يواصل المشهد الجزائري الملتهب بطبيعته تصعيده المتزايد الذي وصل إلى ذروته بعد استقالة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقه في 2 إبريل/ نيسان الماضي، حيث شهدت العاصمة ومدن أخرى موجة جديدة من المظاهرات الأسبوعية الاحتجاجية وسط انتشار أمني كثيف.
التظاهرات التي خرجت أمس الجمعة، للمرة الـ 24 على التوالي، والمطالبة بالتخلص من بقايا نظام بوتفليقة والإسراع بالاستجابة للمطالب التي ألحً عليها الشارع الجزائري خلال الخمسة أشهر الماضية، حمل فيها المتظاهرون العديد من الشعارات التصعيدية على رأسها التلويح بورقة العصيان المدني.
المتظاهرون الذي عموا شوارع وهران ومستغانم وغليزان وقسنطينة وتيزي وزو والبويرة والطارف، نددوًا بالقيود الأمنية المفروضة والتي تعرقل تحركاتهم، مطالبين السلطات بعدم التعدي على الحريات عبر تطويق المسيرات والشوارع بحشود كبيرة من الأمن التي انتشرت بصور غير مسبوقة في جميع أنحاء البلاد.
“سئمنا العسكر”.. “الشعب يريد الاستقلال”.. “العصيان المدني راهو جاي (آت)!”.. شعارات ثلاث فرضت نفسها على تظاهرات الأمس، وسط رفض واضح رفضه للحوار الوطني الشامل، الذي دعا إليه الرئيس المؤقت، مطالبين بإعادة النظر في الهيئة المشكلة لإدارة هذا الحوار.
دعوة للعصيان المدني
رغم درجات الحرارة المرتفعة حرص المحتجون على المشاركة في التظاهرات التي يزداد عددها بصورة واضحة جمعة تلو الأخرى مقارنة بما كانت عليه حين بدأت في 22 فبراير/شباط الماضي، ورغم عدم وجود إحصاء رسمي لأعداد المشاركين إلا أنها، وبحسب شهود عيان، تجاوزت النسب ما كانت عليه في السابق.
وتحت شعار “عدم التحرش بالحراك” حذر المتظاهرون قوات الأمن التي طوقت الشوارع الرئيسية من أي تجاوز من شأنه أن يخرج التظاهرات عن سلميتها المنشودة، وهو الأمر الذي تفهمته عناصر الشرطة التي تؤمن تلك المسيرات، الأمر الذي خرج بالحراك دون أي إصابة تذكر حتى كتابة هذه السطور.
النظام الحالي وأمام رفض مطالب الحركة قدم عدة مقترحات للحوار للخروج من الازمة رفضت كلها حتى الان
وفي مدينتي قسنطينة وعنابة، ثالث ورابع مدن البلاد، وأيضاً في مدينة برج بوعريريج (150 كلم جنوب-شرق الجزائر العاصمة)، إحدى معاقل الحركة الاحتجاجية، أطلق متظاهرون دعوات للعصيان المدني، في إطار سياسة التصعيد التي ينتهجها الحراك ردًا على تجاهل السلطات الحاكمة لمطالبهم المرفوعة.
وفي الإطار ذاته هتف الغاضبون ضد النظام، رافعين لافتات ضد قائد الجيش الفريق أحمد قايد صالح، كما رددوا هتافات “لا حوار مع العصابة” رفضا لمباحثات اقترحها الرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح في محاولة لإخراج البلاد من المأزق السياسي والدستوري الذي تواجهه.
جدير بالذكر أنه وبعد استقالة بوتفليقة تم تشكيل “هيئة وطنية للحوار”، تهدف إلى محاولة التوصل إلى صيغة مشتركة لإدارة المرحلة القادمة، وتنظيم انتخابات رئاسية حرة ونزيهة في أقرب وقت، إلا أنها قوبلت بالرفض من قبل بعض الشخصيات العامة، متهمين إياها بأنها موالية للسلطة، كما أنهم رفضوا الانضمام إليها، فيما انسحب منها العضوان عز الدين بن عيسى وإسماعيل لالماس، في الوقت الذي أعلن فيه رئيس البرلمان السّابق عن نيته الاستقالة كذلك.
دعوات للمطالبة بعصيان مدني في بعض مدن الجزائر
التمسك برحيل رموز النظام
جدًد المتظاهرون تمسكهم برحيل جميع رموز النظام وإقرار النظام المدني للدولة، مشددين مرة أخرى على رفضهم أي صيغة للحوار يكون طرفها أحد جنرالات بوتفليقة، معلنين رفضهم القطاع لتعيين الفريق قايد رئيسًا للجنة الحوار.
وكانت حركة الاحتجاج أعلنت في وقت سابق عدد من المطالب بشأن تسيير الأمور خلال الفترة المقبلة،بدءًا برفض العهدة الخامسة مرورًا بالاعتراض على تمديد العهدة الرابعة، وصولا إلى رحيل النظام السياسي برمته، والذي بات مطلبًا أساسيًا، وهي النقطة التي لم تلق قبولا لدى السلطات الحالية.
النظام الحالي وأمام رفض مطالب الحركة قدم عدة مقترحات للحوار للخروج من الازمة رفضت كلها حتى الان، غير أنّ الدعوة الأخيرة التي أطلقها بن صالح في الثالث من تموز/ يوليو، لاقت اهتمام جزء من الطبقة السياسية وبعض المنظمات لاستنادها إلى مبدأ عدم مشاركة السلطة أو الجيش في الحوار، لكن حركة الاحتجاج تمسكت برفضها كذلك.
أعلن رئيس حزب جيل جديد، جيلالي سفيان، أن حزبه “سيرفض أي حوار بدون تجسيد الشروط المسبقة للتهدئة والانفتاح السياسي وذلك وفاء لالتزاماته المعلنة”
وقد أثار الحراك الثوري في الجزائر اهتمام الصحف العالمية، حيث كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” في تقرير لها، ترجمته وكالة الأنباء الجزائرية، أن هذه الثورة “غير مسبوقة، وبدون إراقة قطرة دم واحدة، قد تكون فريدة من نوعها في العالم العربي” وذلك وفق شهادات نقلتها الصحيفة علن متظاهرين ومحللين جزائريين.
الصحيفة نقلت عن الوزير والسفير السابق عبد العزيز رحابي، قوله إن المظاهرات الشعبية التي جرت خلال الأشهر الأخيرة في الجزائر يمكن أن تصبح مثالا للتغيير الشامل في المنطقة، موضحا أن “ لا يوجد مثيل لها في العالم العربي”، وتابع “ما عشناه خلال خمسة أشهر لم يشهده العالم العربي خلال 40 سنة”.
رحابي في تصريحاته أشار إلى أن الحراك الشعبي السلمي نجح في تحقيق العديد من الانتصارات، إذ استطاع “عزل رئيس دون نفيه” كما حصل في تونس و”دون حبسه” كما جرى في مصر و”دون قتله” كما وقع في ليبيا، وتابع “لذلك لا تقولوا لي أن الأمور ليست على ما يرام”، مؤكدا أنه “لم يتعرض أحد للقتل” منذ بداية هذا الحراك.
وزير الدفاع، أحمد قايد صالح
تباين حزبي
أثار خطاب وزير الدفاع الوطني الذي أعرب فيه عن تمنياته بنجاح مسعى الحوار الوطني “بعيدا عن أسلوب وضع الشروط المسبقة” تباينا بين الأحزاب السياسية فيما يتعلق برد الفعل حيال ما جاء فيه، حيث أشاد حزب جبهة التحرير الوطني في بيان له, بما جاء فيه.
الحزب في بيانه اعتبر أن “الدعوة إلى حوار وطني شامل لإنهاء الأزمة وإعلان الدولة التزامها بكل مخرجاته, لا يمكن أبدا أن يكون ذريعة لتلقي إملاءات أو شروط مسبقة للمشاركة في هذا الحوار, كما أن محاولات التأثير على سير العدالة يتنافى تماما وبناء دولة العدل والقانون التي يطالب بها الجزائريون”.
وفي الجهة الأخرى، انتقد حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية على لسان رئيسه، محسن بلعباس، في منشور على صفحته في فايسبوك، “رفض” الفريق صالح “الوعود التي قدمت لأعضاء الهيئة” بخصوص إجراءات التهدئة و في مقدمتها الافراج عن سجناء الرأي.
وفي الإطار ذاته أعلن رئيس حزب جيل جديد، جيلالي سفيان، أن حزبه “سيرفض أي حوار بدون تجسيد الشروط المسبقة للتهدئة والانفتاح السياسي وذلك وفاء لالتزاماته المعلنة”، قائلا إنه “من الواضح أن شروط حوار سياسي حقيقي وهادئ غير متوفرة حتى الآن وتبدو الأذهان غير مهيأة للتنازلات المتبادلة والانسداد أصبح حقيقة”, معربا عن أسفه من أن “المواقف المتصلبة تطغى في الوقت الراهن”.
وفي المجمل، وفي ضوء تلك التطورات وتمسك الحركة الاحتجاجية بمطالبها، تلك المطالب التي تكسب يوما تلو الأخر مزيدا من التعاطف، سواء من الشارع أو من قبل بعض أقطاب النظام ذاته، لا يبدو أن الشارع على عجلة من أمره في وقف مظاهراته أو الدخول في حوار مع السلطة التي كلما قدمت تنازلات كلما ارتفع صوت المحتجين بالرفض وزاد عددهم في الشوارع أسبوعا بعد آخر.