، فوافق على الانضمام إلى الحزب، وشكل ائتلافًا رغم العروض المتكررة من حزب بنغلاديش الوطني لتشكيل تحالف معهم بدلاً من رابطة عوامي.
مثل هذه المنافسات “المخزية” لدعم إرشاد من الحزبين السياسيين الرئيسيين بعد 5 سنوات فقط من إجباره على الخروج من السلطة لم تؤد بحسب مجلة The Economist إلى إعادة تأهيل الديكتاتور السابق فحسب، بل جعلته عاملاً في جميع عمليات التبادل السياسي في المستقبل ببنغلاديش، خاصة بعد إطلاق سراحه من السجن عام 1997، لتزوده التحالفات مع الحزب الحاكم بعدها بفوائد لا نهاية لها.
إرشاد يلقي خطابًا في تجمع للمعارضة عام 2006
في السنوات التالية، تلقى إرشاد مرارًا وتكرارًا مغازلات من الحزب الوطني البنغلاديشي للانضمام، وأصبحت القصة أكثر إرباكًا عام 2013، حيث لم يقتصر الأمر على الحزب الوطني البنغلاديشي فحسب، بل كانت جميع أحزاب المعارضة تتطلع إلى الديكتاتور السابق لإنقاذ الديمقراطية البنغلاديشية المهلكة من خلال التخلي نهائيًا عن رابطة عوامي والانضمام إلى مقاطعة المعارضة للانتخابات.
على الرغم من كل الجهود التي بذلوها، فإن إرشاد كانت متمسكًا بحزب رابطة عوامي برئاسة شيخة حسينة واجد التي أدت اليمين الدستورية رئيسة للحكومة للمرة الثالثة عام 2013 ومرة رابعة عام 2018، مما وفر لحكومتها الشرعية السياسية الحاسمة، حتى عندما خلص معظم المراقبين المحليين والدوليين إلى أن بنغلاديش تتجه نحو نظام حكم شمولي لحزب واحد.
خلال هذه الفترة تأرجج الجنرال العسكري بين الحكم والمعارضة، فقد اُنتخب لعضوية البرلمان في الأعوام 2008، وفي أعقاب قرار “حزب بنغلاديش الوطني” بمقاطعة الانتخابات في عام 2014، حصل حزب جاتيا التابع لإرشاد على مكانة حزب المعارضة في البرلمان. بعد انتخابات 2018، احتفظ حزب جاتيا بالمنصب وظل زعيم المعارضة حتى وفاته.
ربما أدت الانتهازية الفطرية له أو غرائز البقاء لديه إلى اتخاذ مثل هذه القرارات المؤسفة في كل من المنعطفات الحاسمة في تاريخ البلاد الحديث، في حين أن أسلوب حياته الغريب وعلاقات الحب العديدة حتى في سن متقدمة جعلته مثارًا للضحك في الأماكن العامة، إلا أن اللعبة السياسية الماكرة والانتهازية جعلته قويًا على الساحة السياسية لما يقرب من أربعة عقود أثبت خلالها أنه كان سيدًا للبقاء السياسي كديكتاتور أولاً ثم كصانع ملوك.