قدم رئيس هيئة الأركان في جيش الاحتلال، هرتسي هاليفي، كتاب استقالته لوزير الحرب الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، مؤكدًا نيته إنهاء منصبه في 6 مارس/آذار 2025. وحملت رسالة الاستقالة إقرار هاليفي بفشل الجيش في أداء مهمته الأساسية، قائلًا: “فشل الجيش الإسرائيلي في مهمة الدفاع عن إسرائيل، ودفعت الدولة ثمنًا باهظًا”، وأوضح: “أتحمل المسؤولية عن فشل الجيش في 7 أكتوبر/تشرين الثاني 2023. مسؤوليتي عن هذا الفشل الفظيع ترافقني يومًا بيوم وساعة بساعة”.
تمثل استقالة هاليفي منعطفًا مهمًا داخل مؤسسة الجيش الإسرائيلي، إذ يُنتظر أن تتبعها سلسلة استقالات أخرى، ما يمهد لإعادة تشكيل العلاقة بين الجيش والمستوى السياسي في دولة الاحتلال، وتسلط الاستقالة الضوء مجددًا على استحقاق “مسؤولية الفشل”، الذي يتهرب منه العديد من المسؤولين، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء.
يسعى الائتلاف الحكومي بقيادة نتنياهو إلى إبقاء دائرة المسؤولية عن الفشل محدودة في قادة الجيش والأجهزة الأمنية وأذرع الاستخبارات، مستغلًا هذه المرحلة لتعزيز نفوذ اليمين على الجيش، ضمن توجه يعكس رغبة الحكومة في إعادة تشكيل القيادة العسكرية بما يخدم أجندتها السياسية، وتحويلها إلى أداة لتحقيق مصالح نتنياهو وطموحاته.
محطات من التوتر
لم يكن تعيين هاليفي رئيسًا لأركان جيش الاحتلال خيار نتنياهو، فقد بدأت مشاورات التعيين خلال حكومة بينت- لابيد (2021-2022)، التي تمكنت من إبعاد نتنياهو عن الحكم لأول مرة بعد 12 عامًا من السلطة المتواصلة. شكَّل بينيت ولابيد حكومة بائتلاف متنوع ركز على إبعاد نتنياهو، قبل أن يتمكن الأخير من العودة إلى السلطة في ديسمبر/كانون الأول 2022 عبر ائتلاف يميني متماسك.
على الرغم من دخول حكومة بينت-لابيد مرحلة تسيير الأعمال بعد استقالتها، أصرَّ وزير الحرب حينها، بيني غانتس، على تعيين هرتسي هاليفي، الأمر الذي حظي بموافقة المستشارة القضائية الإسرائيلية بعد رسالة من غانتس أكد فيها أن “العام 2023 سيشهد تحديات أمنية فريدة تتطلب استعدادًا استراتيجيًّا جديدًا”. أثارت هذه الخطوة غضب نتنياهو وأحزاب اليمين الذين اعتبروا التعيين غير قانوني وشنوا هجومًا كبيرًا عليه، ما وضع أرضية مسبقة للتوتر في العلاقة بين المؤسسة العسكرية والحكومة.
كان هاليفي، الملقب بـ”الجنرال الفيلسوف“، مختلفًا تمامًا عن سلفه أفيف كوخافي. فعلى عكس كوخافي الذي كان يظهر كثيرًا في المؤتمرات الصحفية واللقطات الإعلامية، فضَّل هاليفي العمل بعيدًا عن الأضواء، ما أثر على حضوره بين الجمهور، وقدرته على التأثير في الرأي العام، ومواجهة الحملات الإعلامية التي تستهدفه، خصوصًا مع عودته إلى العمل تحت حكومة نتنياهو التي تحمل أجندة يمينية صارمة وضعت الجيش في مواجهة مباشرة مع التغييرات السياسية الجديدة.
في مفاوضات الائتلاف الحكومي، عمل نتنياهو على استرضاء حلفائه المتطرفين عبر تغييرات جوهرية أثارت قلق المؤسسة العسكرية. تمثل أولها في استحداث منصب داخل وزارة الحرب لإدارة “الإدارة المدنية الإسرائيلية” بالضفة الغربية، المسؤولة عن تعيين الجنرالات الذين يقودون مكتب منسق الأنشطة الحكومية في المناطق الفلسطينية، وهو مكتب يجمع بين الطابعين المدني والعسكري، كان تحت إشراف الجيش بالكامل، لتنتقل مسؤوليته إلى وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش.
منح التغيير الثاني وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، الإشراف المباشر على “شرطة حرس الحدود”، التي تعمل في الضفة، ما أوجد تماسًا مباشرًا بين أنشطة الشرطة والجيش، في تداخل أثار مخاوف قادة الجيش من تصادم محتمل في الصلاحيات والمواقف على الأرض.
مع انطلاق برنامج الإصلاحات القضائية للحكومة بقيادة نتنياهو، اشتدت الأزمة بين الجيش والائتلاف الحاكم، إذ هدفت الإصلاحات إلى تقليص صلاحيات المحكمة العليا، التي تُشكّل الدرع القانوني لجنود وضباط الجيش الإسرائيلي في مواجهة المحاكم الدولية. ما دفع العديد من الضباط إلى رفض الخدمة بدعوى “حماية الديمقراطية من الاستبداد”، لكن السبب الحقيقي كان الخوف من غياب الحماية القانونية التي توفرها المحكمة العليا، استنادًا إلى مبدأ “الإتمام” في القانون الدولي، والذي يمنع المحاكم الدولية من التدخل طالما أن القضاء المحلي يمارس دوره.
في أكتوبر/تشرين الأول 2023 فشل جيش الاحتلال وأذرعه الاستخبارية في التنبؤ بهجوم “طوفان الأقصى”، الذي شهد اقتحامًا لمواقع الجيش حول غزة وخطف عدد كبير من الجنود، ما كشف هشاشة منظومة التقدير الأمني والاستخباري، وهشاشة القدرة على التصدي للهجوم الذي أطاح بفرقة عسكرية كاملة في ساعات، ما أشعل موجة اتهامات بين المستوى السياسي والعسكري، فسعى نتنياهو إلى التنصل من أي مسؤولية عبر تحميل قادة الجيش، وفي مقدمتهم هاليفي، مسؤولية الفشل.
بلغ التصعيد ذروته في 29 أكتوبر/تشرين الأول، بعد ساعات من تصريحات نتنياهو في مؤتمر صحفي نفى فيها تلقِّي أي تحذيرات مسبقة بشأن هجوم حماس. بعد ذلك، نشر ديوان رئاسة الوزراء تغريدة حملت اتهامًا مباشرًا للأجهزة الأمنية وقادتها، زاعمًا أنهم قدموا تقديرات خاطئة حول نوايا حماس واتجاهها نحو التسوية. عَدَّ هاليفي أن التغريدة تستهدفه شخصيًا، ما عمّق التوتر بينه وبين نتنياهو.
على مدار شهور الحرب، تصاعدت الخلافات بين الجيش والمستوى السياسي الإسرائيليين حول شكل وطبيعة العمليات العسكرية في قطاع غزة، ومستوى الإنجاز المحقق، وأولويات أهداف الحرب. بلغ التوتر ذروته عندما رفض الجيش الاضطلاع بمهام مدنية، أبرزها ضغوط سموتريتش وبن غفير لتولي مسؤولية توزيع المساعدات الإنسانية في غزة، والدفع نحو إنشاء حكم عسكري مباشر في القطاع. وهي أطروحات رأى قادة الجيش أنها تحمل خطرًا كبيرًا يهدِّد بإدخال المؤسسة العسكرية في دوامة استنزاف طويلة الأمد، تتجاوز اختصاصاتها وتضعها في مواجهة مباشرة مع أهالي القطاع.
وشهدت هذه الفترة محاولات مستمرة من الجيش للضغط نحو إتمام صفقة تبادل للأسرى والانسحاب من قطاع غزة، لتخفيف العبء العسكري والسياسي، وهو موقف يخالف توجهات بنيامين نتنياهو الذي فضّل التمسك بخيارات تصعيدية في محطات عدة لاعتبارات سياسية، ما زاد حدة الخلافات بينه وبين المؤسسة العسكرية، وعمق الانقسامات في خلال الحرب.
في خضم الأزمة، أعلن هرتسي هاليفي استقالته رسميًا، مؤكدًا مغادرته منصبه في مارس/آذار المقبل. تبعتها استقالة قائد المنطقة الجنوبية، يارون فينكلمان، ما عدّه الكاتب الإسرائيلي موران أزولاي في تقريره على صحيفة “يديعوت أحرونوت” “إنهاءً مؤقتًا لحرب تبادل الاتهامات بين المؤسسة العسكرية والمستوى السياسي والتي دارت في الـ15 شهرًا الماضية، وشهدت تصريحات علنية وتسريبات إعلامية واستخدام ناطقين غير رسميين”.
هدية لسموتريتش
في تعقيبه على استقالة هاليفي، صرح سموتريتش: “أشكر هاليفي على عقود من الخدمة المخلصة والتضحية من أجل دولة إسرائيل، وعلى إنجازاته العسكرية الهائلة في حرب السيوف الحديدية على جميع الجبهات”. لكنه لم يتردد في انتقاده، مشيرًا إلى “فشله في القضاء على قدرات حماس المدنية والسلطوية”، وحمله مسؤولية الإخفاق الأمني الكبير في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
وأضاف سموتريتش أن المرحلة المقبلة ستشهد تغييرات جذرية في القيادة العسكرية العليا استعدادًا لاستئناف الحرب “حتى تحقيق النصر الكامل”. وأكد ثقته بوزير الحرب الحالي لإدارة هذه المرحلة “بمسؤولية وعزم”، وأنه سيقدم الدعم المطلوب لتحقيق ذلك.
تعكس تصريحات سموتريتش ارتياحًا واضحًا لإزاحة هاليفي، إذ يُعد خروج الأخير فرصة لتعزيز تأثير الصهيونية الدينية داخل الجيش الإسرائيلي، استكمالًا لخطوات متعددة حققت خلالها مكاسب ملحوظة في صفوف القيادة الوسطى بالجيش ضمن مساعي توسيع نفوذها داخل القيادات العليا، خصوصًا في ضوء مخططات لتحقيق أوسع تأثير داخل الجيش وتحويله إلى أداة تخدم أجندتها اليمينية.
وكانت جهات عسكرية في “إسرائيل” عبرت مسبقًا عن القلق من جهود نتنياهو لتنفيذ سلسلة تعيينات لضباط ينتمون لتيار الصهيونية الدينية اليميني المتطرف ومقربين من قادة المستوطنين في الضفة. وقالت في تسريبات لوسائل إعلام عبرية إن ثمة محاولة لنشر فكر متطرف سيلحق ضررًا سياسيًا واستراتيجيًا بـ”إسرائيل”.
استبق هاليفي الإقالة عبر استقالته، ما سمح له بالخروج بمظهر من يتحمل المسؤولية، بدلًا من أن يُقال رسميًا تحت وطأة الاتهامات
وحسب التسريبات، ستجري التعيينات في أرفع المناصب العسكرية خلال الشهرين المقبلين، في عملية إحلال بعد استقالة ضباط على خلفية تحملهم مسؤولية الإخفاق الأمني في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وكان سموتريتش قد استغل معارضته للتهدئة في غزة وصفقة تبادل الأسرى للضغط في اتجاه تغيير القيادة العسكرية، عادًا أن الاتفاقيات الأخيرة “تبعث رسائل ضعف لأعداء إسرائيل”. ودعا علنًا إلى إقالة هاليفي، واتهم الأخير بإيقاف خطط عسكرية ورفض تقديمها للنقاش السياسي. ووصف أداء الجيش في الأشهر الـ15 الماضية بالـ”كارثي”، مؤكدًا أنه إن لم يبادر هاليفي بالاستقالة، فعلى الحكومة إقالته.
وبالربط بين الحديث عن الصفقة الموسعة التي عقدها سموتريتش مع نتنياهو، وشملت تقديم مجموعة تعهدات وامتيازات إضافية لضمان استمرار دعمه للحكومة، جاءت استقالة هاليفي، في هذا التوقيت، وإن كانت متوقعة، كاستجابة واضحة لتوجهات إقالته. إذ استبق هاليفي الإقالة عبر استقالته، ما سمح له بالخروج بمظهر من يتحمل المسؤولية، بدلًا من أن يُقال رسميًا تحت وطأة الاتهامات. وتُعد في جوهرها مكسبًا خالصًا لمكونات الائتلاف الحكومي الإسرائيلي.
من “جيش الشعب” إلى “جيش نتنياهو”
في ظل النقاش الدائر حول اختيار خليفة لرئيس الأركان المستقيل في جيش الاحتلال، تتجه الترشيحات نحو شخصيات قريبة من رئيس الوزراء، وفي مقدمتها الجنرال إيال زامير، الذي كان الخيار المفضل لنتنياهو لرئاسة الأركان قبل تعيين هاليفي.
زامير، الذي عُين مديرًا عامًا لوزارة الحرب مع عودة نتنياهو إلى رئاسة الحكومة، عُد حينها “رئيس أركان في الظل”، بما يضمن لرئيس الوزراء نفوذًا مباشرًا داخل وزارة الجيش بعيدًا عن تأثير رئيس الأركان الفعلي.
ستُمثِّل هذه الخطوة حلقة جديدة من عملية تفكيك نتنياهو لمربعات المعارضة في المؤسسة العسكرية، التي مرت بخطوات متعددة، شكلت أحد أبرز مظاهرها إقالة وزير الحرب السابق يؤآف غالانت، الذي اصطدم مع نتنياهو على خلفية عدة ملفات حساسة، بدءًا من التعديلات القضائية، وصولًا إلى قضايا الحرب واستراتيجيات العمل في غزة.
تُشكِّل خطوات نتنياهو وحكومة اليمين ذروة انتقال الجيش الاسرائيلي من “جيش الشعب” إلى “جيش نتنياهو”
رأى نتنياهو في غالانت نموذجًا لوزير يحمل توجهات الجيش إلى الحكومة، ما يتعارض مع رؤيته لدور الجيش بصفته جهة تنفيذية تخضع بالكامل للمستوى السياسي. كرر نتنياهو في هذا السياق مقولته الشهيرة: “إسرائيل دولة لها جيش، وليست جيشًا له دولة”، في انتقاد مباشر لما اعتبره تدخلًا زائدًا من الجيش في الشأن السياسي، ما تجسد مرات عدة في تصريحات الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، دانيال هاغاري، التي كانت تتعارض بوضوح مع توجهات الحكومة.
في الإطار ذاته، جاء تعيين كاتس وزيرًا للحرب خلفًا لغالانت ضمن استراتيجية نتنياهو لإعادة هيكلة العلاقة بين الحكومة والجيش، لتعزيز نفوذ اليمين في كل مؤسسات دولة الاحتلال، ووضع المؤسسة العسكرية في نصاب نفوذه، واستكمال خطته التي تشمل تصميم هيئة الأركان القادمة لتكون موالية له بالكامل، وتنسجم مع رؤاه السياسية، لضمان تكامل القرارات العسكرية مع أجندة نتنياهو السياسية، حتى لو استندت إلى خدمة مصالحه دون أن تكون تلبية للمصالح الأمنية أو الاستراتيجية الأوسع لـ”إسرائيل”.
تُشكِّل خطوات نتنياهو وحكومة اليمين ذروة انتقال الجيش الاسرائيلي من “جيش الشعب“، الذي كان يُنظر إليه بوصفه مؤسسة تُمثِّل عنوان إجماع في “إسرائيل”، إلى “جيش نتنياهو”، الذي يسعى رئيس الوزراء إلى تطويعه لخدمة توجهاته السياسية، ليشكل تغييرًا جوهريًا في بنية العلاقة بين الجيش الإسرائيلي والمستوى السياسي.