لا يمكن لأحد أن يأتي على ذكر اللغة العربية وأصالتها إلا وأبدى إعجابه بالخط العربي الذي حمل تاريخ الثقاقة العربية وفنونها منذ مئات السنين حتى وقتنا الحاضر، وعلى خلاف الكثير من اللغات التي لم يأخذ الخط بها دورًا ظاهرًا؛ كان الخط العربي مستمرًا في تطوره ومجاراة الحداثة الجديدة بكل أنواعها وإثبات قدرته على البقاء والاندماج، والمساهمة بتخليد ثاني أشهر لغة يتحدث بها الناس اليوم بتعداد يصل لنحو نصف مليار شخص.
ليس الخط فنًا جديدًا ومبتكرًا على عكس ما قد يظنه البعض، فقد بدأ الاهتمام به لأول مرة من النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – حين كان يبعث بكتب للملوك والأمراء يدعوهم فيها للإسلام، وقد عمل على نشر القواعد الرئيسية للكتابة بالخطوط العربية واهتم أيضًا بتعليمه للنساء والرجال حتى تنافس الكتّاب في تجويده وتحسينه بهدف الارتقاء لمنزلة الخطاطين الكبار الذين كان النبي يستعين بهم أثناء مراسلته للملوك والأمراء. وكان أول من أتقن الخط بشكل سليم هم علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وعثمان وخالد بن سعد وأبو سعيد بن العاص وشرحبيل بن حسنة وزيد بن ثابت وغيرهم من الصحابة الكرام.
انتشر الخط أكثر في زمن الخلافات بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – فبرز في بناء الكوفة في خلافة عمر بن الخطاب إذ تفنن الكوفيون فيه وأحسنوا كتابته حتى بات مختلفًا عن أهل الحجاز، فأطلقوا عليه اسم “الخط الكوفيّ” في الحين الذي كان يعرف فيه بالمكي والحجازي. وقد كتبت به لاحقًا مصاحف كان أولها مصحف الخليفة عثمان بن عفان، ومع قدوم العصر الأموي اتخذ الخط شكلًا أوضح أكثر مما كان عليه في العصور السابقة رغم أن الحروف كانت لا تزال من غير نقاط.
وقد ظهر حينها عدد من الخطاطين المميزين على رأسهم قطبة المحرر الذي جمع بين الخطين الكوفي والحجازي في خط جديد سمي بـ”الجليل”، استعمله الخطاطون من بعده في الكتابة على أبواب المساجد والقصور وأيضًا في دواوين وسجلات الدولة، فتميزوا عن غيرهم في كتابة دواوينهم.
صورة تظهر النقوش الأموية على قبة الصخرة
ملامح الخط العربي وأنواعه
يعتبر الخط العربي نوعًا من فنون الكتابة ورسمها بتدوين حروف الأبجدية العربية متصلة ببعضها البعض لتكوين الكلمات بشكل رسم يختلف من خط لآخر وفقًا للمد والرجع والاستدارة والتشابك وغيرها، وتقترن الخطوط العربية بشكل وثيق مع الزخرفة العربية المستخدمة لتزيين جدران المساجد والقصور وتزيين صفحات الكتب واللوحات والنقش عليها بنقوش عربية يدخل في تركيبتها أحيانًا ماء الذهب لتمنح جمالًا إضافيًا كما هو الحال في نسخ القرآن الكريم، ويقترن هذا النوع من الفنون بالشريعة الإسلامية نظرًا لتحريم تجسيد البشر والحيوان وتصويرهما، فيعتبر فن الخط فنًا إسلاميًا قبل أن يكون عربيًا.
ينقسم فن الخط إلى أنواع عديدة أشهرها الخط الكوفي الذي يتميز بالصلابة، والخط الحجازي السهل، وخط الرقعة المنسوب اسمه للرقاع أيّ جلد الغزال، ويعتبر الخطاط ممتاز بيك العثماني واضع قواعد هذا الخط، وهو خط يستخدم يوميًا، وخصائصه أنه يكتب بطريقة سريعة وسهلة، وأيضًا يوجد الخط الفارسي الذي وجد في بلاد فارس ومن خصائصه الحروف الدقيقة والممتدة والبُعد عن التعقيد واقترابه أكثر إلى الوضوح.
شيخ الخطاطين الأتراك حسن شلبي يخط إحدى لوحاته
أما باقي الخطوط فهي خط الطغرى الذي كان يعتبر ختمًا رسميًا للسلاطين والولاة، بالإضافة إلى خط الثلث وهو من أعقد الخطوط وأجملها، يتميز بالمرونة نظرًا إلى أن معظم حروفه يمكنها أن تأخذ أشكالًا عديدة إلا أنه يستغرق وقتًا طويلًا في رسمه لذا يقتصر استخدامه على العناوين وبعض الآيات، يوجد أيضًا خط النسخ الشهير وهو أسهل الخطوط وأجملها له قواعد كثيرة رغم سهولتها. أما الخط الأخير فهو المغربي الذي ينتشر أكثر في بلدان شمال إفريقيا، ويعتبر الخط الرسمي في المغرب العربي ومن خصائصه استدارة حروفه بشكل كبير وتداخلها في بعضها البعض.
تأثيرات الحداثة على الخط العربي
كثرت أنواع الخط العربي وطرأت عليها عديد التغييرات، وفقد الآن الكثير من أهميته مقارنة بما كان عليه في الماضي حين كان يستخدم في كتابة وتدوين ونشر كل شيء تقريبًا، إلا أنه حافظ على وجوده وجماليته حتى مع تقدم السنين ودخول الحداثة الجديدة للعمارة وظهور آلات الطباعة والنسخ والخطوط الرقمية التي باتت متوافرة بكثرة على الإنترنت، حيث وجد طريقًا يحافظ به على أصالته وحاجة الفن له.
وفي مقابلة خاصة مع شيخ الخطاطين الأتراك الأستاذ حسن شلبي، الذي أشرف وعمل على مئات من المشاريع والمساجد في تركيا والوطن العربي حدثنا فيها عن تاريخ الخط منذ أن كان الخطاطون العرب والأتراك تحت حكم الدولة العثمانية وصولًا إلى وقتنا هذا فيقول: “بالرغم من حدوث تغيرات وصعوبات مرت على مدار قرون عديدة أثرت على حركة الخط العربي أهمها فقدان الخطاطين العرب اهتمامهم بهذه الحرفة وعدم تركيزهم على نقلها للأجيال من بعدهم، – وهو ما لاحظه عند زيارته لعض البلدان العربية – إلا أن حرفة الخط مازالت قوية ومستمرة بغض النظر عن كل التحديات الوجودية التي مرت بها”.
شيخ الخطاطين الأتراك حسن شلبي في مكتبه بجامع تشامليجا
أما حين سألناه عن حركة الخط العربي في تركيا في نفس الفترة قال منوهًا: “إن الأمور كانت أكثر تعقيدًا في تركيا ذلك الوقت بسبب استلام أتاتورك رئاسة البلاد ومنع ممارسة أي شكل من أشكال الدين الإسلامي أو قراءة وتعلّم اللغة العربية، حتى لجأ الخطاطون إلى التلال البعيدة عن المدن ليتدربوا على الخط ويتعلموا كتابة الأحرف العربية بعيدًا عن الأنظار، كما قد تم إغلاق الكثير من مدارس الخط الكبيرة ومصادرة العشرات من الكراسات القيّمة التي أعاقت تعلّن الخط العربي في تركيا لفترة طويلة”.
كما يضيف الشيخ شلبي بشأن دخول الخطوط الرقمية والطباعة وما إن كانت تؤثر على الخط العربي فيقول “لا يمكن لأي شكل جديد من الخطوط الرقمية أو الكتابة المطبوعة أن تضاهي قيمة وحرفيّة الخط العربي اليدوي، فهو ليس رسمًا منضبطًا كما يظنه البعض بل حرفة لها قوانينها وقياساتها التي لا يمكن إتقانها دون العمل بها”.
وأشارت إلى محاولات غش كبيرة حصلت عند انتشار الآلات الطابعة مثل قيام بعض الطلبة باستخدام الطابعة لطبع كراسات على أنها من عملهم في مسابقات دولية، إلا أنه قد تم اكتشافهم من خلال حكّ الحبر بشفرات حادّة.
ويذكر أن من بين أهم وآخر الأعمال التي أشرف عليها الشيخ شلبي هي نقوش وتخطيط جامع تشامليجا في إسطنبول الذي يعتبر أكبر جامع في آسيا الصغرى، والذي بنيّ بأمر من الرئيس التركي طيب أردوغان وتم افتتاحه في 2016.
وبهذا الخصوص، قال الشيخ شلبي إن “العمل على نقوش وخطوط جامع تشامليجا كان من المفترض أن تنتهي خلال سنة ونصف بدل من المدة التي استغرقتها وهي عامين ونصف، إلا أن أخطاءً حصلت في قياسات الخطوط أجبرت الخطاطين الثلاث الذي عملوا عليها على إعادة العمل أكثر من مرة وهو ما يدل على الدقة اللازمة لإتمام هذه الحرفة”.
النقوش والخطوط على سقف جامع تشامليجا من الداخل
الخط العربي والشباب في وقتنا الحاضر
إلى ذلك، يتناول بعض المدونين العرب مسألة حركة فن الخط العربي على أنها كانت شبه مختفية منذ بداية الألفينيات حتى انطلاق ثورات الربيع العربي وعودة الحياة لهذا الفن، ويعزون أسباب هذه العودة إلى تزايد اهتمام الشباب العربي بتاريخهم ولغتهم وفنونها والتي يشكل الخط العربي جزءًا منها، إذ نجد الآن أكثر الراغبين بتعلم هذه الفنون هم من الجامعات والمدارس. وقد تركزت هذه الحركة المتزايدة في عدة مدن عربية وأجنبية كانت مدينة إسطنبول من بينها والتي وجد فيها العشرات من الشباب والشابات أرضًا خصبة لتعلم أصول هذا الفن ومتابعة حركته.
وقد ساعدت إسطنبول على إبراز الكثير من هؤلاء الطلاب التي كانت الخطاطة العربية أسيل كوجان واحدة منهم، حيث ظهر شغفها باللغة العربية وفنونها من خلال لوحاتها المتقنة التي نالت إعجاب الكثيرين من مختلف الدول العربية حتى تكلل أوّل معارضها بالنجاح عام 2018.
ورأت كوجان في حديث لـ “نون بوست” معها، بشأن الإقبال المتزايد للشباب العربي على تعلم فنون الخط العربي، أن “هناك تزايد ملحوظ في إقبال الشباب العربي على تعلم فنون الخط ومتابعة آخر تطوراته، إلا أن هناك نقطة مهمًة غالبًا ما تغيب عن الراغبين بسبر أغوار هذه الحرفة وهو حاجتها إلى تمرين طويل ومستمر حتى التمكن من إتقانها، فالخط العربي نوع من الحِرف التي تحتاج كغيرها إلى ممارسة وجهد لا يمكن للطالب تجاوزها دون تدريب طويل وسنوات من التجربة وصقل المهارة”.
إحدى لوحات كوجان الأخيرة بخط الرقعة
فيما تذهب كوجان للحديث عن انتشار دورات تعليم الخط في مدينة إسطنبول والاستفادة من وجود كبار الخطاطين والأساتذة أمثال الخطاط اليمني ذكي الهاشميّ والشيخ حسن شلبي ناصحة بمرافقتهم والأخذ بتوصياتهم في عين الاعتبار.
يمثل الاهتمام بالفنون العربية جزءًا مهمًا في طريق العودة إلى استخدام اللغة العربية ونشرها في ظل استحواذ كبير نعيشه من قبل اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية على الكثير من الجوانب البسيطة في حياتنا، بالإضافة إلى أن للفنون العربية والإسلامية على وجه الخصوص دورًا كبيرًا في تمكين الثقافة والهوية العربية في نفوس الجيل الجديد وإعطاءها فرصة على إظهار قدرتها كباقي الثقافات على الاندماج والتطور.