إن ترويض ميليشيات الحشد الشعبي أشبه ما يكون بترويض كوبرا بالمزمار قبل إعادتها إلى السلة، أي يجب أن تُسمعها ما يعجبها من الألحان لتصغي وتعود إلى مظلة الدولة وإلا ستقتل من يواجهها بلدغة أعتادت عليها طويلاً ضد خصومها أو من يحاول نزع سُمها.
سلسلة هجمات بالصواريخ وإطلاق التهديدات من قبل ميليشيات الحشد الشعبي الموالية لإيران في العراق ضد المصالح الأمريكية وحلفائها الخليجيين، سواءً المصالح والمقرات العسكرية أو النفطية أو الدبلوماسية (القواعد عسكرية، القصور الرئاسية، السفارات، شركة أكسون موبيل، هجوم على السعودية من العراق.. إلخ) رافقتها زيارة وفد من مجلس الأمن لبغداد مع وجود ضغوط مضادة إقليمية ودولية على الحكومة العراقية من أجل تحجيم دور وممارسات الميليشيات.
أصدر رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي أمراً ديوانيًا مكونًا من عشرة نقاط للبدء بتنفيذ القانون الذي أقرَّ قبل أكثر من 3 سنوات 2016، وقد حدد عبد المهدي سقفًا زمنيًا لتنفيذه بدأ في الأول من تموز/يوليو وانتهى في 31 تموز/ يوليو، والمخالف سيعتبر خارجًا عن القانون، جاء ذلك بعد 6 أشهر من زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى العراق طالبا خلالها تجميد ونزع سلاح 67 ميليشيا.
يتضمن الأمر الديواني دمج الحشد في المؤسسة الأمنية العراقية وفك الأرتباط السياسي والعسكري بين الفصائل المسلحة والأحزاب وتنفيذ قانون الحشد الشعبي وإغلاق المكاتب الاقتصادية التي تتاجر بأنقاض المدن السنية المدمرة ،بالإضافة لإغلاق المقرات المنتشرة في المدن المستعادة من داعش وإنهاء جميع المسميات غير العسكرية وتحويلها إلى تصنيفات عسكرية (فرقة ،لواء،كتيبة..إلخ) وقد أثار الأمر التنفيذي جدلًا واسعاً في الأوساط العراقية ولاقى ترحيبًا من أطراف ورفضًا من أطراف أخرى داخل العملية السياسية.
تظاهرة لميليشيات الحشد الشعبي ضد زيارة كانت متوقعة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى بغداد في نيسان 2018
الاستهتار بالدولة
شُرع قانون هيئة الحشد الشعبي وأقره مجلس النواب العراقي بالأغلبية الشيعية في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 وسط مقاطعة نواب تحالف القوى العراقية السني آنذاك، الذي عدّ إقرار البرلمان قانون الحشد الشعبي “نسفًا للشراكة الوطنية”. القانون لم يخالف الإجماع العراقي فحسب إنما أنتهك الدستور العراقي وخالف المادة (9) – (ب) التي تمنع تشكيل الميليشيات أو أي قوات مسلحة خارج إطار القوات المسلحة العراقية.
نص القانون على أن قوات الحشد ستكون قوة رديفة إلى جانب القوات المسلحة العراقية وترتبط بالقائد العام للقوات المسلحة، وبحسب القانون يتألف الحشد من قيادة وهيئة أركان وألوية مقاتلة، ويخضع للقوانين العسكرية النافذة ولا يسمح بالعمل السياسي في صفوفه، إلا أن ممارسات الحشد وقواه وفصائله وقياداته المتنفذين لم ينفذوا أيًا من بنود القانون حتى بعد إصدار الأمر الديواني من قبل رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي بتاريخ 11/3/2018 المرقم (57) الذي لاقى حينها ردات فعل سلبية وإتهامات للعبادي بتنفيذ أجندات أمريكية وتضييع لدماء الشهداء.
الأوامر الديوانية هي تنفيذ للقانون كقانون “هيئة الحشد الشعبي” وهو اعتراف ضمني متأخر للحكومات العراقية السابقة والحالية بعجزها عن تنفيذه الذي تضمن بنود لصالح الدولة والعملية السياسية كحصر السلاح بيد الدولة وفصل العمل السياسي عن العسكري ومنع المشاركة بالانتخابات لقوى تحمل السلاح، وهو مالم يحصل منذ ذلك الحين وحتى اليوم.
عنصر من الحشد الشعبي تابع لفصيل عصائب أهل الحق
إن الحكومات العراقية المتعاقبة ومنذ عام 2005 وإلى اليوم، عجزت عن تنفيذ واحترام بنود الدستور الذي يمنع إنشاء ميليشيات مسلحة، ومن يعجز عن تنفيذ بنود الدستور سيعجز عن تنفيذ القانون بالضرورة، أما الأمر الديواني التنفيذي الذي يصدره رئيس الوزراء، لم يلقَ أذنًا صاغية من قبل الميليشيات التي لا تؤمن بالدولة ولا بالقانون، فهي اعتادت على العمل العصابي وتنفيذ وحماية أجندات ومصالح إيران في العراق، فقانون القوة هو السائد بدلاً عن قوة القانون بالنسبة لأدوات إيران.
مظلة الدولة للا-دولة
الحشد الشعبي أصبح تشكيلًا مرعبًا لدخوله جميع المجالات بطريقة الحرس الثوري في إيران، وله نفوذ في جميع مفاصل الدولة العراقية، كما مد أذرعه في جميع الملفات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية الحساسة وأصبح قوة لا يستهان بها بفعل قوة السلاح وسطوته على الساحة. وقد صُنف الحشد الشعبي على أنه جهاز أمني مستقل لكنه يتبع وزارة الدفاع العراقية من حيث القانون ويتحرك بمرونة في المدن بإعتباره “جهاز يحارب الإرهاب”. الضغوط الأمريكية والغربية تريد من الحكومة العراقية موقفًا من إيران وأدواتها في العراق، إلا أن الحكومة تتبنى موقف الحياد وهو ما يصب في مصلحة إيران بحسب المنظور الأمريكي الذي لا يميل إلى نصف عدو أو نصف صديق.
جاء القرار ليؤكد لواشنطن أن الميليشيات تعمل تحت راية الدولة وأن أي تحرك ضدها سيعتبر تحرك ضد الدولة العراقية وضد جزء من قواتها المسلحة
إن الأمر الديواني الأخير الذي أصدره عبد المهدي جاء بالتوافق مع قيادات الحشد الشعبي وترحيبهم، فتكرار إصدار الأمر الديواني في هذا التوقيت فيه رسالة للولايات المتحدة بأن الحشد محمي بمظلة الدولة كنوع من الدرع وحصانة ضد أي تحرك أمريكي بشموله وقياداته بالعقوبات لصلاتهم بالحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس.
ولقد جاء القرار ليؤكد لواشنطن أن الميليشيات تعمل تحت راية الدولة وأن أي تحرك ضدها سيعتبر تحركًا ضد الدولة العراقية وضد جزء من قواتها المسلحة، خاصة وأن الحشد الشعبي يعتبر ذراعًا لرئيس الوزراء ويأتمر بأمره قانونيًا، لكن في الحالة العراقية، الذراع يحرك الجسد والرأس وليس العكس، وذلك لقوة الميليشيات وسطوتها وضعف رئيس الوزراء الذي أوصلته الضرورة والتوافق القلق إلى المنصب بين إئتلافي “فتح” و “سائرون”.
قادة الحشد مع الجنرال الإيراني قاسم سليماني
إن الحكومة العراقية تواجه ضغوطاً أمريكية كبيرة لمأسسة حالة الميليشيات وتقليم أظافرها وضبط سلوكها وتحييدها عن أي تحركات أمريكية وخليجية ضد إيران.
تناقضات القوانين والممارسات
تبدأ تناقضات القرارات النظرية والممارسات السياسية والعسكرية من أعلى هرم السلطة “القائد العام للقوات المسلحة”، فبالرغم من أنه الآمر الناهي للقوات المسلحة إلا أن ميليشيات وفصائل الحشد لا تزال مرتبطة بقادتها السياسيين وتخضع لتعليماتهم، كما أن غالبيتهم حلفاء لإيران ولديهم مصالح مشتركة.
انطلق الحشد الشعبي من مبدأ حفظ وحماية أمن العراق وسيادته، وبعد هزيمة تنظيم داعش أصبح الخطر الأكبر على الدولة العراقية؛لصعوبة إقناعها بترك السلاح وممارسة العمل السياسي أو الإنضواء تحت سلطة الدولة التي تحتكر ممارسة العنف وحصر السلاح في نطاقها.
الأمر الديواني الذي أصدره عبدالمهدي لم يُدعَّم الدولة ومأسسة حالة اللادولة وحصر السلاح بيد الأجهزة الرسمية كما يُروَّج، إنما دعَّم حالة الميليشيات بتغطية أفعالها بالقانون والرتب والتصنيفات العسكرية
ومن أهم بنود قانون الحشد الشعبي هو فصل العمل السياسي عن العسكري، إلا أن رئيس هيئة الحشد الشعبي “فالح الفياض” تسلم 3 مناصب رسمية في الدولة وأسس حزبًا سياسيًا اسمه “عطاء”، وشارك في الانتخابات وحصل على أكثر من 20 مقعد وهو رئيس جهاز أمني يمنعه الدستور والقانون من المشاركة السياسية.
الأمر الديواني الذي أصدره عبد المهدي لم يُدعَّم الدولة ومأسسة حالة اللا-دولة وحصر السلاح بيد الأجهزة الرسمية كما يُروَّج، إنما دعَّم حالة الميليشيات بتغطية أفعالها بالقانون والرتب والتصنيفات العسكرية وهو ما قد يخلق صراعًا على النفوذ داخل الجيش إن نُفذ القرار فعلياً، ويجب أن يتبعه قرارات أخرى بإعادة توزيع العناصر وتدريبها وفق أسس جديدة إن كان الهدف إعادة الهيكلة والمأسسة.
رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي
ميليشيات الحشد الشعبي تعتبر جزءًا من الأجهزة الأمنية العراقية لكنها لا تحترم الاتفاقيات الأمنية الموقعة مع واشنطن وتُحرج الدولة العراقية بتهديدها للوجود الأمريكي أو إطلاق الصواريخ على المقرات والمصالح الأمريكية، وهذا يطرح تساؤلًا حول ولائهم وأهداف أعمالهم والمصلحة التي تصب فيها.. العراق أم إيران؟
من المفترض ألا تتدخل الأجهزة العسكرية في العمل السياسي لكن الميليشيات لا تتدخل في السياسة الداخلية فحسب إنما تعلق على أحداث في السعودية والبحرين ولبنان وتشارك ببعض عناصرها في القتال بسوريا واليمن لمساندة بشار الأسد والحوثي، بدون أي رادع حكومي أو القدرة على وضع حدٍّ لها.
تنامى دور الميليشيات وتكرس في العراق حتى أصبحت لاعبًا سياسيًا رئيسيًا وشبه عسكري سيُعيق إمكانية بناء الدولة العراقية التي لا تزال تراوح مكانها، كما ستخلق كيانات رديفة لكل ملف دخلته وصنعت نفوذها فيه على شاكلة الحرس الثوري في إيران وهو ما يتناقض جملة وتفصيلًا مع الدستور والقانون وبناء الدولة.
أخيراً ، الحشد الشعبي أصبح قوة لا يمكن تجاوزها ولا يمكن مواجهتها، لا تخضع لقانون ولا تلتزم بدستور تحمل فكراً إيديولوجيًا عابراً للحدود وتعتبر ذراعًا إيرانيًا للتغلغل الرسمي داخل الدولة مما يشكل دولة عميقة توالي إيران وتقدم مصلحتها على مصلحة العراق.