أن تُهاجرَ وترحلَ عن موطنِك الأصليّ، لا يعني أن تهاجرَ بجسدك وحسب؛ فالإنسان ليس كتلةً ماديّة صمّاء يمكن تحريكُها من مكانٍ لآخر بلا استجابة، وإنما، في حقيقة الأمر، يرتبط الإنسان وجدانيًا بالسياق، بالمكان والزمان والذكريات وكثير من العوامل التي قد تبدو مادية في ظاهرها، مع أن حصيلة تفاعلها تمثل ذاته الثقافية وهُويته.
هذه الحقيقة التي تؤكدها العلوم الإنسانية التقليدية وفروعها ذات البعد الثقافيّ، بل والعلوم المادية الحديثة كعلوم الأعصاب، وهو ما أثبته يحيى موسى، طبيب النفسية والعصبية المصري، في كتابه “رغم أنف الذكريات” الذي فكك فيه، من منظور علمي، أسباب تطوير أجهزتنا العصبية استجاباتٍ خاصّة مع الأحداث والذكريات، وتؤكدها عمليًا مشاهدة عدم قدرة احتمال بعض الشخصيات الابتعاد عن مواطنهم الأصلية، رغم صلابة تكوينهم الشخصيّ وتعاظم المغريات الماديّة بالخارج.
ومن أجل التغلب على هذه الصعوبات التكيّفيّة النّفسية، لجأ الإنسان إلى اصطحاب ذكرياته معه من موطنه الأصليّ إلى مهاجِرِه الجديدة؛ فكانت عودة اللاجئين اليونانيين إلى وطنهم الأم “اليونان” بعد طول استقرارٍ في تركيا، إثر عمليات التبادل السكاني بين أثينا وأنقرة عام 1923 التي تلت معاهدةَ “لوزان”، المعاهدة الختامية للحرب العالمية الأولى، واستعادةَ تركيا الأراضي التي احتلتها اليونان عام 1919م، خير مثال على ذلك.
يونانيون في رحلة العودة من تركيا إلى وطنهم الأم اليونان بعد اتفاقية لوزان وظهور ما عرف بمشاكل التبادل السكاني
حيث وجد اليونانيون أنفسهم فجأة مضطرين إلى ترك المكان الذي عاشوا فيه، جيلًا بعد جيل، وتطبّعوا بثقافته وتشبعوا بهُويته، متجهين إلى مكان آخر قيل إنه وطنهم الأصليّ؛ مع أنهم في حقيقة الأمر لا يعرفوا عنه شيئًا، فكان قلق المصير المجهول الملبد بالحنين إلى الغربة حيث موطن الذكريات “تركيا”، والخوف من الوطن القانونيّ “اليونان” وما سيؤول إليه حالهم فيه، هي مشاعرهم التي صحبتهم في تلك الرحلة.
ولم تكن هذه المشاعر السلبية المعقدة تجاه ذلك المصير المجهول مجرّد تداع نفسي طبيعي لرحلة هجرة جماعية مفروضة، ولم تقتصر مشاكلهم على مواجهة تحدّي الاندماج في المجتمع الجديد عليهم فحسب؛ بل وجدوا أن اليونان، وطنهم الأم، تعلن عجزها عن استيعاب تلك الأعداد الغفيرة القادمة إليها، والتي مثلت ربع سكان الدولة اليونانية حينها، لأسبابٍ كثيرة أبرزها عدم وجود موارد كافية لسد احتياجاتهم.
فاستعانوا على نزق رحلتهم الغريبة التي يمكن تلخيصها في عبارة “الهجرة إلى الوطن” بالثقافة العابرة للحدود والفنون التراجيدية، لخلق جوّ شجيّ ملائم لهذه التجربة الوجدانية العميقة والأليمة في آن، والتي كان على رأسها موسيقى “الريمبتيكو”. وفي هذا التقرير نحاول أن نتعرف على قصة تلك الموسيقى باستفاضة.
فرقة لموسيقى الريمبيتيكو
أصلها
موسيقى “الريمبيتيكو” Rebetiko، والتي تعرف حاليًا على أنها إحدى أشكال الموسيقى الشعبية اليونانية، وتشتهر بأسماء متعددة كَـ” موسيقى البلوز اليونانية” و”بلوز بحر إيجة”، ظهرت أساسًا في منطقة آسيا الصغرى، وبشكل أكثر تحديدًا في كلّ من سميرنا والقسطنطينية القديمة، قبل أن يجلبها اللاجئون العائدون إلى اليونان معهم، لتصبح أغنيتهم الرسمية المعبرة عن تقاليدهم وثقافتهم واهتماماتهم الاجتماعية، والتي تسللت إلى الأراضي اليونانية من خلال الموانئ الرئيسية التي استقبلت وفود المهاجرين مثل: سالونيك وبيرايوس وڤولوس وسيروس.
وكان العام 1930م بمثابة فجر أغنية الريمبتيكو، حيث كان اللاجئون يجتمعون في الحانات الصغيرة، وعلى طاولاتهم كؤوس النبيذ، وإلى جانبهم آلاتهم الموسيقية كالبزق والجيتار والكمان والسنطور والكونترباص، ويبدأون في التعبير عما يدور بداخلهم في شكل غنائي مرتجل، أي دون وجود كلمات محددة مسبقًا للأغنية، ويتبادلون الواحد تلو الآخر دفة الغناء على المسرح، دون ارتباط أي مقطع بالذي يليه وكأن كل منهم يصعد على المسرح ليحكي حكايته الشخصية المتفردة، التي خلّقتها قسوة السياسة، وهكذا حتى بزوغ الفجر.
وكانت تلك الأغاني ذات الكلمات والألحان العشوائية متسقة مع حالة التشتت والضياع التي لازمتهم منذ وطأتِهِم اليونان، كما كانت تمثل تجسيدًا لشعور الحنين إلى الماضي السعيد الذي لم تبدده عودتهم إلى الأصول والجذور؛ وفي بعض الأحيان كانت تحمل مضامين متفائلة، أملاً في تحسن الأمور رغم السخط على المجتمع.
وقد ناقشت Sotiria Bellou، إحدى أشهر فنانات هذا النوع من الموسيقى، مشاعر جماعتها المتضاربة، كالصداقة والهجرة والمصير والضياع في أغنية “On aeroplanes and ships” والتي تقول فيها:
“على متن الطائرات والسفن
ومع الأصدقاء القدامى
تائهين في الظلام
وأنت لا تستطيع سماعنا الآن”.
طقوس متمردة
وأُطلق على متبعي أسلوب حياة الريمبيتيكو، “Rebetes”، وهي كلمة تركية الأصل تشير إلى التمرّد والتصعلك، حيث تضمن أسلوب حياة “الريبيتس” طرقًا شكلية خاصة في المشي وارتداء القبعات، إلى جانب إطلاق الشوارب الكثّة، وبعض السلوكيات اللفظية كالإكثار من استخدام الشتائم واستخدام العبارات القصيرة والمكثفة من اللغة العامية.
وكان لمغنيي وسامعي تلك الموسيقى طقوس ملازمة أكثر تمردًا على المجتمع المحلّي كتناولهم المخدرات في تجمعاتهم بشراهة، الحشيش بشكل خاص، وقد وثقوها في الكثير من أغانيهم، مثل The mastouras والتي يقول فيها Markos :Vamvakaris
“لقد وهبتني الطبيعة
الكثير من الآلام والمعاناة
ولكن كل ذلك يمضي ويختفي
فقط مع الحشيش”.
كما رافقتهم أثناء غنائهم ونشوتهم بالمخدرات “رقصة الزيبك” الأناضولية والتي يؤديها اليونانيون بارتجال عادة، حيث يكون راقصها في حالة سكر، منفردًا؛ فهو لا يحتاج إلى نساء أو أصدقاء ليصفقوا له أثناء رقصه على الساحة، ولا يخجل خلالها من أن يعبر عن مشاعر الهزيمة والحزن واليأس وأحلام الحياة التي لم تتحقق، والحظ السيئ الذي يرافقه، والظلام الذي يناديه في نهاية النفق، ضاربا – خلالها – عُرضَ الحائط بكل التقاليد والاعتبارات الاجتماعية.
إنها ليست رقصة اجتماعية، ولن يرقصها أحد خلال احتفال أو وليمة؛ ولكنها لحظة شخصية، مثل وقت الصلاة، ويجب على أصدقائه وغيرهم من الناس معرفة ذلك واحترامه. وبالطبع ، لا يُسمح لأي شخص غريب أن يقترب منه أثناء الرقص.
رقصة الزيبك Zeybekiko
تطبيع الفنّ وتطوّره
ولعل تلك الطقوس الغريبة التي يمارسها “الريمبيتس”، والتي تختلط فيها مشاعر الألم والحزن والحب، مع سلوكيات تنتمي إلى عالَم المخدرات والجنس والإجرام والفكر السياسي المتطرف المعادي للمؤسسات، جنبًا إلى جنب مع اصطحاب العديد من العناصر الفنية الشرقية التركية إلى اليونان، التي أصبحت بعد استقلالها عن الدولة العثمانية عام 1821م بعيدةً عن كل ماهو تركي (بشكلٍ نظري على الأقل) كانت سببًا رئيسيًا كي تصبح مرادفًا للخروج على القانون، وسوء السمعة والتجديف في المجتمع اليوناني، الذي عمل حظر انتشارها وتحجيمها قانونيًا.
ومع ذلك، شهدت هذه الثقافة المنبوذة اجتماعيًا ورسميًا تحولًا جذريًا لتصبح جزءًا من المكون الثقافيّ والسياسي العام بغضون عام1960، وامتدادًا للفن الليبرالي المتزامن مع عصر النهضة، كما أصبحت أكثر وصولًا للشرائح الجماهيرية العادية، كتعبير مثاليّ عن نجاح المهاجرين في الاندماج مع المجتمع الجديد، مما جعل اليونسكو تدرجها ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي عام 2017.
الجيل الأول لفناني الريمبيتيكو تولّى المهمة الأصعب على الإطلاق، ألا وهي توثيق رحلة معاناتهم وآلامهم، وتعريف العالم والأجيال القادمة بما مروا به في سبيل العودة إلى الوطن، فكان من أشهر هؤلاء الفنانين “ستوريا بيلو” و”ڤاسيليس تسيتسانيس” و”ماركوس ڤامڤاكريس”، ثمّ تناقل الفن عن الرعيل الأول جيل جديد عرف قيمة تلك الموسيقى، كان من أبرز أسمائه مغنية تدعى “تشيديم أصلان”.
“تشيديم أصلان” Çiğdem Aslan ليست مجرد مغنية ريمبتيكو فُرض عليها هذا النوع من الموسيقى بسبب موهبتها الشخصية في أدائه بل هي اختارته لأنها تحمل رسالة أكبر من الهواية والتكسب المادي. فقد نشأت “تشيدم” في عائلة كردية علوية، عاشت في عشوائيات وأكواخ أسطنبول، ثم منعتها هذه العائلة من ممارسة اللغة الكردية في المنزل كي تستطيع تعلم التركية والتعامل مع زملائها في المدرسة، لتغادر بعد ذلك إلى لندن في 1980م وتدرس الموسيقى وتقوم بإنشاء فريقها الغنائي الذي يعتبر جميع أعضائه من اليونانيين عدا فرد واحد، وسجلت تشيدم عدة أغنيات من تراث موسيقى الريمبيتيكو بغرض تقديمها في شكل معاصر وإحيائها من جديد، ثم قدمت ألبومها الخاص “Mortissa” الذي حقق نجاحًا باهرًا، والذي وضعته لجنة تحكيم الجائزة الموسيقية الألمانية الشهيرة، “جائزة نقَّاد الإسطوانات الألمان”، ضمن قائمة أفضل الألبومات.
ويعتبر “مورتيسا” لقبًا يطلق على المرأة التي تحب الرقص والتدخين ولا تمانع في الاختلاط بالرجال، ومع ذلك تكون صعبة المنال، مستقلة، وتميل بشكل شخصي إلى الوحدة وتفضلها، وهي في ذلك نقيض لربة المنزل المتعارف عليها، والتي كانت تمثل المجتمع اليوناني التقليدي.
وقدمت تشيدم أغانيها بلغات مختلفة، كالإنجليزية واليونانية والكردية والتركية، متجاوزة حاجز الهويات الثقافية المحلية، والتي تعتبرها غير ذات تأثير في الفن، خاصة في فرقتها، التي يهتم كل عضو فيها بالفن لذاته بغض النظر عن هويته.