بعد الجدل الذي أثاره العدد الكبير للمرشحين للانتخابات البرلمانية في تونس، عقب إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات مشاركة حوالي 1600 قائمة انتخابية تضم حوالي 16 ألف شخص يتنافسون للفوز بـ217 مقعداً بمجلس الشعب، تصاعد الحديث مُجدّدًا عن ما سمّاه التونسيون “السياحة الحزبية”، وهو انتقال نائب بالبرلمان من حزب إلى آخر، وسط مخاوف من عدم استقرار المشهد السياسي تحت قبة البرلمان.
وأدّت الاستقالات المستمرة لنواب بمجلس الشعب التونسي وترحالهم المتكرر إلى خلق تغييرات صلب مكوّن حزبي أو الكتل البرلمانية، وتباين بين الأحزاب على مستوى الترتيب العددي صعودًا ونزولًا بعيدًا عن النتائج التي أفرزتها الصناديق ومخالفة لإرادة الناخبين، وقد يؤثر سلبًا خاصة عند المصادقة على مشاريع القوانين والاتفاقيات.
تنقل 74 نائبًا من إجمالي 2017 من كتلة إلى أخرى
وكانت احصائيات برلمانية أشارت إلى أن عملية الانتقال بين الكتل البرلمانية خلال الدورات البرلمانية الأربع فاق ثلث النواب، حيث تنقل 74 نائبًا من إجمالي 2017 من كتلة إلى أخرى، ومن بينهم نواب انتقلوا أربع مرات في 4 سنوات.
وفي وقت سابق، تقدّمت حركة نداء تونس (أكبر حزب متضرر من السياحة الحزبية) في 21 شباط فبراير 2019 بمشروع تعديل للفصل 34 من القانون الانتخابي، وينص المشروع على اعتبار كل عضو يستقيل من كتلته البرلمانية أو الائتلاف الذي ينتمي إليه أو الحزب الذي أنتخب له، مستقيلًا بمقتضى ذلك.
آخر الرحلات الحزبية التي عرفها المشهد السياسي، ما كشفت عنه قوائم الأحزاب المرشحة للاستحقاق البرلماني، حيث ترشح رئيس كتلة حركة نداء رأس القائمات في حزب قلب تونس (رجل الأعمال نبيل القروي) عن دائرة محافظة قفصة، إضافة إلى النائب رضا شرف الدين عن دائرة سوسة، كما ترشحت النائبة السابقة في نداء تونس “سماح دمق” كرئيسة قائمة عن دائرة صفاقس 1 لحزب القروي.
ظاهرة الترحال الحزبي ساهمت في اضطراب المشهد السياسي في تونس ما بعد ثورة 14 يناير، وجعلته هشًا
وهو ما دفع بنجل الرئيس الراحل حافظ قائد السبسي إلى اتهام رئيس الحكومة وحزب تحيا تونس يوسف الشاهد بتفتيت الحزب الأم حركة نداء تونس، قائلًا في تدوينة على فيسبوك: ” لم نكن نتوقع آنذاك أن يقع الالتفاف على الإرادة الشعبية بخلق كيان سياسي من رحم الحكومة واستهداف حركة نداء تونس الحزب الأول المنتخب في 2014 والمترجم لسياسات رئيسه المؤسس”، مضيفًا “لجدير بالذكر أن المقترح الذي اقترحته كتلة نداء تونس حينها بالتصويت لفائدة منع السياحة الحزبية تم رفضه من قبل الائتلاف الحاكم”.
ويرى مراقبون أنّ ظاهرة الترحال الحزبي ساهمت في اضطراب المشهد السياسي في تونس ما بعد ثورة 14 يناير، وجعلته هشًا، تسوده متغيرات من أهمها انعدام الثوابت والمقاربات الكبرى لدى غالبية الأحزاب التي حركتها المصالح ضيقة وطموحات الحكم دون برامج أو مشاريع، وأصبح أكثرها كيانات مستنسخة فاقدة للإيديولوجيات وللتأصيل السياسي التاريخي.
الظاهرة ستبقى مستمرة لفترة أخرى نتيجة حرص الأغلبية الحاكمة على عدم تجريم السياحة الحزبية
غياب الإيديولوجيا
وفي سياقٍ ذي صلة، قال المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي في تصريح لـ”نون بوست” إنّ “السياحة الحزبية أصبحت ظاهرة شائعة في تونس، وبسببها تغير المشهد البرلماني كثيرًا عما كان عليه في سنة 2014، لكن يبدو أن أسبابها تعود إلى أن الديمقراطية التمثيلية القائمة على الأحزاب لا تزال ناشئة، وأن هذه الأحزاب الجديدة ضعيفة تعاني من غياب تقاليد راسخة وعدم الاحتكام إلى المؤسّسات في إدارة البيت الحزبي، إضافة إلى غياب الانضباط الحزبي، وهيمنة النزعة الفردية والشخصية جعلت منها كائنات ضعيفة هشة (استئثار رئيس الحزب بالقيادة وصناعة القرار)”.
وأشار الجورشي إلى أنّ الظاهرة ستبقى مستمرة لفترة أخرى نتيجة حرص الأغلبية الحاكمة على عدم تجريم السياحة الحزبية لاعتبارات متعددة ولكنها لن تستمر طويلًا إذا ما استقر المشهد السياسي وتوفرت البرامج الحزبية الضرورية التي تفرض تنافسًا بين الأحزاب قائمًا على تعدد الاختيارات والسياسات.
أخطر من الفعل ذاته غياب “الشعور بالذنب”، كأن الحزب تحول أو هو فعلًا في ذهن عديد السياسيين إلى محارم ورقية ذات استعمال واحد
من جانبه، أكّد الصحافي نصر الدين بن حديد لـ”نون بوست”، أنّ تونس عرفت منذ ثورة 14 يناير تراجعًا كبيرًا لدور الحزب كونه الكيان السياسي الجامع لمواطنين ومواطنات يجمعهم فكر سياسي واحد يهدف إلى تجسيده على أرض الواقع، وأصبحت الأحزاب مجرد وعاء أو جسر للعبور إلى المنصب السياسي المنشود لغاية شخصية، لا علاقة لها بأي فكر سياسي أو مصلحة حزبية.
وأضاف بن حديد “لذلك تشهد البلاد (ما يسمى) السياحة الحزبية والقفز السهل من كيان سياسي إلى آخر، وأخطر من الفعل ذاته غياب “الشعور بالذنب” كأن الحزب تحول أو هو فعلًا في ذهن عديد السياسيين إلى محارم ورقية ذات استعمال واحد”.
إلى ذلك، فإنّ تنكُّر النواب “الرحل” لأحزابهم الأصلية التي نشأوا فيها وروجوا لبرامجها، ورفعوا شعاراتها وصعدوا بأصوات منخرطيها، يعتبرها البعض خيانة للناخبين وإرادتهم، وهي سبب في إفراغ العملية الديمقراطية من قيمتها، وجعلها سوقًا للأسهم تُتداول بين الأحزاب، والائتلافات سياسية.
ما معنى أن يتخلى شخص عن قناعاته بعد انضمامه إلى حزب معين وينخرط في مشروع سياسي آخر قد يكون مختلفًا جزئيًا أو جوهريًا عن حزبه الأصلي
خيانة الناخبين
وفي هذا الإطار، قال الصحافي التونسي حمادي المعمري في تصريح لـ”نون بوست”، إنّ السياحة الحزبية مفهوم دخيل على تونس، طفا نظرًا لعدم عراقة العمل السياسي في البلاد قبل الثورة واقتصاره على الحزب الواحد وبعض الأحزاب الكرتونية التي لا وزن لها سياسيًا”، مضيفًا أنّه بعد “حالة الانفتاح والتحرر أصبح العمل السياسي متاحًا للجميع ( 220 حزبًا سياسيًا حاصلًا على التأشيرة الرسمية)، إلا أن أغلبها غير ظاهرة للعيان وتلتقي مع تحزاب أخرى في التوجهات والقناعات، مما قلل من وجاهة العمل السياسي وأصبح بسيطًا لا يشد إليه الناس، فشهدنا ما يسمى بحالة العزوف التام عن المشاركة السياسية وهي في اعتقادي خطر محدق بالمشروع السياسي، لأن غياب المشاركة يُعطل الديمقراطية المهددة أصلًا بالتداخل بين المال والإعلام والسياسة عبر لوبيات تحكم سيطرتها من أجل تخريب العملية السياسية ولفرض أجنداتها تحقيقًا لمصالحها الضيقة”.
وأوضح المعمري أنّ “الظاهرة وليدة أفرزتها طغيان المصلحة الحزبية الضيقة على مصلحة البلاد العليا، فما معنى أن يتخلى شخص عن قناعاته بعد انضمامه إلى حزب معين وينخرط في مشروع سياسي آخر قد يكون مختلفًا جزئيًا أو جوهريًا عن حزبه الأصلي”، متابعاً “هي خيانة موصوفة وانفصام في الشخصية لأن الانتماء إلى حزب معين ومخاطبة الناخب تحت مضلة هذا الحزب أو ذاك هو بمثابة اعتناق دين والارتداد عنه خطيئة كبرى يلًام عليها ضمير الشخص المعتنق لهذا الدين الجديد في انتهاك صارخ لضوابط وأخلاقيات الالتزام السياسي”.
دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي، تنبه الناخبين إلى ضرورة تفعيل “التصويت العقابي” وعدم اختيار النواب الرحل
وتساءل الصحافي التونسي قائلًا “ما ذنب الناخب الذي اختار شخصية سياسية سواء نائبًا أو رئيسًا لاقتناعه بمشروع سياسي حامل للافتة وعلامة حزب بعينه أن تغير تلك الشخصية موقعها وحزبها وترتمي في حزب آخر؟ هنا يمكن أن نتحدث عن خيانة مؤتمن، فتلك الشخصية يفترض فيها أن تحترم رصيدًا رمزيًا من الثقة التي وضعها فيها الناخب لا أن تتخلى عنه من أجل مقايضة سياسية رخيصة”.
الجدل الكبير الذي أحدثته ظاهرة السياحة الحزبية في تونس رافقته دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي، تنبه الناخبين إلى ضرورة تفعيل “التصويت العقابي” وعدم اختيار النواب الرحل ممن قدموا مصالحهم الضيقة على حساب إرادة ناخبيهم ومن أعطوهم أصواتهم، مذكرين بوعودهم السابقة وبرامجهم “الوردية” التي أصبحت في مهب الريح بمجرد الإعلان عن نتائج الانتخابات، وأكّدوا أنّ انتخابهم ليس “بيعة أبدية في أعناقهم”.