في مثل هذا الوقت من كل عام منذ عام 2012 تتجه الأنظار صوب القاهرة ترقبًا لتطورات المشهد المصري على مستوياته كافة، الاجتماعي والحقوقي والسياسي والاقتصادي، تزامنًا مع ذكرى ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، والتي في الغالب تفرض نفسها على الأجواء مهما نجحت السلطات المصرية في تغييبها كحدث يعيد الأذهان إلى حلم المصريين – غير المكتمل – في التغيير.
استنفار أمني مشدد، إعلان حالة الطوارئ القصوى، استعدادات على قدم وساق، مدرعات الأمن تتمترس في الميادين والشوارع الرئيسية، انتشار مكثف لعناصر الأمن والجيش معًا، موجات اعتقالات موسمية، وحملات إعلامية ممنهجة لشيطنة الثورة وتخوين الثوار وسحب بساط الاحتفال بها لصالح عيد الشرطة منفردًا والذي يصادف يوم الثورة كذلك.
وتأتي ذكرى الثورة هذا العام متزامنة مع تطورات إقليمية كان لها صداها ووقعها المؤثر على الساحة المصرية، أبرزها نجاح الثورة السورية في الإطاحة بنظام الأسد بعد 14 عامًا من الصمود والمعافرة، والمستجدات على الساحة الفلسطينية والصمود الأسطوري للمقاومة والشعب الفلسطيني، وهي الأحداث التي منحت تلك الذكرى زخمًا استثنائيًا مقارنة بالسنوات الماضية.
وبينما يستعد المهتمون بالشأن الحقوقي لحمل حقائبهم لتقييم الملف الحقوقي المصري في الذكرى الرابعة عشرة للثورة، إذ بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يصدر قرارًا جمهوريًا بالعفو عن 4466 سجينًا، بمناسبة احتفالات 25 يناير، القرار أثلج صدور الكثيرين وقوبل بالترحيب كونه خطوة منشودة باتجاه إطلاق سراح المحبوسين، لاسيما معتقلي الرأي، غير أن في التفاصيل تكمن المعضلة.
قوائم خالية من معتقلي الرأي
المتابع لقائمة الأسماء المفرج عنها وفق القرار الرئاسي يجد أنها خالية من أي من معتقلي الرأي من المحبوسين بسبب مواقفهم وآرائهم السياسية من المعارضين والنشطاء والحقوقيين والصحفيين، إذ جاء قرار العفو تحديدًا عن باقي مدة العقوبة (أغلبهم قضى معظم مدة العقوبة المقررة) من المحكوم عليهم في جرائم جنائية مختلفة، مراعاة لظروفهم الإنسانية بحسب نص القرار.
الأمر ينطبق أيضًا على قرار السيسي في ديسمبر/كانون الأول الماضي حين أصدر قراره بالعفو عن 54 سجينًا من أبناء سيناء، من المحكوم عليهم في قضايا مختلفة، وهو القرار الذي ذكرت الرئاسة المصرية في إفادة لها حينها بأنه “استجابة لطلب نواب ومشايخ وعواقل رفح والشيخ زويد، بمحافظة شمال سيناء”، منوهة أنه “يأتي تقديرًا للدور التاريخي لأبناء سيناء في جهود مكافحة الإرهاب، وتحقيق التنمية والاستقرار”.
القرار حينها ثمنه الكثير من الحقوقيين باعتباره خطوة مهمة في تحسين العلاقة بين الدولة وأبناء سيناء، غير أن تفاصيله واقتصاره فقط على المحكوم عليهم في قضايا جنائية، كوضع اليد على الأراضي أو تجارة المخدرات أو القتل، وتجاهله للمعتقلين بسبب مواقف أو آراء سياسية ما، أفقده مضمونه الحقوقي.
تجميل الصورة
تأتي معظم قرارات الإفراج عن المحبوسين ممن قضوا فترات من الأحكام الصادرة بحقهم داخل السجون استنادًا إلى المادة (52) من قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم (396) لسنة 1956، في شأن تنظيم السجون، والتي تنص على أنه: “يجوز الإفراج تحت شرط عن كل المحكوم عليه نهائيًا بعقوبة مقيدة للحرية إذا أمضى في السجن ثلاثة أرباع مدة العقوبة وكان سلوكه أثناء وجوده في السجن يدعو إلى الثقة بتقويم نفسه، وذلك ما لم يكن في الإفراج عنه خطر على الأمن العام، ولا يجوز أن تقل المدة التي تقضى في السجن عن تسعة أشهر على أية حال، وإذا كانت العقوبة هي السجن المؤبد فلا يجوز الإفراج إلا إذا قضى المحكوم عليه في السجن عشرين سنة على الأقل”، وهو القانون المعروف لدى المصريين بـ “قانون الإفراج المشروط”.
ومن هنا غاب المعارضون والنشطاء ومعتقلو الرأي عن مثل تلك القوائم، رغم أنه من صلاحيات الرئيس أن يصدر بشأنهم قرارات عفو عامة وغير مبررة، وهو الأمر المثير للجدل والذي يتعارض تمامًا مع التصريحات الصادرة عن السلطات الرسمية بشأن الاستجابة لمخرجات الحوار الوطني التي كان من بينها المطالبة بالإفراج عن المحبوسين احتياطيًا على ذمة قضايا سياسية.
ويرى البعض أن التزامن بين إصدار قرارات العفو الرئاسية تلك – الخالية من المحبوسين على خلفية قضايا رأي – وبين ذكرى ثورة يناير، غير مقصود بالمرة، فالتوقيت هنا مرتبط بشكل أساسي بموعد الدورة الرابعة لآلية الاستعراض الدوري الشامل لملف حقوق الإنسان المصري أمام مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة والمقرر لها في الثامن والعشرين من الشهر الجاري.
وعليه يحاول النظام المصري الحاكم تجميل صورته المشوهة في اللحظات الأخيرة قبل استعراض ملف مصر الحقوقي – الذي يواجه انتقادات لاذعة من العديد من الكيانات الحقوقية المصرية والدولية – أمام الأمم المتحدة، وفي الوقت ذاته تعزيز شعبيته المتآكلة جراء الفشل على كل المستويات وإثقال كاهل المصريين بما فوق طاقتهم، ما صعد من معدلات الاحتقان الشعبي.
حملات اعتقالات واسعة
في مسار يعكس حجم التناقض الفج، ففي الوقت الذي يحتفي فيه الإعلام الموالي للنظام بخطوة الإفراج عن بعض المحبوسين، وهي خطوة واجبة الإشادة لا خلاف على ذلك حتى وإن كانت منقوصة ومُسيسة، لا تتوقف السلطات الأمنية عن حملات الاعتقال التي تشنها بحق المعارضين والنشطاء، حيث شهدت الأيام الماضية موجة توقيف واعتقالات عمقت مشاعر الإحباط واليأس لدى المؤملين أنفسهم بانفراجة في هذا الملف الإنساني المعقد.
وفي ذات السياق رفضت السلطات المصرية مناشدات الكيانات الحقوقية بالإفراج عن المحبوسين على خلفية دعمهم لفلسطين، ممن اعتقلهم الأمن في أثناء استجابتهم لدعوة الرئيس للنزول للتظاهر دعمًا لأهل غزة في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ يقبع نحو 129 شخصًا على الأقل داخل السجون منذ 15 شهرًا، بعضهم كان متواجدًا مصادفة في أثناء عمليات التظاهر.
وبعد دخول اتفاق التهدئة في غزة حيز التنفيذ في 19 من الشهر الجاري، أعادت بعض المنظمات الحقوقية ومن بينها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية (مستقلة) مناشدتها لكل السلطات المعنية، وعلى رأسها النائب العام المستشار محمد شوقي باستخدام صلاحياته والإفراج عن المحبوسين احتياطيًا على خلفية أنشطة سلمية للتعبير عن دعم فلسطين، لافتة إلى أن اعتقالهم جاء في أثناء اشتراكهم في التظاهرات العفوية التي خرجت تلبية لدعوة رئيس الجمهورية، وتندرج تحت عناوين حرية التعبير عن الرأي، وأن الحبس إنما جاء مخالفًا للقانون والمواثيق الحقوقية الدولية.
الحبس الاحتياطي.. من الاحتراز إلى التنكيل
مع قرب انعقاد جلسات الاستعراض الدوري الشامل (UPR) لملف حقوق الإنسان في مصر، أصدرت الشبكة المصرية لحقوق الإنسان (مستقلة) تقريرًا حقوقيًا حول الحبس الاحتياطي المطول، والذي تحول من إجراء احترازي لضمان سلامة المحاكمات وعدم هروب الموقوفين إلى وسيلة للتنكيل السياسي والإساءة المنهجية.
ووثق التقرير استنادًا إلى عشرات الحالات والشهادات والمواد الموثقة كيف بات الحبس الاحتياطي أداة عقابية تُستخدم لمعاقبة المحتجزين، خاصة المعارضين السياسيين والنشطاء الحقوقيين، ما يمثل انتهاكًا فاضحًا لمواد الدستور المصري والقوانين الوطنية، هذا بحلاف خرقه لكل المعايير الدولية المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق التي تُلزم الدولة بحماية حقوق المحتجزين ومنع إساءة استخدام السلطات.
وتكتظ السجون المصرية ومراكز الاحتجاز الشرطية بالآلاف من المحبوسين احتياطيًا على ذمة قضايا سياسية وفق منظمات حقوقية، كثير منهم انتهت المدة القصوى لحبسهم الاحتياطي والمقررة بعامين، بحسب القانون، لكن مع ذلك لم يُفرج عنهم، حيث يتم تدويرهم على ذمة قضايا أخرى بما يضمن بقاءهم داخل السجون والمعتقلات كنوع من التنكيل والخنق.
المرأة أيضًا لم تفلت من هذا التضييق، حيث تعرضت للكثير من الانتهاكات على مختلف المستويات، وهو ما وثقه التقرير المجمع الصادر عن مجموعة من المنظمات والمبادرات المعنية بحقوق النساء والفتيات في مصر والذي تطرق إلى أوضاع حقوق النساء والفتيات في مصر في الفترة ما بين 2019 و2024.
واستعرض التقرير الانتهاكات التي تعرضت لها المرأة المصرية خلال السنوات الخمسة الماضية، مقسمًا إياها على عدة زوايا، أبرزها واقع العنف والتمييز المبني على النوع الاجتماعي، والصحة والحقوق الجنسية والإنجابية، وحقوق النساء في المجال العام بما فيها التعليم والعمل، وأزمة القوانين المنظمة للأسرة في مصر، واستهداف المدافعات عن حقوق الإنسان، وتجريم تعبير النساء عبر الإنترنت، وفاعلية الاستراتيجيات والآليات الوطنية في إرساء حقوقهن أو وقف أشكال التمييز التي تمارس ضدهن.
وشارك في التقرير كل من مؤسسة مركز قضايا المرأة المصرية، ومؤسسة براح آمن، والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ومؤسسة المرأة الجديدة، وتدوين لدراسات النوع الاجتماعي، ومؤسسة ترانسات، والتحالف الإقليمي للمدافعات عن حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلى جانب منظمات ومجموعات أخرى اختارت ألا تفصح عن مشاركتها.
عسكرة الحياة المدنية.. توجه مثير للخوف
بالتوازي مع تضييق الخناق على المعارضين والزج بهم في السجون وافتقاد مسار التقاضي لمعايير النزاهة بحسب شهادات حقوقيين وتوثيقات منظمات حقوقية معتبرة، تسير الحكومة المصرية في طريق عسكرة القطاع المدني بشكل مقلق ومثير للجدل في آن واحد، في سابقة هي الأولى في تاريخ الدولة المصرية أن تشهد تلك الانتكاسة من المدنية إلى العسكرة.
في أبريل/نيسان 2023، فوجئ رواد منصات التواصل الاجتماعي ببعض المقاطع المرئية المنتشرة والتي توثق اصطفاف عدد من المعلمين أمام رئيس الجمهورية في أكاديمية ناصر العسكرية وبحضور قيادات عسكرية أبرزها وزير الدفاع، فيما يشبه “كشف الهيئة” لاجتياز اختبارات القبول للتعيين كمعلمين في وزارة التربية والتعليم، وقد تضمنت تلك المشاهد بعض اللقطات التي أثارت حفيظة المصريين، وتنذر بتدشين موجة جديدة من التمييز على حسب التوجهات والآراء.
المشهد حينها كان صادمًا، فما العلاقة بين التدريس واجتياز دورة تدريبية داخل أكاديمية عسكرية والعرض على رئيس الدولة وقيادات الجيش، ومما زاد الطين بلة أن التعيين نفسه بات مشروطًا بالحصول على تلك الدورات واجتيازها بشكل كامل، الصورة كانت مربكة ومقلقة وجدلية في نفس الوقت.
ورغم الانتقادات الحادة التي تعرضت لها تلك المشاهد والتحذير من عسكرة المدنيين وتداعيات ذلك على نسف معايير العدالة والمساواة والارتكان لأبجديات الانتقائية وفق مواقف الناس وتوجهاتهم السياسية، فيتم تعيين المؤيدين واستبعاد المعارضين، إلا أن أحدًا لم يلق بالًا لتلك الانتقادات، فتوسعت رقعة المشهد لتشمل قطاعات أخرى كالنقل والنيابة والقضاء والخارجية والأوقاف.
المنظمات الحقوقية ترى أن هذا الأسلوب سيفتح الباب على مصراعيه أمام شرعنة وتكريس التدريبات العسكرية كباب للتعيينات في مختلف الوظائف المدنية، كما سيحول أكاديمية ناصر العسكرية التي تحتضن تلك الدورات إلى البوابة الوحيدة للدخول إلى العمل الحكومي، وهو ما يعد مخالفة دستورية واضحة للمادة (53) من الدستور التي تمنع التمييز بين المصريين لأي سبب كان، كذلك المادة (11) التي تكفل المساواة بين المرأة والرجل بما فيها التعيينات بالوظائف العامة.
في ضوء ما سبق بات واضحًا أن هناك إصرارًا من النظام المصري على المضي قدمًا في طريق تضييق الخناق واستمرار الانتهاكات بحق المعارضين والنشطاء، غير مبال بالتجارب الإقليمية ودروسها المستفادة، وأن أي وعود حول حدوث انفراجة في هذا الملف، وما يصحبها من قوائم عفو شكلية، يكون وازعها الأول الدعاية والتسويق وتجميل صورة النظام الملطخة حقوقيًا.