“أول رحلة خارجية عادة ما تكون إلى المملكة المتحدة، لكن كانت السعودية أولى رحلاتي في فترة رئاستي الأولى (2017 – 2021) لأنهم وافقوا على شراء ما قيمته 450 مليار دولار من المنتجات الأمريكية، وإذا أرادت المملكة شراء ما قيمته 450 أو500 مليار أخرى، فأعتقد أنني غالبًا سأذهب هناك”، هكذا كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عن شروطه لتكون الرياض محطته الأولى كما كانت في الولاية السابقة، وذلك بعد ساعات قليلة من حفل تنصيبه الذي جرى الاثنين 20 يناير/كانون الثاني 2025.
الرسالة كانت واضحة ومباشرة، وبعيدًا عما قد يُفهم من بين ثناياها بشأن طبيعة نظرة الإدارة الأمريكية للمملكة، إلا أن الجانب السعودي تلقاها بصدر رحب، بعد أن فهمها جيدًا واستوعبها بدقة، ومن ثم كان اتصال التهنئة الذي أجراه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع ترامب، الأربعاء 22 يناير/كانون الثاني الجاري، وهو الاتصال الذي أعلن فيه ولي العهد استجابته للشرط الترامبي، حين أكد على “رغبة المملكة في توسيع استثماراتها وعلاقاتها التجارية مع الولايات المتحدة في السنوات الأربع المقبلة بمبلغ 600 مليار دولار مرشحة للارتفاع إن توافرت فرص استثمارية إضافية”، وفق البيان الصادر عن الخارجية السعودية.
ورغم سجل ترامب من التصريحات الهجومية والانتقادية – والمذلة أحيانًا – إزاء المملكة وقادتها، فإن السعوديين يفضلونه أكثر من غيره، إذ أشار الكثير من المقربين من دوائر صنع القرار السعودية فضلًا عما توصلت إليه نتائج الدراسات واستطلاعات الرأي أن ترامب ربما يكون الرئيس الأكثر تفضيلًا لدى القيادة السعودية وربما لدى قيادات بعض دول الخليج كذلك وفي المقدمة منهم الإماراتيون.. فلماذا هذا التفضيل؟
ترامب يعلّق على أول زيارة خارجية له.. إذا دفعت السعودية 50 مليار إضافية ستكون السعودية وجهتي الخارجية الأولى pic.twitter.com/UURXwoPbD0
— نون بوست (@NoonPost) January 21, 2025
بداية.. كيف كانت العلاقة مع بايدن؟
لا يمكن قراءة التقارب بين السعودية وترامب، سواء في الولاية الأولى أو المحتمل خلال الولاية الثانية، بمعزل عن طبيعة العلاقة بين الرياض وواشنطن في عهد جو بايدن، تلك العلاقة التي شهدت موجات متلاطمة من التوتير والتعثر وإن هدأت عواصفها في الرمق الأخير من ولاية الرئيس الديمقراطي.
خلال حملته الانتخابية في 2019 أعلن بايدن أنه فور وصوله للسلطة سيعمل على إعادة تقييم العلاقات مع الرياض، في وقت كانت تتعرض فيه المملكة لانتقادات حادة من النخبة الأمريكية بسبب الانتهاكات السعودية في اليمن وضد المعارضين ونشطاء الرأي، لدرجة أنه اعتبر السعودية “دولة منبوذة”.
وما إن وصل للسلطة رسميًا في يناير/كانون الثاني 2020 حتى بدأ في ترجمة هذا التوجه عمليًا، حين رفض مهاتفة ولي العهد، كونه ليس الرجل الأول في المملكة، وهي الخطوة التي أثارت حفيظة السعوديين كثيرًا، وكانت إيذانًا ببدء مرحلة داكنة من العلاقات الفاترة بين الطرفين.
حاولت الرياض إيصال رسائل امتعاض لواشنطن من خلال بعض المؤشرات، على أمل أن تدفع نحو تخفيف حدة التوتر بين البلدين، أبرزها تحويل الدفة نحو المعسكر الشرقي، حيث إعادة التفاوض مع الصين على بيع النفط السعودي لها باليوان الصيني بدلًا من الدولار الأمريكي، كما وجهت دعوة للرئيس الصيني لزيارة المملكة، وتجنب إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، هذا بخلاف عدم الاستجابة للمناشدات الأمريكية بشأن إنتاج النفط من أجل خفض سعره الذي وصل إلى 120 دولارًا بسبب الحرب الأوكرانية.
وأمام رسائل الانزعاج والعتاب السعودية تلك، التزمت إدارة بايدن الصمت دون أن تحرك ساكنًا، وفي المقابل سعت لإيجاد بدائل أخرى تغنيها عن التفاهم مع الرياض، حيث لجأت للسحب من الاحتياطي الاستراتيجي للنفط، وتعزيز العلاقات مع بعض الدول النفطية الأخرى كقطر والإمارات والكويت، في خطوة فُهمت حينها على أن الإدارة الديمقراطية الأمريكية غير مكترثة لتحسين العلاقات مع ولي العهد السعودي، حتى جاءت أزمة النفط العام الماضي لتجبر بايدن على تغيير سياسته تجاه المملكة، فبدأ في طرق الأبواب وتحسين العلاقات بعدما تعاظم ثقل السعودية كلاعب محوري في سوق الطاقة العالمي.
وبالفعل شهدت العلاقات السعودية الأمريكية خلال الأشهر القليلة الأخيرة من ولاية بايدن تحسنًا نسبيًا، لكن مخاوف السعوديين ظلت قائمة، يقينًا أن الرئيس الأمريكي ما تخلى عن موقفه إزاء المملكة إلا بدافع أزمة الطاقة التي تواجه بلاده، وأنه لو شهدت تلك الأزمة انفراجة في أي وقت ما سيعود بايدن إلى ما كان عليه، متعاملًا مع السعودية كـ”دولة منبوذة”، مُشهرًا سجلها الحقوقي في الداخل والخارج كخنجر في ظهر قيادتها.
وماذا عن ترامب؟
قد يُرجع البعض توتير العلاقات السعودية الأمريكية خلال السنوات الأربعة الأخيرة إلى التوجه الصدامي لإدارة بايدن إزاء الرياض وقيادات المملكة، وأن هذا هو السبب الرئيسي وراء ما يثار حول تفضيل السعوديين للرئيس الجمهوري، لكن بالعودة إلى ولاية ترامب الأولى (2017 – 2020) نجد أنها شهدت صدامًا مع السلطات السعودية ربما أكثر حدة مما كان عليه إبان عهد الرئيس الديمقراطي.
– 29 سبتمبر/أيلول 2018.. وخلال تجمع بولاية فرجينيا وجه ترامب تحذيرًا مباشرًا للعاهل السعودي، سلمان بن عبد العزيز، حين قال إنه تحدث مطولًا معه وقال له: “ربما لن تكون قادرًا على الاحتفاظ بطائراتك، لأن السعودية ستتعرض للهجوم، لكن معنا أنتم في أمان تام، لكننا لا نحصل في المقابل على ما يجب أن نحصل عليه”.
– 2 أكتوبر/تشرين الاول 2018.. تكرر التحذير الأقرب للإهانة مرة أخرى، وذلك خلال تجمع انتخابي آخر بولاية مسيسيبي، حيث قال ترامب إنه حذر ملك السعودية من أنه لن يبقى في السلطة “لأسبوعين” دون دعم الجيش الأمريكي.
– فبراير/شباط 2019.. عاود ترامب ابتزاز الرياض مجددًا بالحديث عن الحماية التي توفرها بلاده للسعودية، تزامن ذلك مع الضغوط المتصاعدة وقتها على الإدارة الأمريكية لفرض عقوبات على المملكة بسبب مسؤوليتها عن الأزمة الإنسانية في اليمن، ومقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، حيث قال ترامب في اجتماع حكومي عُقد في واشنطن إن السعودية لا تملك شيئًا آخر غير المال.
– أبريل/نيسان 2019.. الابتزاز الأقرب للمعايرة تكرر مجددًا خلال تجمع بولاية ويسكونسن حين قال ترامب إنه اتصل بالعاهل السعودي، وقال له: “أيها الملك، لقد أنفقنا الكثير ونحن ندافع عنك، وأنت تملك الكثير من المال”، حينها قال ملك السعودية “لكن لماذا تتصل بي؟ لا أحد أجرى معي اتصالًا كهذا في السابق”، فقال ترامب “هذا لأنهم كانوا أغبياء”، وتابع “السعودية دولة ثرية جدًا، ندافع عنها، ونقوم بتمويلها، ليس لديها سوى النقود، وهي تشتري الكثير منا (..)، هناك أشخاص يريدون مقاطعة السعودية، في حين أنها اشترت منا ما قيمته 450 مليار دولار، لا أريد أن أخسرها”.
إذًا.. لماذا يفضل السعوديون ترامب؟
إذا كان الأمر هكذا، حيث لا فرق بين بايدن وترامب في التعاطي مع السعودية، والنظر إليها كـ”بقرة حلوب” كل دورها إنعاش خزائن الأمريكان بمئات المليارات، إما في صورة صفقات تسليح أو استثمارات في السوق الأمريكي، فلماذا يميل السعوديون أكثر نحو ترامب، رغم أنه أكثر حدة في تصريحاته الصدامية تجاه قيادات المملكة مقارنة بسلفه الديمقراطي؟
كان الصحفي السعودي المناصر للتطبيع، عبد العزيز الخميس، قد نشر على حسابه على منصة “إكس” تقدير موقف لمركز” ستيمسون” المتخصص في دراسات الأمن والسلام في واشنطن، كشف أن “الانطباع الذي يتولد عن التحدث إلى السعوديين بشكل عام هو أنهم سعداء برؤية دونالد ترامب يعود ويفضلونه على بايدن”، وتابع: “وهذا ليس بالضرورة لأنهم يفضلون سياساته، بغض النظر عن القضية ـ من أوكرانيا إلى غزة ـ فإنه يقدم احتمالات التغيير، حتى لو لم يكن اتجاه هذا التغيير واضحًا بالضرورة”.
الفرق بين ترامب وبايدن بالنسبة للسعوديين هو أن الأول صريح ومباشر ولو كان صادمًا، أما الثاني فيميل إلى المواربة والتخفي خلف الشعارات الرنانة، الأول ينتصر للمصالح والمكاسب المادية بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى، فيما يدندن الثاني على أنغام الديمقراطية وحقوق الإنسان حتى لو كانت أنغامًا مزيفة.
هل يتناسب الاعتدال الإقليمي مع ترامب
السياسة الخارجية الناضجة للمملكة العربية #السعودية وعودة ترامب
مركز ستيمسون
-تحولت السياسة الخارجية السعودية في اتجاه أكثر اعتدالًا في السنوات الأخيرة.
-منذ عام 2019، عادت المملكة إلى نهج سعودي أكثر كلاسيكية ــ نهج يؤكد على الحوار وحتى… pic.twitter.com/TEUIwhubwH
— عبد العزيز الخميس (@alkhames) January 22, 2025
واستنادًا إلى المثل العربي الشهير “من تعرف ديته فاقتله”، يتعامل السعوديون مع ترامب وفق تلك القاعدة، فإذا كان الرجل يحب المال، فلا بأس، لدينا خزائن مفتوحة يمكن إغراؤه بها، في مقابل أن يغض الطرف عن أي ملفات أو اعتبارات أخرى، خاصة تلك المتعلقة بحقوق الإنسان حيث السجل السعودي المشين إزاء هذا الملف الذي كان يستخدمه الديمقراطيون كخنجر في ظهر المملكة بين الحين والآخر.
ومن ثم فلا حرج لدى القيادة السعودية في ابتلاع أي تطاول أو تجرؤ من ترامب وإدارته إزاء المملكة أو أي من قادتها، فطالما كان الأمر مقتصرًا على هذا الحد دون أي تحرك رسمي فلا مشكلة في ذلك، وفي المقابل من المرجح أن توظف الرياض تلك العلاقة مع الإدارة الأمريكية الجديدة في توسعة نفوذها وتمدد حضورها الإقليمي بجانب ترسيخ ابن سلمان لأركان حكمه وتعبيد الطريق – دون عراقيل – أمام وصوله للسلطة خلفًا لوالده الذي يعاني مؤخرًا من أعراض صحية متأرجحة.
في مقابلة له مع قناة “الحرة”، استعرض نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق لشؤون الشرق الأدنى، السفير ريتشارد شمايرر، آفاق العلاقات الأمريكية-السعودية خلال الولاية الثانية لترامب، لافتًا إلى أن الرئيس الأمريكي يُقدّر علاقته مع السعوديين، وأن عصب تلك العلاقة وأساسها هو الاقتصاد، منوهًا إلى حرصه على تشجيع السعودية على الاستمرار في شراء البضائع الأمريكية، حسب تعبيره.
وأشار السفير الأمريكي إلى أن المملكة ستستفيد من شراء بضائع أمريكية بقيمة 500 مليار دولار، وذلك في مقابل توقيع اتفاقية أمنية وعسكرية مع الولايات المتحدة التي ترغب في تدشين جبهة خليجية موحدة ضد إيران، كما أن العلاقة الشخصية بين ترامب وابن سلمان ستعزز من عمق العلاقات بين البلدين نحو آفاق غير مسبوقة، اقتصاديًا وسياسيًا.
بعودة ترامب للبيت الأبيض يضمن السعوديون – ومعهم الكثير من البلدان الخليجية – دخول ملف حقوق الإنسان ثلاجة التجميد لأربع سنوات كاملة، ما يمنح ولي العهد وسلطات المملكة الضوء الأخضر لقمع أي صوت معارض في الداخل والخارج بأريحية ودون قلق، وترسيخ حكم الأمير الشاب بشكل مطلق، فطالما الضرع السعودي لم يجف، والخزائن لم تُفرغ، وطالما استمر ترامب في سياسة الحلب، فلا جديد متوقع ولا تغير محتمل.