يمثل الإعلام الخارجي في أي دولة النافذة التي تنقل من خلالها صورة البلد للمجتمع الدولي، ومن ثم تحرص النظم الديمقراطية على توفير المناخ الملائم لمراسلي تلك الوسائل لأداء عملهم على أكمل وجه، بما يساهم في تصدير الصورة الإيجابية التي تسعى الدولة بكافة أجهزتها لتعزيزها.
وفي هذا الإطار أصدرت مؤسسة “حرية الفكر والتعبير” المصرية – مستقلة- تقريرًا تناول كيفية تعامل “الهيئة العامة للاستعلامات” – المؤسسة الإعلامية الرسمية المعبرة عن النظام المصري- مع الإعلام الأجنبي، وذلك في إطار تقييم نشاط الهيئة بعد عامين على تعيين ضياء رشوان، نقيب الصحفيين الحالي، رئيسًا لها.
التقرير كشف عن ملامح الحملة التي أطلقتها الهيئة ضد الإعلام الأجنبي، سواء من خلال تهديد الصحافيين ووسائل الإعلام، أو تشويه هذا النوع من الإعلام على المستوى المحلي، وهو ما ألقى بظلاله على صورة الدولة المصرية في وسائل الإعلام الخارجية، الأمر الذي زاد من حالة الاحتقان بين ممثلي هذا النوع من الإعلام والمسئولين في مصر.
جدير بالذكر أن التقرير يعتمد في المقام الأول على البيانات الرسمية الصادرة عن الهيئة بشأن بعض التقارير المنشورة في وسائل إعلام أجنبية، حيث تم رصد تلك البيانات في الفترة من 6 يونيو 2017 إلى 5 يونيو 2019، هذا بجانب تحليل عدد من التصريحات الإعلامية الصادرة عن رئيس الهيئة العامة بشأن وسائل الإعلام الأجنبية، خلال ذات الفترة.
علاوة على ذلك استند القائمون على إعداد التقرير على جمع البيانات من خلال إجراء 7 مقابلات مع صحفيين، 6 منها بشكل مباشر، بينما تمت مقابلة واحدة من خلال إرسال الأسئلة عبر البريد الإلكتروني، مع الوضع في الاعتبار تعدد الجهات التي يعمل بها هؤلاء الصحفيون، وأن يكون من بينهم صحفيون مصريون يعملون بوسائل إعلام أجنبية.
20 بيانا في عامين
المؤسسة في تقريرها رصدت خلال فترة الدراسة قرابة 20 بياناً صحافياً، تناولت 9 وقائع مرتبة حسب التسلسل الزمني: هجوم الواحات، وتسريبات القدس، وانتخابات الرئاسة، والعملية الشاملة في سيناء عام 2018، وتقرير زبيدة، وطرد مراسلة “ذا تايمز”، وتقرير “رويترز”، واستطلاع حلايب وشلاتين، وحملة “اطمن انت مش لوحدك”، والاستفتاء على التعديلات الدستورية.
وحظيت واقعة تقرير زبيدة بالجانب الأكبر من بيانات “الهيئة العامة للاستعلامات” بـ 6 بيانات، ثم هجوم الواحات الذي خصصت له ثلاثة بيانات. وتتساوى ثلاث وقائع في عدد البيانات الصادرة في كل منها على حدة (بيانان اثنان)، وهي واقعة تسريبات القدس، واقعة استطلاع حلايب وشلاتين، وواقعة استفتاء التعديلات الدستورية. وهناك خمس وقائع خصصت فيها الهيئة بياناً لكل واقعة على حدة، وهي: انتخابات الرئاسة، والعملية العسكرية في سيناء 2018، وطرد مراسلة “ذا تايمز”، وتقرير “رويترز”، وحملة “اطمن انت مش لوحدك”.
الهيئة اليوم باتت على الأرجح بديلًا للأجهزة الأمنية فيما يتعلق بالضغط على الإعلام الأجنبي
أما أكثر الجهات تلقيا لبيانات من الهيئة فكان من نصيب “هيئة الإذاعة البريطانية” (بي بي سي) بـ 10 بيانات، تليها وكالة “رويترز” بـ 4 بيانات، ثم صحيفة “نيويورك تايمز” وموقع آر تي” (روسيا اليوم سابقاً) ببيانين اثنين لكل منهما، فيما جاءت صحيفة “ذا تايمز” البريطانية وصحيفة “إلموندو” الإسبانية الأقل في تلقي بيانات من هيئة الاستعلامات ببيان واحد لكل منهما.
ومثلت تلك البيانات نقطة تحول ملحوظة في سياسة الهيئة التي اتجهت من إمداد الوسائل بالمعلومات الرسمية المتاحة إلى توجيه انتقادات حادة وصلت في بعضها إلى حد الترهيب كما سيأتي ذكره، وسخًر رئيس الهيئة نفسه كمنصة لإطلاق سهام التوبيخ لبعض محرري تلك الوسائل.
ضياء رشوان رئيس الهيئة العامة للاستعلامات ونقيب الصحفيين المصريين
بديلًا للأجهزة الأمنية
بحسب المقابلات التي أجراها معدّ التقرير فإن تغيرًا ملحوظا في أداء الهيئة خلال الأعوام القليلة الماضية، إذ لم تكن في السابق مصدرًا لقلق الصحفيين الأجانب سابقًا، ويقول صحفي من ضمن السبعة الذي أجريت معهم اللقاءات: “عندما بدأت العمل في مصر منذ أكثر من عامين كانت العلاقة مع المركز الصحفي التابع لهيئة الاستعلامات تمتاز بالسهولة، حصلت حينها على الكارنيه (التصريح) الخاص بالمراسلين الأجانب، وحتى عندما كان يحدث بعض التأخير كان المركز الصحفي يصدر لي كارنيه (تصريح) مؤقت”. بينما يرى يوسف في المقابلة التي أجراها معه الباحث أن “الهيئة العامة للاستعلامات كانت هيئة تقوم بعمل روتيني مثل أي مكتب إعلامي في الوزارات الحكومية. ولم يكن هناك اهتمام بالرد على ما تنشره الصحافة الأجنبية”.
وأضاف أن الهيئة اليوم باتت على الأرجح بديلًا للأجهزة الأمنية فيما يتعلق بالضغط على الإعلام الأجنبي، ويقول صحفي أخر: “منذ تولي ضياء رشوان لرئاسة الهيئة العامة للاستعلامات في يونيو 2017 بدا أن هناك تغييرًا يحدث في دورها وكأنه يراد أن تكون جهة تنفيذية يديرها مسئول مدني هي التي تمارس الضغوط على وسائل الإعلام الأجنبية” وتابع “يبدو أن الهيئة العامة للاستعلامات مجرد واجهة لجهات أمنية لا نعرفها على وجه التحديد، إنهم يركزون على نقاط محددة في التقارير التي تنشرها وسائل إعلام أجنبية”.
وقد أجمع من أجري معهم اللقاءات أن الهيئة “تحولت إلى هيئة رقابية تصدر بيانات عن أداء وسائل الإعلام الأجنبي، وتحدد لها ما هو مسموح وما هو ممنوع، أصبح هناك حملات تجاه وسائل إعلام أجنبية معينة، ومن خلال البيانات التي تصدرها هيئة الاستعلامات تتشكل وجهة نظر الإعلام المحلي عن عملنا”.
لكن يبقى السؤال: هل معنى ذلك أن الأجهزة الأمنية قد اختفت تمامًا من المشهد، وهنا يجيب صحفي أخر قائلا: “لا يعني ذلك بالطبع أن دور الجهات السيادية انتهى، على الأقل فيما يتصل بتغطية موضوعات مرتبطة بالشأن الأمني، وفيها نتلقى ردودًا من جهات سيادية تؤكد صحة المعلومات التي حصلنا عليها، ولكن تحذرنا في الوقت نفسه أن نشر هذه المعلومات سيتم الرد عليه بالنفي، وسيضعنا ذلك تحت طائلة القانون”.
التقرير كشف أن هناك تنسيق يحدث بين الهيئة العامة للاستعلامات والأجهزة الأمنية، وهو ما يعتقده كثير من الصحفيين ممن أجريت المقابلات معهم، بينما لا يُعرف على وجه التحديد كيف يتم ذلك، وهو ما أكد أحد المبحوثين بقوله “عندما سألت في المركز الصحفي التابع لهيئة الاستعلامات، قال لي المسئولون هناك إن تأخير الكارنيهات (التصاريح) يحدث بسبب مشكلة مع أجهزة الأمن، ولم يوضحوا لي ما هي هذه المشكلة”. هكذا، يبدو أن هيئة الاستعلامات ترسل بيانات الصحفيين الأجانب إلى اﻷجهزة اﻷمنية، وتنتظر وصول موافقة منها على منح التصريح، وهو تصريح تمنحه الهيئة للصحفي الأجنبي ويجدد سنويًّا، وتطلب الهيئة من الصحفيين المصريين العاملين في وسائل إعلام أجنبية الحصول على نفس التصريح كذلك.
انتهاكات كبيرة تعرض لها الصحفيون الأجانب في مصر
تهديدات وتشويه
التقرير كشف عن حزمة من التهديدات والضغوط التي مارستها الهيئة على الصحفيين الأجانب، منها تعطيل إصدار تصاريح ممارسة العمل الصحفي لهم، يقول أحدهم: “واجهت ضغوطًا كبيرة من هيئة الاستعلامات لم أصادف مثلها قبل تولي ضياء رشوان لرئاسة الهيئة، فالأجهزة الأمنية لم تتواصل معي بشأن التقارير المنشورة لي مثلما فعلت هيئة الاستعلامات. تلقيت اتصالات هاتفية من مسئولي هيئة الاستعلامات غير مرة، سألوني خلالها عن مضمون تقارير نشرتها وكذلك عرضوا خلالها أن أقوم بتغطية قصص يعتقدون أنها مهمة”.
بعض العاملين في وسائل الإعلام الأجنبية في مصر يعتقدون أنهم يتعرضون لاحتمالات أكثر خطورة من نظرائهم الأجانب
وأخر يضيف “هناك مستوى آخر غير معلن، حيث يقوم رئيس الهيئة العامة للاستعلامات بالاتصال بالصحفيين وسؤالهم عن مضمون أخبار وتغطيات قاموا بها، حدث ذلك على سبيل المثال في تغطية مرتبطة بانتخابات الرئاسة واسترسل رئيس الهيئة العامة للاستعلامات إلى حد أنه قرأ مضمون الخبر كلمةً كلمة، خلال الاتصال وتوقف عند كل معلومة واردة به”.
علاوة على ذلك يقوم مسئولو الهيئة بتهديد الصحفيين خلال استفسارهم عن التصاريح المتعلقة بعملهم، وهو ما جسده شهادة أحدهم: “في إحدى المرات كنت في المركز الصحفي، وتحدث معي مدير المركز وأشار إلى أن هناك صحفيين أجانب “مش بيشتغلوا بشكل مهني” وكأنه مدرس يوجه حديثه لتلميذ. بالطبع، فهمت أنه يقصد تخويفي وتهديدي، خاصة أنه أشار أيضًا إلى تغطية بي بي سي ووصفها بغير المهنية”.
وأضاف “منذ يناير 2018، بدأت أواجه صعوبات في الحصول على الكارنيه المؤقت، وكان هذا قبل فترة انتخابات الرئاسة. وبالتالي لم أكن أحمل تصريحًا للعمل، وهذه نفس حالة كثير من الصحفيين الأجانب. عندما سألت في المركز الصحفي التابع لهيئة الاستعلامات، قال لي المسئولون هناك إن تأخير الكارنيهات بسبب مشكلة مع أجهزة الأمن، ولم يوضحوا ما هي هذه المشكلة. بعد ذلك حصلت على كارنيه مؤقت، وما زال الكارنيه السنوي لعام 2018 لم يصدر، رغم أننا في شهر يوليو”.
بعض العاملين في وسائل الإعلام الأجنبية في مصر يعتقدون أنهم يتعرضون لاحتمالات أكثر خطورة من نظرائهم الأجانب : “أعتقد أن هناك استهداف للصحفيين المصريين الذين يعملون في مؤسسات إعلامية أجنبية، لأن هؤلاء لهم أهل وحياة في مصر، ويسهل تهديدهم بالسجن، عكس الصحفيين الأجانب الذين يواجهون الترحيل كأقصى رد فعل من السلطات المصرية على عملهم”.. هكذا نقل التقرير عن صحفي منهم.
الأمر تجاوز ذلك إلى التوجيه، حيث يتم إعطاء توجيهات للصحفيين بالعمل على مواد بعينها والابتعاد عن أخرى كما جاء على لسان واحد منهم: “يتم التعاطي مع عملنا على أسس أمنية كالقول إنه ينبغي على الإعلام الأجنبي أن يراعي مصلحة البلد وأن الظروف الحالية تُحتِّم التغطية بما تريده السلطات المصرية لأن ذلك يساهم في مكافحة الإرهاب”.
التقرير كشف عن مواصلة مجموعة إعلام المصريين، المملوكة لجهاز المخابرات المصرية، خطواتها الهادفة إلى تعزيز سيطرتها على ملكية وسائل الإعلام
تراجع في منسوب الحريات
لم يكن حال الإعلام الأجنبي أفضل من نظيره المحلي، ففي تقرير أخر صادر عن المؤسسة ذاتها كشف عن تراجع واضح في مستوى الحريات الإعلامية، وممارسة المزيد من الضغط والتضييق على المؤسسات الإعلامية بشتى أنواعها فضلا عن إرهاب الصحفيين بمختلف السبل.
التقرير ربع السنوي الثاني لعام 2019 للمؤسسة والذي يتناول حالة حرية التعبير وحرية تداول المعلومات في مصر، ينطلق في تقييمه من تحليل السياق السياسي وأبرز القضايا المؤثرة على حرية التعبير، حيث عمدت السلطة الحالية إلى تمرير تعديلات دستورية تتيح للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي البقاء في السلطة حتى عام 2030، كما شُنت هجمة على ناشطين ينتمون إلى أحزاب ليبرالية معارضة، بهدف منع الإعلان عن تأسيس تحالف بين هذه الأحزاب، لخوض الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها في عام 2020.
التقرير كشف عن مواصلة مجموعة إعلام المصريين، المملوكة لجهاز المخابرات المصرية، خطواتها الهادفة إلى تعزيز سيطرتها على ملكية وسائل الإعلام، من خلال تطوير تعاونها مع الهيئة الوطنية للإعلام، وهي المؤسسة العامة التي تدير الإعلام المملوك للدولة.
العديد من الممارسات التي سلط التقرير الضوء عليها أشارت إلى استمرار السلطة الحالية في حرمان المواطنين المصريين من الحق في حرية التعبير، فلا تزال ممارسات الرقابة على الإنترنت مستمرة، وكذلك التدخلات الأمنية بهدف منع طباعة صحف أو منع نشر مقالات، إضافة إلى استمرار الملاحقات الأمنية لنشطاء ومبدعين وصحفيين ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، ما يستدعي أهمية التضامن مع ضحايا انتهاكات حرية التعبير.