من المعروف عن الأتراك اهتمامهم بإقامة المراسم، أي الطقوس والبروتوكولات الرسمية، سواء الدينية أم الدنيوية، منذ أن كانوا في آسيا الوسطى قبل الإسلام، حيث كانوا يقيمون المراسم الخاصة بالأديان التي اعتنقوها في تلك المرحلة مثل الشامانية والمانوية والبوذية، واستمر هذا الاهتمام بعد اعتناقهم الإسلام وانتقالهم إلى الأناضول.
ولأن قبائل الأتراك عاشت خلال تاريخها في جغرافيا متنوعة، بحكم طبيعة حياتها القائمة على الترحال، فكانوا يعتمدون على الصيد لا الزراعة، ولذلك كانت رحلات الصيد لها مراسم مهمة لديهم وتعرف هذه المراسم باسم “صِيجِير”، وتُقام قبل الخروج إلى الصيد وبعد العودة منه، وفي هذه المراسم كانت تُقرأ الأشعار على عزف آلة “الكوبوز”، كما كانوا يقيمون مسرحًا لتمثيل عمليات الصيد وما يعيشونه خلال تلك الرحلة.
وبحسب المؤرخ والسياسي التركي المعروف محمد فؤاد كوبرولو، فإن الأتراك القدامى كانوا يقيمون مراسم خاصة للجنازة، تُعرف باسم “يوغ”، ويذكر كوبرولو أنه “إذا مات شخص ترقد جثته على الأرض داخل إحدى الخيام، ثم يشرع كل أقاربه بذبح الضأن والخيل والبقر قربانًا لروحه، ثم ينشرون هذه الأضاحي ويبسطونها على الأرض خارج الخيمة، ثم يطوفون جميعًا حول أطراف الخيمة سبع مرات، رافعين عقيرتهم بالصياح ممتطين صهوة خيولهم، فإذا ما أتوا إلى الباب شرعوا في تمزيق وجوههم بالسكين حين يختلط الدم بدمع أعينهم”.
اختلفت مراسم الأتراك مع دخول الإسلام، بطبيعة الحال، فأُلغيت المراسم المتعلقة بالأديان القديمة
ويضيف كوبرولو: “ومن عاداتهم اختيار وقت سعيد ميمون من أجل دفن جثث موتاهم، وإذا مات شخص في الربيع أو الصيف فإنه ينتظر حتى تسقط أوراق الشجر، أما إذا مات في الخريف أو الشتاء فينتظر حتى تنمو أوراق الشجر وتزدهر، ويُحرق حصان الميت ويُدفن رماده في معية الأشياء الأخرى التي تخص الميت، ثم تُذبح الأضاحي مرة أخرى في يوم الدفن الأصلي، ويلفون حول القبر بخيولهم ويغرسون تماثيل أو أحجار تعادل عدد الأعداء الذين قتلهم الميت إبان حياته، ويطلق على هذه الأحجار والتماثيل اسم “بَال بَال”، وتفيد عقائدهم آنذاك بأن الأشياء والخيول التي استعملها الميت ستكون مكلفة بخدمته في الدار الآخرة.
اختلفت مراسم الأتراك مع دخول الإسلام، بطبيعة الحال، فأُلغيت المراسم المتعلقة بالأديان القديمة، واستمرت فقط مراسم رحلات الصيد في الدولتين السلجوقية والعثمانية، ويُلاحظ أن الدولة العثمانية أكثر الدول التي اهتمت بشكل كبير بإقامة المراسم الدينية والدنيوية أيضًا لأسباب مختلفة.
ووفقًا للباحث التركي كامل كبيجي، فإن هذه المراسم كانت مفيدة بالنسبة لكبار التجار وأصحاب الدكاكين، حيث كانت السرايا تشتري لوازم مراسم الاحتفالات وغيرها من دكاكينهم، وكان لها دور أيضًا في استعراض قوة العثمانيين أمام الإمبراطوريات الأخرى، إلا أن هذه المراسم، من زاوية أخرى، كان يُنفق عليها أموال طائلة في بعض الأحيان مما يضر باقتصاد الدولة.
ذكر المؤرخ والسياسي أحمد جودت باشا، التفت بعض السلاطين إلى هذه الانتقادات، ومنذ السلطان عبد الحميد الأول حتى محمود الثاني، لم تشهد الأعراس هذه المبالغة في الإسراف
ويظهر ذلك من خلال بعض الوثائق التي كشفت أنه منذ القرن الـ16 بدأت الأعراس تكلف أموالاً طائلة، وقد ظهرت العديد من الانتقادات من الشعب للإسراف في هذه الاحتفالات، كما يذكر المؤرخ مصطفى نعيمة الذي سجل هذه الانتقادات في عهد السلطان إبراهيم.
وكما ذكر المؤرخ والسياسي أحمد جودت باشا، فقد التفت بعض السلاطين إلى هذه الانتقادات، ومنذ السلطان عبد الحميد الأول حتى محمود الثاني، لم تشهد الأعراس هذه المبالغة في الإسراف، حتى إنه عندما أنجب السلطان عبد الحميد الأول الأمير أحمد، أُقيمت مراسم محدودة للغاية لميلاده.
وطبقًا للباحث متين آند، فإن المرحلة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية، شهدت ازديادًا واضحًا في هذه المراسم، مثلاً، في عام 1854 أُنفق على مراسم زفاف ابنة السلطان عبد المجيد الأول 50 مليون فرنك، بحسب الوثائق.
شهد المجتمع العثماني أيضًا مراسم خاصة لم تكن موجودة في عهد الدولة السلجوقية أو ما قبلها، من أجل الترفيه ورفع معنويات الشعب، مثلما ذكر المؤرخ التركي المعروف خليل إنالجيك، ففي عام 1450 وبعد إخفاق جيش السلطان محمد الفاتح في حصار “أكتشا”، أقام السلطان مراسم احتفالية كبيرة من أجل كسب ثقة الشعب من جديد.
من بين أهم المراسم عند العثمانيين، بحسب المؤرخ أحمد لطفي أفندي، مراسم الاحتفال بـ”تقلُّد السيف” وجلوس السلطان على العرش
ووفقًا للمستشرق النمساوي جوزيف فون هامر، فإن الدولة العثمانية شهدت زلزالًا قويًّا في عهد السلطان إبراهيم، وبعد مرور فترة، أقام السلطان العديد من المراسم الاحتفالية التي شهدت توزيع الأموال والطعام على الفقراء لكي يعوضهم ما شهدوه من خسائر في الزلزال، واستمرت الاحتفالات ثلاثة أيام.
وبحسب المؤرخ أحمد لطفي أفندي، فإن هذه المراسم كانت لها أبعاد سياسية أيضًا، ففي حفل مولد ابنة السلطان عبد المجيد الأول الذي استمر أسبوعًا، أصدر السلطان قرارًا بالعفو عن كثير من المساجين.
ومن بين أهم المراسم عند العثمانيين، بحسب المؤرخ نفسه، مراسم الاحتفال بـ”تقلُّد السيف” وجلوس السلطان على العرش، حيث كان السلطان يذهب إلى قبر أبي أيوب الأنصاري، ويتقلد سيف فتح القسطنطينية من شيخ الإسلام ونقيب الأشراف وشيوخ المولوية، ثم يزور السلطان أضرحة أجداده وعلى رأسهم ضريح السلطان الفاتح، وتُقام هذه المراسم وسط أجواء احتفالية مهيبة.
وكانت مراسم جنازة السلاطين العثمانيين مقدسة أيضًا، ففي حال موت السلطان، كما يذكر الباحث كامل كبيجي، كان يُرسل جسده بعد الغسل إلى قسم “خرقة السعادة” في قصر طوب كابي الذي يحتوي على الأمانات المقدسة كسيف النبي محمد وعمامة النبي يوسف، ثم يقوم شيخ الإسلام بالصلاة عليه، ويُوضع على نعشه قطعة من كسوة الكعبة، وكان يشارك في الجنازة كل الجنود كالإنكشارية والفرق الموسيقية العسكرية وحملة الأعلام، بالإضافة إلى خيول السلطان وعليها أسلحته ويتقدم الصدر الأعظم كل هؤلاء.
كانت مراسم تبادل تهاني العيد تُقام في قصر طوب كابي حتى منتصف القرن الـ17 أصبحت تُقام في صالة المعايدات الكبيرة في قصر دولمه باهتشي
ويذكر المؤرخ أحمد أكجوندوز أن أكبر مراسم احتفالية إسلامية، كانت في عيد الفطر وعيد الأضحى، حيث كانت تُدق الطبول لإعلان قدوم العيد، وتُضرب المدافع من يوم الوقفة حتى آخر أيام العيد، وتُوزع الإكراميات على العساكر وموظفي الدولة، بالإضافة إلى توزيع الأضحيات على الفقراء، كما كان السلاطين يصدرون أحكامًا بالعفو عن المساجين أو تخفيف أحكامهم في العيد.
وكانت مراسم تبادل تهاني العيد تُقام في قصر طوب كابي حتى منتصف القرن الـ17 أصبحت تُقام في صالة المعايدات الكبيرة في قصر دولمه باهتشي، وكان أغلب السلاطين العثمانيين يحرصون على إقامة صلاة العيد، خصوصًا في جامعي السلطان أحمد وآيا صوفيا.
ومن المراسم الدينية المهمة خلال فترة الدولة العثمانية، حسب الباحث كمال تشي، ما يعرف بـ“الصرة”، حيث كان يُرسل إلى مكة والمدينة في يوم 12 من رجب من كل عام، بعض الهدايا والصدقات، وأول من أقام هذه العادة هو السلطان بيازيد الصاعقة، وأُرسلت وقتها من العاصمة إدرنة. ولم تكن حتى هذا الوقت قاعدة يجب أن يلتزم السلطان بها، حتى جعلها السلطان سليم الأول عادة يجب أن يلتزم بها السلاطين من بعده. وكان يتم تسجيل كل ما أُرسل ووقت إرساله، وتوجد هذه الوثائق اليوم في أرشيف رئاسة الوزراء.
تعد مراسم مولد النبي من المراسم الدينية العثمانية المهمة أيضًا، حيث يذكر المؤرخ منير أتالار أنها بدأت مع الغازي عثمان بك مؤسس الدولة، وكانت تتضمن مراسم الاحتفال قراءة القرآن وأشعار مديح الرسول، إلى جانب توزيع الصدقات، وكانت تُقام الاحتفالات في جميع أنحاء إسطنبول.
في سياق استعراض السلاطين العثمانيين لقوتهم، بحسب الموسوعة الإسلامية التركية، فإن تعيين السفراء كان يقام له مراسم ضخمة
كانت مراسم الاحتفال بختان الأمراء التي تعرف بـ”السُنَّة” لها أهمية خاصة عند سلاطين بني عثمان، كما يذكر المؤرخ إسماعيل حقي أوزون تشارشلي، ففي عام 1457 أقام السلطان الفاتح مراسم احتفال بطهارة ولديه، واستغرقت هذه الاحتفالات شهرًا كاملاً، وكان يُجرى ختان عدد كبير من الأطفال في يوم واحد، وتتكلف السراي بجميع الاحتفالات لهذا اليوم، وتُقام الولائم الكبيرة وتُضاء الشوارع بالقناديل وتُقام الألعاب البهلوانية للأطفال وتُوزع عليهم الحلوى.
وقد ظهر شكل أدبي خاص يسمى “سورنامة” كان يكتبه الشعراء عن مراسم ختان الأمراء وزواج الأميرات، وأول من كتب هذا الشكل هو الشاعر عالي مصطفى أفندي، عن مراسم ختان ابن السلطان مراد الثالث، واستمر هذا الشكل الأدبي الذي كان يتضمن أيضًا منمنمات لهذه المراسم، حتى منتصف القرن التاسع عشر، حيث كتب الشاعر نافي عن زواج ابنة السلطان عبد المجيد الأول.
وأخيرًا، وفي سياق استعراض السلاطين العثمانيين لقوتهم، بحسب الموسوعة الإسلامية التركية، فإن تعيين السفراء كان يقام له مراسم ضخمة، وكان ما ينفقه السفير منذ وصوله إلى الأراضي العثمانية يكون على نفقة السراي، وتبدأ مراسم الاحتفال بقدومه التي تتضمن عرضًا لقوة الإمبراطورية، وجدير بالذكر أن أول سفير يُعيّن في الدولة العثمانية كان في عهد الغازي أورهان، وهو سفير الإمبراطورية البيزنطية.