كثير من الناس يقولون إنه لدى زيارتك لمدينتي أورفا وماردين التركيتين، تشعر تمامًا كأنك في بلاد الشام، فهنا عبق التاريخ نفسه، من الحضارات التاريخية المحورية التي توالت على هذه المنطقة، وهنا الطبيعة الجغرافية والمجتمعية الواحدة الممتدة من الشام لتركيا، وأخيرًا هنا قدسية المكان الدينية لأصحاب الديانات السماوية الثلاثة، سنتحدث الآن عن مدينتي أورفا وماردين من حيث هذه العوامل المشتركة والعميقة مع العرب.
مدينة أورفا.. مدينة الأنبياء
تعد مدينة أورفا التي تُعرف أيضًا بسم مدينة “الرها التركية” و”شانلي أورفا”، من أقدم وأكبر المدن الأثرية في تركيا، يعود تاريخها إلى 3500 سنة ق. م على الأقل من العصور الحثية، تقع المدينة في جنوب شرق البلاد على الحدود السورية.
جامع النبي إبراهيم
أُطلق على أورفا أسماء عدة على مدى التاريخ مثل: “أور” و”وأورهوي” و”أورهايي” و”روهايي” و”روها” و”أداسا” و”الرها”، وهو الاسم الذي عرفت به في التاريخ العربي، كما كانت واحدة من المدن التي تقع في المنطقة العليا من حوض نهري دجلة والفرات والهلال الخصيب.
قصص الأنبياء في أورفا
يطلق الأتراك على مدينة شانلي أورفا الواقعة جنوب تركيا “مدينة الأنبياء”، ويرى بعضهم أنها تعد رابع مدينة مقدسة في العالم بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس، وتعود تسمية المدينة بهذا الاسم إلى اعتقاد عدد من المؤرخين أنها كانت موطنًا لستة من اﻷنبياء.
تعتبر الكثير من المصادر التاريخية أن مدينة أورفا مسقط رأس خليل الله إبراهيم عليه السلام وابن أخيه النبي لوط عليه السلام، حيث ترى المصادر أن هناك دلالات جغرافية على قصة مولد سيدنا إبراهيم في المنطقة، حسبما جاءت في الكتب السماوية والروايات القديمة.
وبذلك يحفظ سكان المدينة قصة مولد أبو الأنبياء الذي يعتبرون أنه وُلد في كهف بشانلي أورفا “سموه كهف ميلاد سيدنا إبراهيم”، وخبأته أمه 7 أو 9 سنوات لتحميه من جبروت النمرود الذي أمر جنوده بقتل أي صبي أو مولود ذكر، بعد أن تنبأ له عراف بأن صبيًا من قومه سيقوض حكمه ويثور عليه، وبالكهف بئر يخرج منه الماء كان يشرب منة سيدنا إبراهيم ويعتبر هذا الماء شافيًا وصحيًا، ويقول الأهالي أيضًا إن سيدنا إبراهيم حطم أصنام قومه في مكان قريب من الكهف.
مكان البئر
حران
فيما توجد في أورفا “بركة السمك المقدسة” التي تعتبر من أشهر الأماكن السياحية في المدينة، ويعتقد الأتراك أن النمرود أشعل فيها النيران وأمر بإلقاء نبي الله إبراهيم بها، قبل أن يأتي أمر الله عز وجل، لتتحول النار إلى مياه، ويتحول الحطب إلى أسماك، ويؤمن كثير ممن يزورون البحيرة ويطعمون أسماكها بصحة تلك القصة.
كما في مدينة خليل الرحمن الفلسطينية التى ارتبط اسمها باسم نبي الله إبراهيم منذ زمن بعيد، ارتبط اسم أورفا به كذلك، فعلى ضفة البحر تجد مسجد خليل الرحمن الذي يعد من أقدم المساجد في المدينة، حيث يعود بناؤه إلى 1300م على يد صلاح الدين الأيوبي، وهناك بجانبة مدرسة الخليل الرحمن التي بنيت في عهد الدولة العثمانية.
كما يسير الاعتقاد بأن نبي الله يعقوب ابن خليل الله، عاش فترة من الزمن في شانلي أورفا، قادمًا من فلسطين، حتى يتزوج من ابنة خاله راحيل التي كانت تعيش في أور، وتذكر التوراة أن يعقوب عليه السلام ولد في حران، أي مدينة أورفا.
تقول العديد من الروايات والمصادر إن المدينة عاش فيها النبي إلياس عليه السلام، والنبي شعيب عليه السلام، وهو حما موسى عليه السلام، كما يوجد ضريح في أحد الكهوف يعتقد أنه لنبي الله شعيب
يُقال أيضًا إن المدينة بها كهف ميلاد نبي الله أيوب علية السلام، رمز الصبر في القرآن الكريم والديانات السماوية، وتوجد مغارة يُعتقد أنه قضى فيها سنوات ابتلائه وبها مقامه، وبجوارها يوجد بئر يعتقد أن أيوب عليه السلام اغتسل من مياهه ليبرأ بعدها من كل ما عانى منه من مرض وألم.
إلى جانب ذلك، تقول العديد من الروايات والمصادر إن المدينة عاش بها النبي إلياس عليه السلام والنبي شعيب عليه السلام، وهو حما موسى عليه السلام، كما يوجد ضريح في أحد الكهوف يعتقد أنه لنبي الله شعيب.
يشار إلى أهمية شانلي أورفا بالنسبة للديانة المسيحية أيضًا، إذ تقول الروايات إن الملك أبجر الخامس، ملك الرها، أرسل رسالة إلى النبي عيسى عليه السلام يدعوه فيها للقدوم إلى مدينته، فأرسل له عيسى عليه السلام رسالة يبارك فيها المدينة، كما أرسل له منديلًا مسح به وجهه فانطبعت صورته عليه.
وتعد شانلي أورفا البوابة التي دخل منها الإسلام إلى منطقة الأناضول التركية، وانتشر فيها بعد فتحها، لذلك تعد المدينة مهمة بالنسبة للمسلمين.
تتشابه أورفا مع المدن العربية المهمة دينيًا، كمكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف والخليل وسينا والكثير من المدن في سوريا والعراق، بأنها تحمل أهمية روحانية مهمة بسبب خروج الأنباء والرسالات منها، لذلك فهي تحتل مكانة مميزة على خريطة السياحة العالمية بين الديانات التوحيدية الثلاثة الكبرى.
تشترك أورفا أيضًا مع ما يجاورها من المنطقة العربية بالآثار التي تركتها الأمم التي سكنت هذه المناطق وحكمتها وأقامت حضارات عليها كالحضارة الأشورية والبابلية والحيثية والبيزنطية، والعهود السلجوية والأرطوقية والعثمانية.
ماردين.. مدينة التسامح
ماردين حكاية أخرى بحد ذاتها، بترابطها وملامحها العربية السورية المتينة، وإذا سنحت لك الفرصة لزيارة إسطنبول أو أي مكان في تركيا، لا بد أن تجد شخصًا تركيًا من مدينة ماردين يحدثك العربية، ويعود هذا السبب أن ماردين من الأقاليم السورية الشمالية التي ضمت للأراضي التركية حسب معاهدة لوزان عام 1923.
أما عن سبب تسمية ماردين بهذا الاسم، فيقول المؤرخون إن أصل تسمية المدينة يعود إلى اللغة الآرامية التي تعني “القلعة”، وقد عُرفت بهذا الاسم منذ عصر الإمبراطورية الآشورية الحديثة، أما المؤرخ العربي ياقوت الحموي الذي ولد في الأناضول وتوفي في حلب، يقول في معجمه “البلدان” إن سبب تسمية المدينة بهذا الاسم يعود إلى وجود حاكم في جبل ماردين تمرد على الأنظمة والقوانين، وعندما بلغ زنوبيا الخبر قالت (تمرد مارد)، فرد الحاكم على كلامها قائلاً: “تمرد ماردين وليس ماردًا واحدًا”، ومن هنا تم إطلاق الاسم على المدينة.
مدينة ماردين واحدة من المدن التي تُعتبر رمزًا للتسامح الديني والإنساني، بسبب التعايش الإنساني الراقي بين الناس أصحاب الديانات السماوية، والأجناس والأعراق والثقافات المختلفة تمامًا، حيث يتحدث سكانها اللغة العربية والتركية والكردية والآرامية.
إن معظم سكان ماردين من أصول سورية، وذلك لتبعيتها التاريخية لبلاد الشام، كحال أهالي مدينة أورفة وعنتاب ومرعش الذين كانوا جزءًا من بلاد الشام نهاية عصر الحكم العثماني، كما كانت المدينة موطنًا للعديد من الأديان والثقافات على مر القرون، مثل الآشوريين والرومان والمسلمين والمنغول والكاثوليك والأرمن والكلدانيين.
وبالفعل يوجد في ماردين آثار تعود لـ25 حضارة، بينها السومرية والأكدية والبابلية والحثية والأشورية والرومانية والعباسية والسلجوقية والعثمانية، الأمر الذي أكسبها تاريخًا عريقًا وأصولاً مشتركة مع العرب في العادات والتقاليد والطعام والشراب ومظاهر الحياة الاجتماعية.
الآثار الموجودة في المدينة تأخذ السائح في رحلة تاريخية طويلة، يرى فيها أيضًا الملامح التاريخية العربية، فهناك مدرستان عربيتان من زمن السلاجقة، تعادل الجامعات في الوقت الحاضر، من حيث الاختصاص في الفقه والحقوق والطب، وهناك مدرسة القاسميّة التي أُنشئت في عهد الحضارة الأرتوكلية الإسلامية التي تنحدر من عروق تركية عربية مختلطة.
تشتهر المنطقة بكثرة القلاع بها وتحولت معظمها الى كنائس بوجود المسيحية، غير أن المدينة ظلت مركزًا للديانات الأخرى، ومن أبرز معالمها الأثرية الجامع الكبير وجامع الشهيدية وجامع الريحانية، وكنائس قديمة منها كنيسة مارشمونة وكنيسة العذراء وكنيسة الزعفران، ولذلك فإن ماردين موقع أثري محمي عالميًا حسب تقارير منظمة اليونسكو (1979) وهي، إلى جانب مدينة القدس ومدينة فينيسيا الإيطالية، واحدة من ثلاث مدن ما زالت آثارها المعمارية محفوظة بشكل جيد حتى الآن.
ختامًا، فإن العوامل المشتركة بين هذه المناطق التركية المتمثلة في أورفا وماردين مع بلاد الشام العربي، التي تعود لآلاف السنين، تتمثل في الامتداد الجغرافي الطبيعي لهذه المنطقة الذي جعلها تتكاتف في كثير من الأزمنة والأزمات، وذلك أدى بطبيعة الحال إلى امتزاج الدم بالدم، ليكون أصل غالبية سكان هذه المناطق واحدًا.
كما أن هذا الامتداد هو السبب في تبريك هذه المنطقة عند الأديان السماوية الثلاثة، لأن الله عز وجل خص بلاد الشام وما حولها بأن تكون مهبطًا لرسالاته ومولدًا لأنبيائه ورسله، وهذا بحد ذاته يعتبر عند الكثير من الناس أحد أكثر الروابط المشتركة أهمية بين العرب والأتراك لتقاسمهم هذه البركة إلى الأبد.