مؤخرًا صدر عن دار الكرمة للنشر، كتاب من أدب الرسائل، ذاك النوع من الأدب الذي أصبح نادرًا وقليل من اهتم به، الكتاب هو “رسائل إلى شاعر شاب” يتضمن 10 رسائل، أرسلها الشاعر الألماني رينيه ماريا ريلكه كردٍ إلى شاعرٍ شاب يطلب منه النصيحة في أشعاره، واستمرت هذه الرسائل لـ 8 سنوات.
بريد رسائل ريلكه
في الـ17 من فبراير 1903، بدأت مراسلات بين شاعر شاب يعرف باسم فرانتس زافر كابوس والشاعر الألماني رينيه ماريا ريلكه، كان زافر في ذلك الوقت قد تخرج لتوه من المدرسة العسكرية، حائرًا بين وظيفته الجديدة كضابط وحبه للشعر وكتابته، كان هذا السبب الأول في أن يراسل فرانتس ريلكه، خصوصًا بعد أن علم أن ريلكه كان سيؤول مصيره مثله تمامًا، لأنه دخل المدرسة العسكرية، لكنه فصل منها نهائيًا عام 1884، لعدم ملاءمته البدنية للحياة العسكرية، ومنها بدأ ريلكه في رحلة طويلة لدراسة الأدب والفن.
“عندما يتكلم شخص عظيم وفذٌّ، فعلى الصغار أن يصمتوا”.
هذه الرسائل العشرة المتبادلة بين ريلكه الشاعر الفذ والشاعر الشاب السيد كابوس، تعطينا نظرة على العالم الذي عاش فيه ريلكه وإبداعه عن قرب، درس مكتوب بعناية شديدة لكل هؤلاء الذين يودون طرق أبواب الكتابة والأدب والفن، وليس الشعر فقط.
ختم بريد باريس الأزرق
“ليست الأشياء كلها قابلة للفهم أو القول كما يحب الناس عادة أن يجعلونا نعتقد، فمعظم الأحداث لا يمكن التعبير عنها بالكلمات، وتحدث في مكان لم تطأه يومًا كلمةٌ”.
من أول رسالةٍ تصل لريلكه من فرانتس زافر كابوس، يعرض فيها على ريلكه شعره، ومشكلته في خوفه من ألا يستمر في كتابة الشعر، لأنه يخشى أن ما يكتبه سيئًا دون المستوى، وبين الحيرة في الاستمرار في وظيفته الجديدة كضابط وهو في سن العشرين أو أن يترك الوظيفة ويصبح شاعرًا.
فرانتس تعرف على ريلكه من خلال كتاب أشعار له، حين اقترب منه رجل يعرف باسم السيد “هوراتشك” قس مثقف وطيب، يعمل بالأكاديمية العسكرية التي يدرس بها فرانتس، اقترب منه القس متفحصًا ما يقرأه بعناية، ثم هز رأسه، وسأل متأملًا: أشعار لـ”راينر ماريا ريلكه”؟
وبدأ يقلب في أوراق الكتاب، ويقرأ منه أشعارًا مختلفة وبصورة عشوائية، حتى أومأ برأسه وقال: “هكذا أصبح الفتى رينيه ريلكه شاعرًا”، وبعدها راح يخبر القس فرانتس أكثر عن ريلكه، وأنه كان فتى هادئًا موهوبًا جادًا، يحب الانعزال ويتحمل ضغوط الحياة.
“إن أقلَّ ما يمكن للمرء أن يلامس به عملًا فنيًا هو الكلمات الناقدة: فالأمر يتعلق عندها، بحالات من سوء الفهم، التي يحالفنا فيها الحظ بدرجة أو بأخرى”.
لست شاعرًا بما يكفي
“أكثر الأشياء التي نعجز عن التعبير عنها هي الأعمال الفنية، فهي موجودات غامضة، وحياتها مقارنة بحياتنا الفانية أبقى”.
في أول رد لريلكه على أول رسالة تصله، أخبر الشاعر الشاب فرانتس زافر كابوس أنه لا يسعه أن يقيم جودة أشعاره، لأنه بمنأى عن أي نية نقدية، ولكن سوف يعمل على تقديم بعض النصح له، ربما يستفيد منه في شيء، وهو الخط الذي سوف يتبعه ريلكه طول الرسائل العشرة التي بدأت من باريس في الـ17 من فبراير عام 1903.
“ليس بوسع أحد أن ينصحك ويساعدك، لا أحد”.
أول نصيحة يقدمها ريلكه للشاعر الشاب الذي يراسله أن يتوقف تمامًا عن مقارنة قصائده بأي نتاج آخر، وأن يتوقف عن القلق من رفض أشعاره التي يقدمها للجرائد والمجلات، ويتخلى عن ذلك كله، وينظر داخله فقط لا خارجه.
– “إنك تنظر إلى خارجك، وهذا بالدرجة الأولى ما يجب عليك ألا تفعله”.
– “على السيد كابوس إذا أراد أن يصبح شاعرًا أن يسبر أغوار ذاته، ينظر داخله لا خارجه، وأن يبدأ في البحث سريعًا عن السبب الذي يدفعه للكتابة، ويرى إلى أي مدى جذور الكتابة ممتدة في قلبه، وإذا كانت الكتابة بالنسبة إليه دونها الموت”.
– “إذا لم توجد قواسم مشتركة بين الناس وبينك، فحاول أن تكون على مقربة من الأشياء التي لن تغادرها”.
لا تكتب قصائد الحب
إذا أردت أن تكون شاعرًا، توقف تمامًا عن كتابة قصائد الحب في البداية، واقترب من الطبيعة وكما الإنسان الأول عبر عما ترى وتعايش وتحب وتفقد. تجنب في البداية الكتابة عن تلك الأشكال المعهودة والمعتادة، فهي الأصعب. هذا ما ينصح به ريلكه “لأن المرء يحتاج إلى طاقة كبيرة وناضجة كي يكتب شيئًا خاصًا في مجال وصلتنا فيه كميات من الكتابات الجيدة والباهرة أحيانًا”.
ريلكه أصبح هنا معلمًا، يعطي نصائح عن الكتابة والحياة بشكل عام، يعطيها لنفسه قبل أن ينصح بها ذلك الشاب الذي يود أن يصبح شاعرًا، وبصدق شديد وحب يتحدث ريلكه ولا يمل ولا يبخل بأي كلمة من الممكن أن تفيد، وفي نفس الوقت يحذر أن يتخذها شيئًا مسلمًا به.
كل ما يوده ريلكه من السيد كابوس أن يفعله هو: “تعمق في ذاتك وابحث في أعماقها التي تنبع منها حياتك، ففي نبعها ستجد الإجابة عن السؤال ما إذا كان عليك أن تبدع”.
أدب الرسالة المهدور حقه
“لا أحب كتابة الرسالة وأنا أرتحل، لأني أحتاج لكتابة الرسائل أكثر من أدوات الكتابة الضرورية: أحتاج إلى الهدوء والوحدة وساعة لا يطغى عليَّ فيها الشعور بالغربة”.
نحن نتعرف أكثر على حيوات الكتّاب وطرق تفكيرهم، من خلال كتابة مذكراتهم والرسائل المتبادلة بينهم وبين أصدقائهم، أو الجمهور الذي راسلهم، وأدب الرسالة اليوم أدب مهدور حقه ومظلوم، أينعم أنه أصبح الآن نادرًا أن يستعمل الكتّاب الرسالة، نظرًا لتوحش التكنولوجيا، لكن قديمًا وحتى وقتٍ قريب، كان بريد الكتّاب من شعراء وروائيين نافذة نطلع منها على جانب لا يظهر كثيرًا لنا.
الكتاب الذي بين أيدينا قائم كله على الرسائل المتبادلة، ترجمته بديعة، ومتقنة، حافظت على تقديمه دون ناقصه، يستحث مترجم الكتاب الأستاذ صلاح هلال الشكر عليها، كذلك الدار التي اهتمت أن تخرج شيئًا من أعمال ريلكه باللغة العربية، وشيئًا لأدب الرسالة.
الغربة وكثير من الوحدة
“أعتقد أن كل أحزاننا هي لحظات توتر، ندركها على أنها جمود، لأننا لا نعود نسمع دبيب الحياة في مشاعرنا التي اعتراها التغريب”.
في كثير من الرسائل، يحاول ريلكه مواساة السيد كابوس الذي يعيش أغلب وقته في وحدة كبيرة، ووظيفة أرغم نفسه عليها، ويذكره ريلكه أنه ليس الوحيد الذي يعاني، ريلكه نفسه يعاني ويشعر بالوحدة، ويمر بأزماتٍ كثيرة منها أنه فقير جدًا ويشعر بالحزن، لذلك تمكن أن يجد الكلمات التي من خلالها يواسي السيد كابوس، لأنه يشعر به جيدًا، ويعلم ما يدور داخله.
“لأنه حتى من هم الأفضل يخطئون في اختيار الكلمات حين يريدون التعبير عن الأمور الكامنة، وعما يكاد لا يقال”.
إن أهم نصيحة قدمها ريلكه لكابوس حتى يتخطى كل هذا من معاناة وحيرة وغربة، هي: “ولعلي أرجوك بكل ما أستطيع، يا عزيزي، أن تتحلى بالصبر في مواجهة كل ما لم تجد له حلًا في قلبك وأن تحاول أن تحب حتى الأسئلة نفسها وكأنها أدراج مغلقة أو كتب مكتوبة بلغة شديدة الغرابة”.
ريلكه يرى أن الحل في أمرين اثنين هو أن تحب وأن تصبر، أن تحيا حياتك بكل ما فيها من صعوبة وتعقيد.
“عليك ألا تحتار وأنت في وحدتك عندما تشعر أن شيئًا بداخلك يرغب في الخروج منها.”
نحن أمام كتاب يقرأ أكثر من مرَّة، ويحتفظ به المرء في قلبه قبل المكتبة، ويعمل بما فيه من نصح.
“ومع ذلك هؤلاء الذين مضوا من زمن بعيد ما زالوا موجودين بداخلنا كفطرة، كعبء على أقدارنا، كدم يجري في عروقنا، وكإيماءة تخرج من أعماق زمن مضى”.