لطالما كانت علاقة دونالد ترامب، صاحب الشخصية المتناقضة والحادة، بالمؤسسة العسكرية الأمريكية مشوبة بالغموض والتوتر، فقد تطورت ملامحها العامة تدريجيًا خلال فترة حكمه الأولى واستمرت في ظل إدارة بايدن، وصولًا إلى فوزه بولاية رئاسية ثانية، وكانت اعتبارات الولاء والقوة قد بدأت تتبلور منذ اليوم الأول لتولي ترامب مهامه في البيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثاني الماضي.
وفي ظل عودته الثانية، ما هي التحولات العميقة التي قد تشهدها المؤسسة العسكرية الأمريكية؟ هل ترامب صانع سلام حقيقي أم مجرد عرّاب لصفقات انتهازية؟ ماذا ينتظر حلف الناتو في فترته الرئاسية الثانية؟ وكيف ستؤثر هذه التحولات على حركة المناصرة الفلسطينية في الولايات المتحدة؟ وأخيرًا، ما الدور الذي ستلعبه حركة “ماجَا” اليمينية في هذا المشهد المليء بالتوترات؟ يحاول هذا المقال ضمن ملف “شريعة ترامب” تقديم رؤى حول هذه الأسئلة الشائكة.
صناعة سلام أم صفقات انتهازية؟
خلال فترته الرئاسية الأولى، تباينت سياسة ترامب بين تعزيز التواجد العسكري الأمريكي في الخارج بشكل محدود وانتقائي، وبين تجديد دماء المؤسسة العسكرية الوطنية من خلال توسيع قاعدة الصناعات العسكرية، وزيادة المخصصات للقوات المسلحة، وابتداع قسم جديد لها هو “القوات الفضائية الأمريكية”، بالإضافة إلى تعزيز الترسانة النووية.
ومع مرور الوقت، سرعان ما ابتعدت إدارة ترامب عن المعارك الخارجية التي كانت الولايات المتحدة منخرطة فيها لعقود، أو قلّصت تركيزها عليها، ووجهت اهتمامها نحو الأمن القومي الداخلي، على نحو يشبه الانفصال عن السياسة الخارجية التقليدية التي كانت تضع الصين وروسيا كأكبر تهديدين للولايات المتحدة، بينما تواصل دعم حلفاء الناتو وتعتبر الشرق الأوسط ساحة استراتيجية هامة للتواجد العسكري الأمريكي.
ذلك لأن الرجل الذي عُرف باقتصاده الواقعي، وأشار مرارًا إلى عدم رغبته في الانخراط فيما وصفه بـ “الحروب اللانهائية”، ركّز في سياسته العسكرية الخارجية على تحقيق إنجازات عسكرية سريعة ومباشرة، مثل توجيه ضربات محدودة لنظام الأسد، وتنفيذ اغتيالات لقادة تنظيم الدولة في العراق وسوريا، وفي مقدمتهم أبو بكر البغدادي، بالإضافة إلى قادة إيرانيين، أبرزهم قاسم سليماني، وهذا في مقابل السياسة طويلة الأمد التي اعتادت الولايات المتحدة اتباعها.
بالتزامن مع هذا التوجه، بدأ ترامب في النصف الثاني من ولايته سحب بعض القوات الأمريكية من جبهات متعددة، مثل سوريا وأفغانستان وبعض دول أوروبا، وسط مخاوف واسعة لدى الديمقراطيين من تراجع دور أمريكا واهتزاز سيطرتها العسكرية في الخارج.
وقد صرّح ترامب دفاعًا عن سياسته القاضية بتقليص التواجد العسكري الأمريكي في البحر والمناطق الدولية بأن “العدو الداخلي” يمثل تهديدًا أكبر للولايات المتحدة من أي أعداء خارجيين، في إشارة إلى خصومه السياسيين الذين يتحدون أجنداته داخل البلاد.
رغم ذلك، ولأسباب تتعلق بطبيعة مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية التي تتجاوز تأثير الرئيس نفسه، لم ينجح ترامب كما سوّق لنفسه في إيقاف الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة، سواء مباشرة أو بالوكالة، فقد ظل الوجود الأمريكي في العراق وأفغانستان وسوريا مهيمنًا على المشهد، رغم الانسحابات المحدودة هنا وهناك.
كما استمرت المشاركة الأمريكية في الحرب التي تقودها السعودية والإمارات ضد اليمن، لتظل واحدة من أسوأ فصول الانخراط العسكري الأمريكي المعاصر في الخارج. ومع ذلك، كان الشاهد الأبرز الذي حافظ عليه ترامب طوال فترة حكمه هو مبدأ الربح والخسارة؛ فكل تحرك عسكري أمريكي، سواء كان بالانسحاب أو بتقليص التواجد، كان يرتبط بمنفعة مباشرة لإدارته، ما ساعده في بناء تحالفات عجزت الإدارات الأمريكية السابقة عن تحقيقها، خصوصًا في إطار اتفاقيات أبراهام التطبيعية في المنطقة.
سعى ترامب أيضًا إلى توظيف سياسة “الضغط القصوى” من خلال العقوبات الاقتصادية كبديل فعّال للتحركات العسكرية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، ففي إطار إدارته الأولى، فرضت واشنطن حزمة واسعة من العقوبات على طهران وحلفائها في المنطقة، وصلت إلى حوالي 1500 عقوبة بين عامي 2018 و2021.
تركزت هذه العقوبات بشكل رئيسي على قطاعات البنوك والاقتصاد والطاقة، ما ترك الاقتصاد الإيراني محاصرًا ويئن تحت وطأتها، لا سيما بعد انسحاب الإدارة الأمريكية من الاتفاق النووي الذي كانت قد أطلقته إدارة أوباما في عام 2015.
اليوم، تعود إدارة ترامب إلى الساحة الدولية في وقت تغيّرت فيه ملامح العالم عن تلك التي تركتها قبل أربع سنوات، فمع تصاعد التوترات في الشرق الأوسط بعد عملية “طوفان الأقصى”، واحتدام الصراع بين الصين وتايوان في بحر الصين الجنوبي، واستمرار العمليات العدائية بين روسيا وأوكرانيا، أصبحت هذه القضايا على رأس أولويات الكونغرس، الذي يضع التحركات العسكرية الخارجية في مقدمة اهتماماته.
لكن إدارة ترامب، مرة أخرى، تُعلن التزامها بخط المنفعة الاقتصادية قبل كل شيء، فقد صرح الرئيس، في مخالفة لنهج إدارة بايدن-هاريس، أن تايوان إذا كانت ترغب في الحصول على حماية الولايات المتحدة في مواجهة الصين، يجب عليها أن تدفع أكثر.
وفضّل ترامب خوض حرب اقتصادية ضروس مع الصين من خلال فرض تعريفات جمركية باهظة، ومحاصرة السوق الصيني في الولايات المتحدة، وعقد تحالفات من شأنها تقويض مصالح بكين. وبالمثل، صرح ترامب برغبته في التوصل إلى اتفاق تطبيع يربط السعودية بـ “إسرائيل”، ولكن على المملكة أن تدفع مبلغًا يفوق ما دفعته خلال فترة حكمه الأولى، والذي بلغ 450 مليار دولار أمريكي، ثم عاد وطالبها بزيادة المبلغ إلى تريليون دولار أمريكي.
غير أن ترامب لم يستثنِ تمامًا إمكانية التدخل العسكري الأمريكي في قناة بنما، التي يراها مجددًا استثمارًا استراتيجيًا ناجحًا ووسيلة لقطع الطريق على بكين، كما لم تسلم تهديداته المتناقضة تجاه بوتين، حيث توعده مرة بتدمير روسيا، ومرة أخرى بتوثيق العلاقات والتقارب مع موسكو.
وأخيرًا، فإن أكبر تناقضات ترامب فيما يخص ملف الحروب تظهر في تعاطيه مع اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة. فمن جهة، يتفاخر بأنه كان عرّاب صفقة إعادة المحتجزين الإسرائيليين، وأنه سيحترم الاتفاق إذا التزمت به حماس، ومن جهة أخرى، رفع الحظر الذي فرضه بايدن على شحنة متفجرات بوزن 2000 طن لـ”إسرائيل”، بينما يصرح بأنه ليس متأكدًا من فاعلية الاتفاق، وأن جحيمًا قد يندلع في الشرق الأوسط إذا لم تُحترم الشروط.
الحلفاء ليسوا بمنأى عن النار
امتدت سياسة ترامب القومية لتشمل حلفاء الولايات المتحدة في الناتو، حيث اتهم الرئيس الحلفاء بالاعتماد المتزايد على القوات الأمريكية لحماية مصالحهم وأمنهم القومي، فقد بلغت قيمة المصروفات الدفاعية التي تساهم بها الولايات المتحدة في الحلف نحو 860 مليار دولار، وهو ضعف المبلغ الذي تساهم به كندا وأوروبا مجتمعتين، والذي يصل إلى 404 مليارات دولار أمريكي. وطالب ترامب دول الحلف بزيادة نفقاتها العسكرية إلى نسبة 5% لمواجهة التهديدات المحدقة، وبالأخص التوسع الروسي في القارة الأوروبية.
ومع عودته إلى البيت الأبيض، رفع ترامب من حدة تحديه تجاه أعضاء الناتو، حيث أطلق تهديدًا واضحًا بأن “بوتين يستطيع فعل ما يريد إذا لم تدفع دول الناتو مستحقات الدفاع العسكرية”، كما أشار إلى أنه سيقطع المساعدات الأمريكية عن كييف إذا فشلت دول الناتو في مضاعفة مصروفاتها الدفاعية، والتي تبلغ حاليًا 2% من الناتج المحلي الإجمالي لـ 23 دولة من أصل 32 دولة أعضاء في الحلف، بينما لا تستطيع بعض الدول الأخرى الوفاء بهذا الالتزام.
جاء “مشروع 2025” الذي أعدته مؤسسة التراث الأمريكية للسياسات العامة، وهي منظمة يمينية تربطها علاقات وثيقة بالرئيس ترامب وتساهم في صياغة العديد من سياساته ومشروعاته القانونية، ليعزز هذا التوجه، إذ يرى المشروع في حلف الناتو استنزافًا للمقدرات العسكرية الأمريكية، وطالب بتقليص التواجد العسكري الأمريكي في أوروبا لتحقيق هذه الغاية، مع التركيز على الأجندة الوطنية.
اعتبر خبراء هذا التوجه تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الأمريكي، خاصة في ظل توصيات المشروع بتصعيد المواجهة المباشرة مع كل من الصين وإيران دون الاعتماد على الحلفاء الأوروبيين.
تنظيف البيت الداخلي
من الناحية الداخلية، جمعت علاقة ترامب مع رموز المؤسسة العسكرية توترًا شديدًا، اعتمدت على مبدأ السيطرة والإقصاء، ففي حين رفض ترامب تكريم الجنود الذين قضوا في عمليات عسكرية بالخارج، واصفًا إياهم بالفاشلين، تصاعدت الخلافات بينه وبين قادة المؤسسة العسكرية.
كان أبرز هذه الخلافات هو الصدام الذي وقع بين ترامب ووزير دفاعه الأسبق جيم ماتيس، الذي استقال احتجاجًا على سياسات ترامب التي رأى أنها تلاعبت بالمؤسسة العسكرية ودفعتها لاستخدامها في أغراض تنفيذ القوانين المحلية. تبع ذلك المزيد من الصدامات مع قادة آخرين مثل جون كيلي، جنرال البحرية الأمريكية، وماك ماستر، ومارك إسبر، وعدد آخر من كبار القادة العسكريين في الجيش الأمريكي.
اليوم، تعود هذه الضغائن القديمة لتطفو مجددًا في صراعات قد تتحول إلى محاولات انتقام من قبل ترامب، وهو ما دفع الرئيس بايدن إلى إصدار قرارات عفو في آخر ساعات إدارته، قبيل مغادرته البيت الأبيض قبل حفل تنصيب ترامب.
وكان من بين أبرز الشخصيات التي شملها العفو، مارك ميلي، الرئيس السابق لهيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة، الذي كان من أشد منتقدي ترامب، حيث وصفه بأنه “أخطر شخصية في أمريكا” و”فاشي حتى النخاع”، ما أثار مخاوف بشأن مصيره في حال عودة ترامب إلى البيت الأبيض.
شمل العفو أيضًا الدكتور أنتوني فوشي، المسؤول عن التحقيق في أحداث الشغب التي قام بها أنصار ترامب في 6 يناير/كانون الثاني 2021، بالإضافة إلى آخرين من عائلة بايدن وأقاربه.
غير أن الخطر الحقيقي في سياسة ترامب تجاه المؤسسة العسكرية الداخلية يكمن في اعتمادها، كما هو الحال مع باقي القضايا الهامة، على مبدأ الولاء، فقد بدأ فريق ترامب بالفعل في إعداد قرار تنفيذي لتعيين عدد من الجنرالات المتقاعدين المعروفين بولائهم للحزب الجمهوري في لجنة تهدف إلى إعداد قوائم بأسماء الجنرالات والأدميرالات الحاليين الذين يُعتبرون إما “ضعفاء” أو يتبنون “أيديولوجية يسارية متطرفة”، بحسب وصف ترامب، ليتم تسريحهم من الخدمة.
هذا يعيد إلى الواجهة ما أشار إليه جنرال البحرية الأمريكي المتقاعد، جون كيلي، الذي خدم كبيرًا لموظفي ترامب في البيت الأبيض خلال فترته الرئاسية الأولى، حيث وصف ترامب بأنه “ينتمي إلى التعريف العام للفاشية”، مضيفًا أنه لطالما امتدح ولاء جنرالات أدولف هتلر.
جيش لا يخوض الحروب
توافقت وعود ترامب الانتخابية في حملته الثالثة التي سبقت انتخابات عام 2024 مع سياسته العامة “أمريكا أولًا”، فهو يسعى لبناء جيش قوي، لكن من نوع مختلف؛ جيش لا يشارك في حروب دولية إلا في الحد الأدنى، بل يقتصر وجوده على الأراضي الأمريكية حيث ينفذ سياساته الوطنية، تمامًا كما يفعل أي ديكتاتور يعرض شاشات التلفزيون صورًا عنيفة لعساكره في مواجهة من يعارضونه.
يحلم ترامب بدور مغاير تمامًا لعساكره عما اعتادت عليه الولايات المتحدة طوال عقود، حيث تناوبت على إدارة شؤونها إدارتي الديمقراطيين والجمهوريين، فترامب يرى في الجيش قوة أساسية لتعزيز الأمن الداخلي إلى جانب أجهزة إنفاذ القانون المحلية.
وكان أحد أبرز محاور حملته الانتخابية الأخيرة، وأحد أسباب نجاحها، هو إطلاق وعود متطرفة بشن أكبر عملية ترحيل للمهاجرين غير المسجلين، الذين يُقدر عددهم بين 10 و20 مليونًا على الأراضي الأمريكية. وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلن على حسابه في “تروث سوشال”، منصة التواصل الاجتماعي الخاصة به وبحزبه، أنه يدرس إمكانية الاستعانة بقوات الحرس الوطني والقوات النظامية في الجيش الفيدرالي لتنفيذ هذه الأجندة، ضمن حالة طوارئ يُعلن عنها في البلاد مع بداية توليه لمهامه في نهاية يناير/كانون الثاني.
وفي أول يوم له في البيت الأبيض، وقع ترامب حزمة واسعة من القرارات التنفيذية، أعلن من خلالها حالتي طوارئ. الأولى مخصصة للحدود الجنوبية للولايات المتحدة مع المكسيك، بينما الثانية تتعلق بقطاع الطاقة.
إلى جانب مشروع الترحيل، يضيف ترامب دورًا محوريًا للمؤسسة العسكرية الأمريكية في تأمين حدود البلاد مع المكسيك، من خلال منع المهاجرين غير المسجلين من التسلل إلى الأراضي الأمريكية، كما يتضمن القرار إشرافًا مباشرًا من الجيش على إتمام عملية بناء الجدار الفاصل على طول الحدود، التي بدأها ترامب خلال فترته الرئاسية الأولى، بينما شهدت تلكؤًا من إدارة بايدن في إتمامها.
لتبرير تصوره الجديد لدور المؤسسة العسكرية الأمريكية، يستند ترامب إلى قانونين أساسيين هما قانون الأعداء الأجانب لعام 1798، وقانون التمرد لعام 1807، اللذان تم استخدامهما في خمسينيات وستينيات القرن الماضي لردع أعمال الشغب في عدة مدن أمريكية، والتي كانت تستهدف سياسة الفصل العنصري، ومن أبرزها مدينة ديترويت. آخر مرة تم فيها استخدام هذا القانون كانت في عام 1992 لفض احتجاجات للسود على تبرئة ضباط أمريكيين بيض من الاعتداء على الأمريكي الأسود رودني كينج، وذلك في نهاية عهد جورج بوش الأب.
خلال فترته الرئاسية الأولى، حاول ترامب إصدار مرسوم لاستخدام قانون التمرد في أعقاب الاحتجاجات التي تلت مقتل جورج فلويد على يد الشرطة، إلا أنه في النهاية قرر توظيف الحرس الوطني لاحتواء الاحتجاجات والسيطرة عليها، دون الحاجة إلى تفعيل القانون المذكور.
قانونيًا، لا يوجد ما يمنع ترامب من استخدام بعض أقسام المؤسسة العسكرية، وخاصة الحرس الوطني، وهي قوات عسكرية تابعة للولايات وتعمل تحت إمرة حكامها، في بعض الشؤون الوطنية والفيدرالية، إلى جانب مؤسسات إنفاذ القانون المحلية والفيدرالية، بشرط ألا يُجبروا على ذلك وفقًا لتعديل عام 1996 على قانون الهجرة والجنسية. وقد شهدت إدارات أمريكية سابقة، مثل إدارة أوباما وإدارة جورج بوش الابن، وكذلك إدارة بايدن، استخدامًا لهذه القوات في تأمين الحدود الجنوبية للولايات المتحدة مع المكسيك.
في المقابل، يحدّ قانون التوكيل “Posse Comitatus Act” من إمكانية استخدام القوات العسكرية النظامية في شوارع الولايات لأغراض إنفاذ القانون المحلي، بما في ذلك القبض على المهاجرين غير المسجلين وترحيلهم عن الأراضي الأمريكية.
الاستثناء الوحيد هو المهام التوجيهية والتدريبية التي يمكن أن تقدمها القوات النظامية لمؤسسات إنفاذ قوانين الهجرة وقوات الشرطة المخولة بهذا الدور. ومع ذلك، يحتوي قانون التوكيل على استثناءات تتعلق بحالات الإرهاب والتمرد في المدن الأمريكية، ما يرفع الحرج عن الرئيس في توجيه القوات العسكرية النظامية لإعادة الأمن، وهو ما يمكن لترامب استغلاله في حال الحاجة.
إلا أن التحدي الرئيسي الذي يواجه توظيف المؤسسة العسكرية في تأمين الحدود وترحيل المهاجرين غير المسجلين يكمن في كيفية تنفيذ هذا التوظيف، ومدى القدرة على التوفيق بينه وبين احترام الحقوق الدستورية التي يتمتع بها أبناء المهاجرين غير المسجلين، وحتى تلك التي يتمتع بها المهاجرون غير المسجلين أنفسهم، ولو بالحد الأدنى من ضمانات المحاكمة العادلة المعروفة بـ”Due Process”.
وقد شهدت فترة ترامب الرئاسية الأولى العديد من المخالفات المتعلقة بهذه النقطة، رغم أن عمليات الترحيل كانت أقل بكثير مما تم التعهد به في وعوده الانتخابية الحالية. وكان ذلك أحد الأسباب التي دفعت محكمة النقض العليا إلى وقف تنفيذ سياسة ترامب بترحيل المهاجرين غير المسجلين، بسبب انتهاكها للحقوق الدستورية الأمريكية.
واليوم، تبدو المؤسسات الحقوقية في استعداد تام لإطلاق مساعيها القانونية والقضائية لمنع تنفيذ معسكر الترحيل الجماعي باستخدام قوات المؤسسة العسكرية الفيدرالية والوطنية.
داعمو الإرهاب.. مناصرو الحق الفلسطيني
لا يتوقف الدور الذي يسعى ترامب لتكليف المؤسسة العسكرية به عند إنفاذ سياسات الهجرة فقط، بل إن الخطر الحقيقي يكمن في استخدام المؤسسة العسكرية لمواجهة من وصفهم بـ”العدو من الداخل”، في إشارة إلى مناوئيه السياسيين الذين يحملون أجندات يسارية وليبرالية في الولايات المتحدة.
في ظل قانون الوطنية (Patriot Act) الذي يتيح للرئيس تحريك القوات العسكرية النظامية وحرس الحدود وقوات الاحتياط لمواجهة أعمال مصنّفة على أنها إرهابية داخل المدن الأمريكية، دون الحاجة لموافقة الكونغرس، يبرز خطر اتهام ترامب للأمريكيين الذين يشاركون في الاحتجاجات والحراك الاجتماعي بالإرهاب.
ألمح ترامب إلى هذا التصنيف عدة مرات أثناء الاحتجاجات الطلابية التي شهدتها الجامعات الأمريكية، والتي وصلت ذروتها في أبريل/نيسان 2024، حيث اتهم القائمين على الحراك من طلاب وحقوقيين وأساتذة جامعيين بدعم الإرهاب، وتوعدهم بالترحيل من الأراضي الأمريكية.
ويبدو أن الرئيس الأمريكي لم ينسَ وعده، ففي أول يوم له في المكتب، وقع ترامب أحد أكثر القرارات التنفيذية جدلية وخطرًا، وهو القرار التنفيذي 13224، الذي يمنح الولايات المتحدة الحق في تشديد فحص تأشيرات الدخول بناءً على ميول وتوجهات المتقدمين.
كما يمنح القرار السلطات الأمريكية الحق في ترحيل من يُعتبر داعمًا للإرهاب أو ناشرًا لخطاب الكراهية داخل البلاد، وهذا القرار الفضفاض والغامض يشكل تهديدًا خطيرًا حتى لأولئك الذين يتواجدون على الأراضي الأمريكية بتأشيرات قانونية.
وفي وقت لاحق، أصدر الرئيس الأمريكي أمرًا تنفيذيًا لمكافحة ما يسمى بـ”معاداة السامية” والذين ينص على ترحيل الأجانب الذين “ينتهكون القانون” بمن فيهم الناشطون المناهضون لـ”إسرائيل”.
أخيرًا، ورغم الخلافات القانونية التي من المرجح أن تثار لمواجهة هذه القرارات التنفيذية التي تفتقر للأساس الدستوري، ما يعني تقييد قدرة القوات الفيدرالية على تنفيذ الأجندة الترامبية، تكشف فترة صعود ترامب في المشهد السياسي الأمريكي منذ عام 2016 عن تحول الرئيس الجمهوري، الذي تبنى شعار حركة “ماجا” اليمينية المحافظة “اجعل أمريكا عظيمة مجددًا” وطرح نفسه كأب روحي لها، إلى محرض على خصومه ومقلقي نومه.
هذا التحول يُسهم في تحفيز الميول العنيفة لدى حركة “ماجا”، خصوصًا الحركات الأكثر تطرفًا مثل “البراود بويز” و”القسم المقدس”، على نحو يحولها إلى أداة تنفيذ بديلة عن قوات إنفاذ القانون الشرعية، باستخدام البلطجة والعنف الذي يخرج عن السيطرة.
وقد شهدت الساحة الأمريكية عدة تحركات عنيفة من حركة “ماجا” في مناسبات عديدة، حيث افتقر ترامب إلى دعم مؤسسات إنفاذ القانون، مثل احتجاجات أوهايو ضد سياسات بايدن المتعلقة بفرض قناع الوجه وتطعيمات كوفيد-19، والاحتجاجات العنيفة التي حرض عليها ترامب عندما دَعا أنصاره لمهاجمة مبنى الكابيتول في 6 يناير/كانون الثاني 2021 رفضًا لتتويج بايدن رئيسًا للولايات المتحدة.
وما يجعل هذا السيناريو مرشحًا للتكرار هو تبرئة ترامب من تهمة التحريض في الكونغرس، ثم منحه عفوًا رئاسيًا للمتهمين في أعمال البلطجة بمجرد توليه مهامه في البيت الأبيض يوم 20 يناير/كانون الثاني الماضي.