ربط نظام بشار الأسد البائد الدولة السورية باتفاقيات وعقود استثمارية، طويلة الأمد وغير معلنة، طالت مواقع اقتصادية واستراتيجية مهمة على طول البلاد وعرضها، موجهًا مقدراتها في دعم اقتصاده المتهاوي ورد ديون حلفائه الذين قدموا دعمًا عسكريًا في حربه الإجرامية ضد السوريين.
لكن اليوم باتت تركة النظام المخلوع من الاتفاقيات تحت أنظار حكومة تصريف الأعمال السورية بعد توجهها إلى إيقاف العمل باتفاقية استثمار مرفأ طرطوس الموقعة مع شركة روسية، سعيًا منها إلى إعادة المقدرات الاقتصادية بهدف استثمارها بما يضمن حقوق الدولة السورية.
يثير إلغاء العمل في اتفاقية مرفأ طرطوس تساؤلات عديدة عن توجهات حكومة تصريف الأعمال، وعن مصير الاتفاقيات المبرمة فيما يتعلق بالتنقيب عن النفط والغاز في البحر والبادية واستخراج الفوسفات، وتأثيرها في رسم العلاقات السورية الروسية المستقبلية؟
نزع اتفاقية مرفأ طرطوس
أنهت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية في حكومة تصريف الأعمال عقدًا موقعًا مع شركة “ستوري ترانس غاز – CTG” الروسية، يقضي باستثمار مرفأ طرطوس على سواحل البحر الأبيض المتوسط لمدة 49 عامًا مع النظام السابق.
جاء قرار إيقاف عمل اتفاقية استثمار المرفأ على لسان مدير جمارك طرطوس، رياض جودي، يوم الثلاثاء، قائلًا في تصريحات نقلتها وسائل إعلام محلية: “إن العمل بالاتفاقية الموقعة مع الشركة لاستثمار مرفأ طرطوس ألغي”، مضيفًا أن إيرادات المرفأ بالكامل أصبحت لصالح خزينة الدولة السورية.
وأوضح أن حكومة تصريف الأعمال تعمل على إعداد دراسة لتأهيل وصيانة آليات المرفأ المتهالكة بسبب عدم تحديثها من الشركة الروسية وفقًا لما جاء في نص الاتفاقية التي وقعها النظام السابق، إضافةً إلى تجهيز المباني والساحات، فضلًا عن تأمين العمالة اللازمة بما يخدم تطوير الخدمات.
رغم عدم صدور قرار على المعرفات الرسمية للهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية، فإن وسائل إعلام نقلت عن مصادرها تأكيد الخبر، في حين، تواصل موقع “نون بوست” مع مكتب العلاقات العامة في الهيئة العامة للحصول على تأكيد أو نفي الأنباء المتداولة، وتحديد أهداف الحكومة وتوجهاتها من إيقاف العمل في المرفأ وفقًا للاتفاقية مع الشركة الروسية، إلا أنه لم يتلق ردًا حتى لحظة إعداد التقرير.
وفي السياق، نقلت صحيفة “فايننشال تايمز”، الأربعاء، عن وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، خلال مشاركته في “منتدى دافوس” بسويسرا، قوله: “إن سوريا تخطط لخصخصة الموانئ والمصانع المملوكة للدولة، ودعوة الاستثمار الأجنبي وتعزيز التجارة الدولية في إطار الإصلاح الاقتصادي”.
وتعكس تصريحات الشيباني مساعي حكومة تصريف الأعمال وتوجهاتها في تحسين الاقتصاد السوري، وإعادة النظر بالاتفاقيات المرتبطة بحلفاء النظام السابق، واستعادة القرار للدولة السورية بما يضمن حقوقها، إضافة إلى فتح الأبواب أمام الشركات الأجنبية للاستثمار في القطاعات المملوكة للدولة، قد تكون منها روسيا في حال قدمت عروضًا استثمارية مناسبة.
مصلحة اقتصادية سورية
يعود استثمار مرفأ طرطوس إلى عقد شركة (STG) اتفاقية مع حكومة النظام السابق، في أبريل/نيسان عام 2019، لمدة 49 عامًا، بناء على التشاركية بين القطاعين العام والخاص، بهدف تحقيق ربحية أكثر ومواجهة العقوبات الغربية والأمريكية، حسب تطلعات حكومة النظام آنذاك.
تضمن العقد تولي الشركة إدارة المرفأ وتحديثه بنحو 500 مليون دولار أمريكي، أما فيما يتعلق بالأرباح تحصل الشركة الروسية على نسبة 65% من إيرادات المرفأ، بينما تحصل حكومة النظام السابق على 35% فقط.
يرى الباحث في الاقتصاد السياسي، يحيى السيد عمر، أن الاتفاق موقع بين جانبين روسي وسوري، ويفترض من الناحية القانونية أن ترث حكومة تصريف الأعمال الاتفاقيات التي وقعها النظام، بما لها من حقوق، وعليها من التزامات، لكن هناك إمكانية للانسحاب من الاتفاقية بسبب عدم تأدية الشركة الروسية التزاماتها التي تنص على تطوير البنية التحتية للمرفأ.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن الاتفاقية كانت مجحفة بحق سوريا كون حصة دمشق من العائدات محدودة مقارنة مع الشركة الروسية المستثمرة، بينما كان من الممكن استثمار المرفأ بشكل فعال، بعد تطويره وفقًا للمعايير العالمية”.
وأضاف أن مرفأ طرطوس تزداد أهميته مع عملية إعادة الإعمار المرتقبة، لأنه سيكون مسؤولًا عن استقبال مواد إعادة الإعمار، فضلًا عن دوره في تصدير واستيراد البضائع من وإلى دول الجوار مثل العراق والأردن، وبالتالي يحقق عوائد إضافية للدولة في تعزيز القطاع الاقتصادي”.
ويعتقد الباحث أن إلغاء الاتفاقية يصب في مصلحة سوريا كون غالبية الاتفاقيات كانت لصالح روسيا، واعتبر أن آلية إلغاء الاتفاقية قد تشمل الاتفاقيات الروسية بما يخص التنقيب عن النفط والغاز والفوسفات وقد يكون مصيرها الإلغاء في حال عدم التزام الشركات بتعهداتها بموجب الاتفاقية.
وتعد اتفاقية مرفأ طرطوس منفصلة عن اتفاقية إنشاء القاعدة العسكرية الروسية القائمة في طرطوس مع الأسد الأب في سبعينيات القرن الماضي، وشهدت تعديلات في عام 2017 أي في عهد الأسد الابن، تتيح لروسيا استخدام القاعدة على ميناء طرطوس لمدة 49 عامًا، وتمديد لمدة 25 عامًا مع حصانة من القوانين السورية، فضلًا عن منع السلطات السورية من دخولها.
اتفاقيات الاستثمار الروسية
اتبعت روسيا منذ تدخلها العسكري في سوريا بغية دعم النظام البائد في عام 2015 أسلوب فرض سياساتها وتطلعاتها للاستقرار قرب المياه الدافئة على سواحل البحر الأبيض المتوسط، والحصول على امتيازات تمكنها من الاستثمار في مقدرات الدولة السورية لسنوات طويلة عبر عقود متعددة.
تجلت الاستثمارات الروسية في قطاعات الطاقة، حيث وقع النظام السابق في ديسمبر/كانون الأول 2013، اتفاقية مع شركة “سويوز نفت غاز” للتنقيب واستخراج الغاز لأول مرة في المياه السورية، قبالة القاعدة العسكرية الروسية في طرطوس، إضافة إلى مشروعين عند مثلث الحدود السورية التركية العراقية، لمدة 25 عامًا، إلا أن الشركة لم تتمكن من الوفاء بالتزاماتها، وأوقفت عملها بعد عامين فقط نتيجة توسع الحرب السورية.
وفي عام 2017 وقعت “شركة ستروي ترانس غاز” (STG) الروسية عقدًا نص على التنقيب في مناجم الفوسفات (مناجم الشرقية) وإعادة تأهيلها، لمدة 50 عامًا، وبين عامي 2019 و2020 وقعت ثلاث شركات روسية على عقود للتنقيب عن البترول والغاز في البادية السورية والبحر الأبيض المتوسط.
وحصلت شركة “ميركوري” الروسية للتنقيب وإنتاج البترول في منطقتي البلوك رقم 7 ورقم 19، (حقل نفطي في الجزيرة السورية يمتد على مساحة 9531 كم)، بينما وقعت شركة فيلادا للتنقيب عن النفط وإنتاج البترول في منطقة البلوك رقم 23 (حقل غاز يمتد على مساحة 2159 كم شمال العاصمة دمشق).
يرى الباحث في مركز جسور للدراسات، وائل علوان، أن الاتفاقيات التي وقعها النظام البائد جائرة بحق سوريا، وبالتالي فإن الإدارة السورية تتعامل معها بهدف تصحيحها، ويمكن الذهاب إلى إلغائها، لكن في الوضع الحالي فإن حكومة تصريف الأعمال لن تكون قادرة على اتخاذ قرارات يجب أن تتخذها حكومة انتقالية مستقرة.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن الاتفاقيات تخضع للمحاكم الدولية لأنها علاقات دولية، ولم يصدر قرار من المحاكم الدولية يؤكد أن ما وقعه النظام البائد غير مشروع”. ويضيف أن الإجراءات والمواقف من الحكومة طبيعية جدًا وتسير تجاه الضغط على روسيا فقط لأنه لا يمكن اتخاذ قرار من هذا النوع بهذه السهولة.
كيف ترسم علاقات البلدين؟
تسهم الإجراءات التي اتخذتها حكومة تصريف الأعمال بخصوص إلغاء العمل في اتفاقية مرفأ طرطوس مع الشركة الروسية في رسم معالم علاقات روسية سورية جديدة تختلف كليًا من حيث تعامل روسيا مع النظام البائد في فرض سطوتها وسلطتها عليه مقابل حصوله على الدعم العسكري، إلا أنه لن يصل إلى مرحلة القطيعة.
واعتبر الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر، أن مستقبل العلاقة السورية الروسية لن تتجه إلى العداء أو التوتر في المستقبل، لأنه سيعاد توجيهها بما يضمن حقوق ومصالح الدولة السورية أولًا.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن حكومة تصريف الأعمال تتعامل مع الوجود الروسي في سوريا بواقعية سياسية بعيدًا عن الانفعالات بسبب مشاركتها في دعم إجرام النظام السابق”، مضيفًا أن الإدارة السورية ترى أن روسيا دولة مهمة ولن تسمح بخروجها بشكل مذل، وبالتالي من الممكن أن نشهد اتفاقيات روسية سورية مشتركة تضمن مصالح الدولة السورية بعيدًا عن الارتهان والتبعية كما فعل النظام البائد.
ويتفق الباحث، وائل علوان، مع السيد عمر، ويقول: “إن الحكومة السورية تعمل تحت عنوان عريض يهدف إلى الضغط على روسيا، لكنه لن يؤدي إلى إنهاء العلاقات السورية الروسية، وإنما يتجه نحو إعادة تأطير العلاقة مع روسيا بحيث تكون غير خاضعة”.
ويضيف أن توجه إدارة دمشق منفتح إلى الغرب أكثر من روسيا في حال سار على طريق إزالة العقوبات الاقتصادية ودعم الاستقرار والازدهار في سوريا، وهذا ما يرسم مسار العلاقة مع روسيا، وأوضح أن دمشق غير قادرة على اتخاذ مواقف حاسمة أو نهائية مع الأطراف الدولية، بل ستعتمد على الضغط والتفاوض كونها تفضل خلق علاقة متوازنة خلال المرحلة الحالية.
ختامًا.. تمهد خطوات حكومة تصريف الأعمال نحو مراجعة الاتفاقيات الاستراتيجية التي أبرمها النظام السابق مع روسيا، إلى استعادة القرار والحق في استثمار المقدرات الاقتصادية لصالح البلد، فضلًا عن رسم علاقات جديدة مع روسيا، تحيدها عن استغلال سوريا في خدمة مشروعاتها الاقتصادية في الشرق الأوسط على حساب السوريين.