في جلسة صاخبة، تبعتها زوبعة سياسية بعد إقراره ضمن حزمة قوانين جدلية، أقرّ البرلمان العراقي قانون العفو العام، لينهي بذلك جدلًا استمر لأشهر كثيرة. القانون رغم ما يبدو من لمعان في عنوانه، إلا أنه يخفي العديد من التفاصيل في ملف قديم جديد لا ينفك يعود إلى الوجهة بين الفينة والأخرى: ملف المعتقلين في السجون!
فما هذا القانون؟ وهل سيتمكن أخيرًا آلاف المعتقلين ظلمًا من رؤية النور بعد سنوات من الاعتقال التعسفي أم أنه مجرد “رتوش سياسية” لتجميل النظام القضائي الذي ينخره الفساد طولًا وعرضًا؟
المعتقلون.. المشكلة هي الحل!
لا يمكن فهم معضلة قانون العفو العام، دون فهم أبعاد أساس المشكلة: ملف المعتقلين. فمنذ الاحتلال الأمريكي للعراق، كانت سياسة الاعتقال العشوائي السلاح الذي واجه به الجيش الأمريكي المناطق التي شهدت عمليات مقاومة مسلحة لقواته، أو كما كان يُطلق عليه: المثلث السني، والذي يشمل مناطق العاصمة بغداد وحزامها، ومحافظات: صلاح الدين، والأنبار، وديالى، وكركوك، ونينوى.
كان استهداف قوات التحالف لحاضنة المقاومة المسلحة واضحًا، يقول تقرير لهيومن رايتس ووتش، إن الجيش الأمريكي اعتقل نحو 100 ألف معتقل عراقي منذ احتلاله للعراق عام 2003، تعرض الكثير منهم لعمليات تعذيب وتنكيل لعل أبرزها الفضائح التي ظهرت في سجن أبو غريب، لاحقًا، اعترفت القوات الأمريكية أن ما يقارب من 70-90% من هؤلاء، لم يكن لهم علاقة بالعمل المسلح – أو التمرد كما تسميه قوات التحالف – بحسب ما أخبر به ضباط في الاستخبارات العسكرية للصليب الأحمر. انطلاقًا من العام 2005، في الفترة التي أعقبت تسليم السيادة للجانب العراقي، أصبحت الحكومة العراقية هي المسؤولة عن الملف الأمني، وهي من جانبها، اتبعت نفس الأساليب الأمريكية في الاعتقال العشوائي والتنكيل بالمعتقلين، لمكافحة الانفلات الذي ساد العراق وقتها.
ظلت هذه السياسة متبعة خلال كل فصول فترة ما بعد 2003: معارك الفلوجة الأولى والثانية، الحرب الطائفية بعد عام 2006، فترة الصحوات وما بعدها 2008-2013، مظاهرات ساحات الاعتصام 2013، فترة دخول داعش ومعارك التحرير – وهذه الأخيرة رافقها عنصر جديد: وهو التغييب القسري والإعدام دون محاكمة -!
ما النتيجة لكل هذا؟ مئات الآلاف من المعتقلين بتهم فضفاضة، وتغيير في بنية النظام القضائي ليضمن الاعتقال الاحترازي لسنوات قبل المحاكمة، ومحاكمات وعقوبات بالإعدام دون أدلة ملموسة، واعتماد المخبرين السريين كدليل للإدانة – حتى لو لم تتم المشاهدة العيانية للجريمة -، سجون مكتظة تغيب عنها أبسط حقوق الإنسان.
تفيد آخر التقارير الحقوقية، أن عدد المعتقلين الحالي في السجون العراقية يصل إلى 60 ألف معتقل، ما بين موقوف ومحكوم بقضايا مختلفة، يمضي الكثير منهم فترات طويلة في سجون مكتظة بنسبة 300% كما تشير مصادر في وزارة العدل.
لا تكمن مشكلة المعتقلين في العراق بأعدادهم أو ظروف احتجازهم، وإنما تشمل إجراءات التحقيق وعملية التقاضي. فبحسب تقرير منظمة العفو الدولية، وبحسب شهادات لمعتقلين سابقين، يواجه المعتقلون عمليات تعذيب ممنهجة خلال فترة التحقيق لانتزاع اعتراف حول جرائم لم يرتكبوها، كما أن إجراءات التقاضي تستغرق وقتًا طويلًا تتخلها الكثير من عمليات الابتزاز والفساد، ثم تصل مرحلة المحاكمات التي ترى الاعتراف – تحت التعذيب – دليلًا كافيًا للإدانة، وهو ما نتج عنه أحكامًا قاسية بحق الكثير من المعتقلين، من ضمنها أحكام بالإعدام تم تنفيذ الكثير منها.
وهكذا، يمكن القول إن ملف المعتقلين، هو أحد الأسباب الرئيسية للاضطراب الأمني والسياسي، وهو في نفس الوقت، محرك الاستقرار في البلاد.
العفو العام.. العدالة: مقطرة ومقننة!
في مقابل هذه الانتهاكات الجسيمة، كان الحل المفترض هو معالجة أساس المشكلة، وهو تغيير التعاطي القضائي مع الجرائم المرتكبة والعمليات الإرهابية في كل مرحلة، بدءًا من مذكرات القبض المبنية على إفادة المخبر السري، مرورًا بعمليات التعذيب خلال التحقيق وانتزاع الاعترافات بالإكراه، انتهاءً بالمحاكمات الجائرة المبنية على قصور كبير في التحقيق، والخاضعة للمزاج السياسي لمن هم في السلطة!
لم يكن هذا ممكنًا ببساطة، لأن الدولة العراقية تم بناؤها في الأصل بناءً على المحاصصة والإقصاء، ولضمان سيطرة وحكم طائفة بعينها، حيث كان القضاء ولا يزال، أحد أهم الوسائل لتحقيق هذه الهدف، وبالتالي فالحديث عن هذا الحل يُعدّ هدمًا لأحد أساسات الدولة نفسها. ومن هنا انبثق مقترح قانون العفو العام للتعامل مع المشكلة بشكلها النهائي وليس من جذرها.
فكان أول قانون عفو بعد العام 2003 هو القانون رقم 19 لعام 2008، والذي كان أساس كل القوانين، ونص على العفو عن المحكومين والمدانين، ابتداءً من أحكام الإعدام فما دونها، سواء اكتسبت أحكامهم الدرجة القطعية أم لا، غير أن المشكلة كانت تكمن في الاستثناءات التي تضمنها القانون، والتي ستبقى في كل القوانين والتعديلات اللاحقة، والتي أوردتها المادة الثانية منه وتشمل التهم بالجرائم الآتية:
- الإرهاب إذا نشأ عنه قتل أو عاهة مستديمة.
- القتل العمد.
- القتل الخطأ الذي لم يتنازل ذوو العلاقة فيه عن حقوقهم الشخصية.
- خطف الأشخاص.
- السرقة المقترنة بظرف مشدد.
- اختلاس أموال الدولة أو تخريبها عمدًا.
- الاغتصاب واللواط.
- الزنا بالمحارم.
- تزييف العملة العراقية أو الأجنبية وجرائم تزوير المحررات الرسمية.
- المخدرات.
- تهريب الآثار.
- الجنايات المنصوص عليها في قانون العقوبات العسكري رقم (19) لسنة 2007.
رغم أن القانون، شكل وقتها متنفسًا لآلاف المعتقلين المحكومين ظلمًا، فإنه لم يحل المشكلة الرئيسية. ازداد الوضع سوءًا بعد حرب داعش والأحداث التي رافقتها، فظهرت الحاجة لتعديل جديد، وهو ما نتج عنه القانون رقم 27 لعام 2016، والذي لم يكن يختلف كثيرًا عن سابقه من حيث الاستثناءات، سوى أنه أضاف فقرة جديدة – الفقرة 2 من المادة 9 – التي تتيح للمحكومين ومن ضمنهم المتهمين بجرائم يستثنيها القانون، تقديم طلب بإعادة المحاكمة – وليس التحقيق – في الأحكام الصادرة بحقهم بشرط موافقة لجنة من مجلس القضاء الأعلى، تنظر بالطلب وتحيل على أساسه أوراق القضية إلى محكمة الجنايات لإعادة المحاكمة.
أما القانون الحالي الذي صُوّت عليه في 21 يناير/كانون الثاني لعام 2025، فأضاف فقرة جديدة تتيح للمحكوم عليه بجناية أو جنحة بمن فيهم مرتكبي الجرائم المستثناة من أحكام القانون ادعى انتزاع اعترافه بالإكراه أو اتخذت الإجراءات القانونية بحقه بناءً على أقوال مخبر سري أو اعتراف متهم آخر الطلب من اللجنة الخاصة بالعفو، تدقيق الأحكام من الناحيتين الشكلية والموضوعية دون شرط الحصول على موافقة اللجان القضائية التي تم بموجب القانون السابق الذي أقرّ عام 2016.
يرى الخبير القانوني أمير الدعمي، وهو محام ترافع عن قضايا تخص عشرات المعتقلين، أن قانون العفو العام الحالي لن يغير الكثير في المعادلة الموجودة.
“الأبرياء استُغلوا كعنوان لمضمون آخر هو التسوية مع الفاسدين سراق المال العام، ولا أعتقد أنه سيشمل الكثير منهم لأن الطريق أمامهم طويل بالاعتراض والتدقيق ومراجعة الملفات والأحكام، وتبقى السلطة التقديرية في ذلك للجان القضائية التي ستشكل لاحقًا للنظر بالطلبات المقدمة للنظر بالشمول، بينما لا يحتاج السراق إلا إلى تسوية مع الدوائر المشتكية وقد تكون التسوية لعقود لاستيفاء المبالغ وكأنما سلفة أو اقتراض من الدولة، أما بنوده فكانت ركيكة إلى حد كبير وتحتاج إلى صياغة قانونية وحجة في التنفيذ”، يقول الدعمي لـ”نون بوست”.
ويضيف أن القانون ليس سوى مزايدة سياسية تسبق الانتخابات، خاصة بطريقة إقراره مع حزمة قوانين أخرى، لم تقل جدلًا عنه!
3 قوانين في سلة واحدة .. لا شيء جديد في العراق!
ما أثار الجدل حول القانون، هي طريقة إقراره، فقد جرى إقراره ضمن حزمة قوانين جدلية أخرى، منها تعديل قانون الأحوال الشخصية الذي تضمن تعديلات وفق المذاهب، حيث يتيح تعديل القانون للعراقيين عند إبرام عقود زواج الحق في اختيار تنظيم شؤون أسرهم وفقًا لأحكام المذهب الشيعي أو السني، أو تلك التي ينص عليها قانون الأحوال الشخصية النافذ والمعمول به منذ 1959.
أما القانون الآخر، فهو قانون إعادة العقارات إلى أصحابها، والذي يمس مشكلة تتعلق بالتغيير الديموغرافي الذي شهدته بعض المحافظات العراقية بناءً على قرارات مجلس قيادة الثورة في العام 1969، خاصة محافظة كركوك، التي شهدت توطين الكثير من العرب فيها في ذلك الوقت، وهو ما ينذر بتصعيد في المحافظة، والمناطق المتنازع عليها.
إن طريقة تمرير القوانين وتوقيتها، تثير الكثير من التساؤلات حول إقرارها، حيث يبدو التوافق السياسي واضحًا: وافقت القوى الشيعية على قانون العفو العام، مقابل موافقة القوى السنية على قانون الأحوال الشخصية، ثم وافق الطرفان على قانون إعادة العقارات لأصحابها، مقابل أن توافق القوى الكردية على القانونين أعلاه.. هكذا تجري الأمور في العراق!
يقول بعض النواب إن القوانين مُررت على عجل حتى دون اتباع قواعد النظام الداخلي للبرلمان؛ “لا يمكن وصف هذه الجلسة إلا بالمهزلة البرلمانية، فالتصويت على هذه القوانين تم بطريقة غير قانونية وغير شفافة، إذ تم تمريرها دون حتى رفع الأيدي من قبل النواب، وهو أمر لم يسبق له مثيل في أي جلسة سابقة”، تقول النائبة نور نافع الجليحاوي.
أما النائب ياسر الحسيني فيقول إن أساس عقد الجلسة، فضلًا عن طريقة التصويت، غير مستوف للشروط القانونية، لأن “التصويت تم على 3 قوانين دفعة واحدة بطريقة غير قانونية ومخالفة لضوابط مجلس النواب، ولم يتم التأكد من اكتمال النصاب القانوني لحضور الجلسة”، ويضيف: “أعلن رئيس البرلمان بشكل غير صحيح عن إقرار هذه القوانين رغم أن العديد من النواب لم يوافقوا عليها”، مؤكدًا أن هناك نية لبعض النواب للطعن لدى المحكمة الاتحادية على مخرجات الجلسة.
إقرار القوانين جاء قبل حوالي 10 شهور من الانتخابات التشريعية المزمع إقامتها هذا العام، وهي انتخابات حساسة تجري وسط عاصفة يمر بها الشرق الأوسط، يقع العراق في القلب من أحداثها ومستقبلها، وهو ما يضع علامات استفهام إضافية على التوقيت. ربما يكون الجديد في الأمر هذه المرة؛ أن المحاصصة وصلت للقوانين.. بعدما استنفذت مفاصل الدولة وأهلكتها: قانون للسنة.. قانون للشيعة.. قانون للأكراد!