“عشتُ طفولة سعيدة، ثم بدأت أواجه المصاعب خلال مراهقتي عندما بدأ أفراد من مجتمعي يعمدون إلى إخفاء هويتهم المصرية، بسبب ما يتعرضون إليه من مضايقات لأن لون بشرتهم داكن، ولهذا السبب بدأوا يشعرون بالدونية ورغبوا في أن يكونوا جزءًا من الأغلبية”، مضيفًا “اليوم، لا نشعر بأننا مجبرين على إخفاء هويتنا ولسنا بحاجة للإدعاء بأننا ننتمي إلى الغير، يمكننا أن نقول بصوت عال بأننا مصريون ونفخر بذلك”. هذا ما قاله حقي سيرمجاني، أحد العاملين في الحزب الليبرالي المصري في كوسوفو، عن حياته كفرد يحمل الجنسية الكوسوفية وينتمي إلى الأصول المصرية. فما قصة هذه الجماعة؟
كيف جاء المصريون إلى البلقان؟
قبل 3 آلاف عام تقريبًا، حين كان العالم يشهد عملية التحول من العصر البرونزي إلى الحديدي، كانت مصر تعيش سنوات من المجد والرخاء الاقتصادي، ولكنها احتاجت إلى استيراد الحديد لكي تستمر في نهضتها وتتكيف مع الثورة الحديدية، ولذلك أمر الفرعون سيتي الأول في عهد الأسرة التاسعة عشرة ورمسيس الثاني بإرسال بعثة استكشافية إلى شبه جزيرة البلقان، بحثًا عن الحديد وموارد أخرى وجلبها إلى مصر.
وبالفعل، تم إرسال عدد من المصريين إلى دول البلقان في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وقد وجد هؤلاء ما جاؤوا للبحث عنه في الجزء الآخر من البحر الأبيض المتوسط في البلقان، ولكن حتى بعد انتهاء مهمتهم، ظل جزء منهم في البلقان ولا يزال أحفادهم موجودين إلى الآن في تلك المناطق التي استقر بها هؤلاء المهاجرين القدامى، كما يتجاوز عددهم المليون نسمة، إلا أنهم يمثلون مجموعة إثنية مهمشة اجتماعيًا ومدنيًا.
هل تكيفت جذورهم العربية مع الأجواء الأوروبية؟
بحسب الدكتور في علم الأنثروبولوجيا، روبين زيمون، في أكاديمية العلوم في بلغاريا، فلقد: “عاشت الجالية المصرية في عزلة تامة عن المجتمعات الأخرى، ولم تكن تتفاعل معها ولم تتأثر بها، فلم يكن هناك زيجات مختلطة، وذلك ما يفسر بقاءهم لما يزيد عن 30 قرن”. ويضيف أنهم عملوا في وظائف مختلفة، لكن المهنة الأكثر شيوعًا بينهم هي الحدادة، وفي كوسوفو تحديدًا يعملون في قطاع الزراعة، كما معروفين بشكل عام بمهاراتهم في مجال الموسيقى والعزف.
أول حراك للجالية المصرية تطالب الحكومات بالاعتراف بهم
يتحدث هؤلاء المصريون بألسنة مختلفة مثل الألبانية واليونانية والصربية والتركية والمقدونية، فلقد توقفوا عن استخدام لغة أجدادهم منذ زمن طويل واستبدلوها باللغات التي يستخدمها غالبية السكان في المناطق المحلية. ومع فقدانهم اللغة الأم، حاولت الجالية المصرية دفع الحكومات إلى الاعتراف بهويتهم المصرية كأقلية في مجتمع البلقان، في محاولة للحفاظ على حقوقهم من التمييز والجهل المجتمعي بوجودهم وتاريخهم.
العديد من بلدان البلقان رفضت الاعتراف بهويتهم، باستثناء كوسوفو وألبانيا وصربيا، اللواتي اعترفت بهم كأقلية دستورية، بالرغم من افتقار حكوماتها لخطط الإدماج على أرض الواقع
ويؤدي عدم الاعتراف بوجودهم في الدستور إلى تعرضهم للتمييز العرقي ويمنعهم من التمتع بحقوقهم المدنية وحقوق الأقليات التي تعيش في نفس البقعة، كما أن فرصهم في الحصول على عمل تكون أقل من غيرهم وبالتالي تنتشر بينهم حالات الفقر والجهل، كما يحدث في مقدونيا الآن.
ولكن بالرغم من تاريخهم الطويل والقديم وإصرارهم على استحواذ هذا الحق منذ السبعينيات، إلا أن العديد من بلدان البلقان رفضت الاعتراف بهويتهم، باستثناء كوسوفو وألبانيا وصربيا، اللواتي اعترفت بهم كأقلية دستورية، بالرغم من افتقار حكوماتها لخطط الإدماج على أرض الواقع إلا أنها بداية مشوار الألف ميل نحو العدالة. جدير بالذكر أن لديهم في صربيا مجلس وطني يمثل جزءًا منهم في الحكومة.
ومع ذلك لم تتوقف جهودهم، ففي تاريخ 24 يونيو/حزيران عام 1990 عقدوا أول اتحاد للمصريين، واعتبروا هذا اليوم يوم دولي لمصري البلقان. وتبع ذلك مجموعة تأسيس العديد من المنظمات والأحزاب السياسية، فلديهم الآن أكثر من 10 منظمات وحزبين.
مصر.. الوطن الأم والملجأ الأخير
في علم كوسوفو 6 نجمات، تمثل كل نجمة منها واحدة من الأقليات المعترف بها ومنها الأقلية المصرية المصنفة كجزء من الغجر، وهو ما سبب لهم أزمة إضافية لإنهم مختلفين تمامًا عنهم وعن عاداتهم، لكن مع وصول الغجر من الهند، بدأ الأوروبيون في دمج المصريين مع الغجر بسبب التشابهات السطحية مثل لون البشرة السمراء، ومنذ ذاك الوقت حاول المصريون التعبير عن هويتهم المنفصلة والمتميزة عن الجماعات العرقية الأخرى.
تبلغ نسبة البطالة في كوسوفو حوالي 40٪ بينما تصل إلى 90٪ في الأقلية المصرية
ومع ذلك تعد كوسوفو واحدة من أفضل المناطق نسبيًا المستضيفة لهؤلاء المصريين، فلديهم أحزاب سياسية تمثلهم في برلمان البلاد مثل الحزب الليبرالي المصري، يضاف إلى ذلك وجود جمعيات باسمهم تدافع وتطالب بحقوقهم.
أما فيما يتعلق بالحزب تحديدًا، فهو يهتم في تقديم الأولويات للمجتمع المصري في كوسوفو، مثل التعليم والتوظيف والإسكان والخدمات الصحية، إذ إن أكبر مشكلة تواجه المجتمع المصري في كوسوفو هي البطالة، وذلك بناءً على إحصائيات البنك الدولي، إذ تبلغ نسبة البطالة في كوسوفو 40٪ بينما تصل إلى 90٪ بين المصريين. لكن كحزب سياسي، فإن هدفه الأول والرئيسي هو العمل مع الحكومة المصرية على اعتبار أن وطنهم الأم هي مصر ولن يكون أحدًا أفضل منها لمساعدتهم في دحض خطاب الكراهية ومنحهم الحماية الدولية.
فلم يبقى لهم مكان يلجأون إليه، ولا سيما بعد 2015 حين كشفت تسريبات لمكالمات هاتفية عن الطريقة المهينة التي يتحدث فيها بعض رجال السياسة عن الأقلية المصرية، ما دفع المنظمات غير الحكومية المصرية المطالبة باعتذار من المسؤولين، لكنها لم تتلق أي رد، بل واجهت المزيد من المضايقات. وبالرغم من وعود الحكومة المصرية بالنظر إلى ملفهم إلا أنه لم يحدث أي تغيير في قضيتهم ولا يزال أبناء هذه الجالية يكافحون لنيل حقوقهم لعلها تسفر عن تحسين معيشتهم وتمنحهم حياة كريمة.