شرَّع الله فريضة الحج على عباده المسلمين، كإحدى فرائض الإسلام الخمسة، التي لا يكتمل إسلام المرء إلا بها، مالم يستطع إليه سبيلا، تلك الفريضة التي تُطهير العباد من ذنوبهم وآثامهم، وتربطهم بخالقهم، وتذكرهم باليوم الذي يغادرون فيها هذه الدنيا، مجردين من ملابسهم ومن مفاتن الدنيا وما يتعلق بها، وملفوفين بأكفان لا تختلف عن ملابس الاحرام بشيء، ليفضون إلى ربهم كُلًا بعمله، فيعيَّ العبد الحكمة من ذلك، ويعدُّ لذلك اليوم عدَّتهُ، ليرجع إلى أهله وهو متعلق بالأخرة، متطهرًا من ذنوبه.
تلك العبر والحكم، ثم الاجر العظيم بعد إداءِ هذه الشعيرة، يبدوا إنها قد غابت عن كثير من سياسيينا وهم يتسابقون فيما بينهم، إيهم يفوز بأكثر عدد من مقاعد الحج، ويتسابقون بعدد المرات التي يذهبون بها إلى الحج، تاركين ورائهم وطنًا ممزقًا منهوبًا من قبلهم. فيا ترى ونحن نرى هؤلاء السياسيون وهم يسجدون لرب الكعبة، هل يسجدون بسبب تقواهم؟ أم بسبب ثقل الآثامٍ والأوزارٍ التي تسببت بتقوس ضهورهم؟
إن الفساد الذي يستشري بهيئة الحج لا يختلف عن نظيره في مؤسسات الدولة الأخرى، فهي تستوفي من كل مواطن يرغب في التسجيل على قرعة الحج، مبلغ يسمى بـ”شيكات رسوم التسجيل” يصل مقدارها إلى (26) دولار غير قابلة للإرجاع
في مثل هذه الأيام من كل سنة تُرفع إلى الله دعوات المسلمين المستضعفين في العراق، بالويل والثبور لمسؤولي العراق، ويخصون بالذكر منهم، مسؤولي هيئة الحج. تلك الهيئة التي جعلت من الحج، موسمًا للتنافس السياسي والمجاملات السياسية، وموسمًا للاستثمار من أموال السحت التي يجنوها من جموع المؤمنين بغير وجه حق. فهي تقوم بأخذ جزء كبير من المقاعد المخصصة للمواطنين العراقيين، لتهديها إلى الكتل السياسية من برلمانيين ومسؤولين حكوميين وأعضاء أحزاب وعناصر مليشيات، والبعض الاخر تقوم ببيعه للميسورين حالًا من العراقيين، ربما تعتقد هذه الهيئة وهي تقوم بهذا الأسلوب، ستعمل على تقليل الآثام والأوزار التي يحملوها أولئك السياسيين والميلشياتين وتكفر عن الجرائم التي ارتكبوها بحق الشعب العراقي، ليعدوا كما أنجبتهم أمهاتهم بريئين من الخطايا والآثام، لكن هذا عشم ابليس بالجنة.
إن الفوضى التي تعتري عملية القرعة التي تجريها هيئة الحج بشكل متعمد، والتي يغبن فيها حق الكثير من العراقيين بنيل استحقاقاهم للذهاب إلى الديار المقدسة، تقوم الهيئة بذات الوقت بإجراء بديل، لابتزاز المواطنين، بما يعرف بالحج التجاري، وهي المقاعد التي يتم بيعها بمعزل عن الدخول بالقرعة التي تنظمها، وتصل أسعارها لمبالغ خيالية لا يقوى على دفعها أغلب المواطنين، إنما يتم استحصال أموالها من الميسورين، أو من يضطر لدفعها بسبب عدم فوزه بالقرعة لمرات عديدة. هذا ما كشفه أحد النواب بالبرلمان العراقي، حينما أتهم هيئة الحج بالمتاجرة بمقاعد الحج، وبيعها بأكثر من عشرة ألاف دولار للفرد الواحد، في مشهد مخزي من مشاهد المتاجرة بالدين، لم نسمع دولة قد فعلتها من قبل، بل أنفرد بها العراق دونًا عن أمة المسلمين.
إن الفساد الذي يستشري بهيئة الحج لا يختلف عن نظيره في مؤسسات الدولة الأخرى، فهي تستوفي من كل مواطن يرغب في التسجيل على قرعة الحج، مبلغ يسمى بـ”شيكات رسوم التسجيل” يصل مقدارها إلى (26) دولار غير قابلة للإرجاع، سواءً في حالة فوزه بالقرعة أم لا، تلك الأموال ليست قليلة، إذا ما رأينا عدد الذين يقدمون على تلك القرعة سنويًا، فقد وصلت إلى ستين مليار دينار في قرعة السنة الماضية، حينما تقدم مليوني مواطن لقرعة الحج. كما وتُوجب هيئة الحج على المواطنين الذين يفوزون بالقرعة، دفع نصف مبلغ تكاليف الحج المقدرة بأكثر من أربعة ملايين دينار، حتى لو كان موعد ذهابه بعد سنة أو سنتين، لتستثمر الهيئة تلك الأموال بدون وجه حق وبدون إذن صاحبها، بأسلوب أقرب ما يكون بالسرقة العلنية، لكن الناس مضطرين للامتثال لتلك الإجراءات طمعًا في الفوز بفرصة الذهاب للحج، ونيل رضا الله بتطبيق هذه الشعيرة الإسلامية.
الذي يثير غضبنا كعراقيين، أن تجد المملكة السعودية هي الأخرى تتماهى مع النظام العراقي في تلك الإجراءات، رغم علمها بفساد المنظومة الحكومية العراقية
من جانبها، فإن هيئة الحج لا تعترف بالفساد الذي يستشري في هذه المؤسسة، حالها كحال كل مؤسسات الدولة الفاسدة، بل أنهم يبررون تلك الإجراءات، بأنها تصب بالصالح العام، وإن الأموال التي تجنيها من المقترعين، تذهب لتغطية نفقات الحجاج، لكن المواطنين يكذّبون تلك المبررات، لأن هيئة الحج تستوفي من كل حاج مبلغ يصل إلى أربعة ملايين و850 دينارا لتغطية نفقات السفر والسكن الطعام أثناء أداء فريضة الحج.
لكن الذي يثير غضبنا كعراقيين، أن تجد المملكة السعودية هي الأخرى تتماهى مع النظام العراقي في تلك الإجراءات، رغم علمها بفساد المنظومة الحكومية العراقية، فعندما رفعت المملكة حصة العراق من مقاعد الحج إلى 50 ألف مقعد، كانت موجهة للشعب العراقي ولصالحه، لكنها تعلم علم اليقين، كيف إن المسؤولين العراقيين يتاجرون في تلك المقاعد ويحرمون منها عموم العراقيين الذين ينتظرون لسنوات دون أن ينالوا فرصة الذهاب للديار المقدسة لتأدية فريضة الحج، وكثير منها تذهب إلى المسؤولين السياسيين والميلشياتين ليتاجروا بها. بل إن المملكة مع علمها بهذا الفساد، فتحت باباً آخر للتنافس بين القوى والكتل السياسية العراقية لتحاول شراء بعضها، من خلال منحها نسب محددة من تلك المقاعد سنوياً بمعزل عن حصة العراق المقررة مسبقًا، بما أصطلح عليها في العراق، بمقاعد المجاملة أو “حج المجاملة”، والمملكة تعرف مسبقًا بأن تلك الحصص سيكون مصيرها البيع للمواطنين، الذين يضطر بعضهم لشرائها بأغلى الأسعار طمعًا بإداء مناسك حجه قبل أن يتوفاه الله بعد أن بلغ من العمر مرة متقدمة، بالرغم من أن كبار السن، يفترض أن تكون لهم النسبة الأكبر من مقاعد الحج كما قررتها الهيئة، وبذلك تكون المملكة مشتركة بالفساد أو داعمة له.
ما يجري في هيئة الحج لم يعد سرًا على أحد، وراحة الفساد التي تفوح من هذه الهيئة بدأت تزكم الانوف، للدرجة التي جعلت رئيس الوزراء عادل عبد المهدي يقوم بتوجيه أمرٍ لتلك الهيئة بأن ترفع له تقرير مفصل حول أي حزب أو جهة تضغط عليها من أجل الحصول على مقاعد حج إضافية، وهو يعلم بهم ولا يحتاج لتقرير بذلك، بل إن من المثير للسخرية أن تجد أعضاءً في مجلس النواب، يقترح بـ15مقعد حج كحصة لكل برلماني، وآخرون يعتبرون التوزيع يجب أن يكون على حجم الكتلة البرلمانية، بطريقة مشابه لاقتسامهم مغانم تشكيل الحكومة وتوزيع المناصب الحكومية وفق المحاصصة الحزبية والطائفية.
أن المنح والهبات من مقاعد الحج التي تمنحها هيئة الحج وسفير المملكة السعودية في بغداد للنواب والسؤولين الحكوميين والكتل السياسية، هي باب جديد من أبواب الفساد
وتجد قاعات البرلمان تكاد تخلو من النواب بحجة الذهاب لإداء مناسك الحج، وكأنهم قد أدّوا واجبهم بخدمة شعبهم، ولم يتركوه يتجرع صعوبات الحياة المعيشية بكل أنواعها. ولا أعرف ماذا يريدون أن يثبتوا للأخرين من ذلك؟ هل يريدون البرهنة عن صدق توجهم الإسلامي كأحزاب إسلامية؟ أو إثبات عمق نزاهتهم وتقواهم!!، ولو كانت تلك حقيقة نيتهم وهدفهم من الذهاب للحج، فإن اغاثة ملهوفٍ أعظم أجرًا عند الله من قيامهم بالحج، وما أكثر الملهوفين في العراق الذين يحتاجون للإغاثة. لقد كان ابائنا وأجدادنا فيما سبق، يطوفون على كل من يعرفوه ليطلبوا منه العفو والسماح إذا كانوا قد اخطأوا بحقه، حينما يريدون الذهاب لإداء مناسك الحج، فماذا فعل سياسيونا؟ هل لديهم قدرة للحصول على مسامحة ملايين العراقيين الذين أجرموا بحقهم؟ وهل سيسامحهم العراقيين على جرائهم؟ لدي في ذلك شك كبير.
إن المنح والهبات من مقاعد الحج التي تمنحها هيئة الحج وسفير المملكة السعودية في بغداد للنواب والسؤولين الحكوميين والكتل السياسية، هي باب جديد من أبواب الفساد، واغتصابٍ لحق المواطن العراقي بإداء هذه الشريعة بكل كرامة لا تفضلًا عليه من أحد. وعلى المملكة أن لا تستغل دورها بخدمة الحرمين الشريفين لأغراض سياسية، ربما تعود بالضرر على الشعب العراقي المسلم.