في تصريح مفعم بالأمل، أعلن أسعد حسن الشيباني، وزير الخارجية المؤقت لسوريا، خلال حديثه في المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس أن سوريا تطمح لأن تصبح شبيهة بسنغافورة وتسعى لاتباع نهج تنموي يماثل ما تطرحه “رؤية 2030” في المملكة العربية السعودية.
أثار هذا التصريح لديّ مزيجًا من التفاؤل المشوب بالحذر والشكوك العميقة. فمن جهة، من المشجّع رؤية أي مسؤول سوري يعرض رؤيةً مستقبلية تتضمن النهوض الاقتصادي والانفتاح العالمي. ومن جهة أخرى، لا يمكن تجاهل الحقائق الصارخة التي تفصل سوريا عن سنغافورة، ولا إغفال العقبات الهائلة التي يتعيّن علينا تخطيها لتحويل مثل هذه التطلعات إلى أكثر من مجرد خطاب حسن النية.
تسلط هذه المقالة الضوء على مدى واقعية تصريح الشيباني من الناحية العملية، كما تقيّم التحديات والفرص القائمة، وتطرح بعض الخطوات العملية المقترحة لمن يبحثون عن مستقبلٍ أفضل. آملاً أن نتجاوز الشعارات والوعود، وأن نبدأ جدّيًا في تخيّل سوريا تتصالح مع ماضيها وتضع الأسس لمستقبلٍ أكثر شمولًا وحيوية.
طرفا المقارنة – سنغافورة والمملكة العربية السعودية
التحول اللافت لسنغافورة
تُعد رحلة سنغافورة من دولةٍ محدودة الموارد إلى مركزٍ مالي وتجاري عالمي واحدةً من أبرز قصص النجاح في النصف الثاني من القرن العشرين. فبقيادة رئيس وزرائها الأول، لي كوان يو، ركّزت سنغافورة على سيادة القانون، وعدم التسامح مع الفساد، والاستثمار المكثّف في التعليم، واستغلال موقعها الاستراتيجي كمركز للتجارة البحرية، وكانت النتيجة تصنيفات اقتصادية عالمية وتفوّق في معدلات الدخل الفردي، متجاوزةً العديد من الدول الغربية.
ومع ذلك، كثيرًا ما يتم تجاهل “العقد الاجتماعي” الذي ينهض عليه هذا النجاح المدوّي: إذ يتنازل المواطنون عن جزءٍ من الحريات مقابل رخاء اقتصادي واستقرار سياسي وحوكمة فعّالة. ومع أنّ نموذج سنغافورة أثبت نجاعته على مدار عقود، فقد وُلد في بيئةٍ اتسمت بالاستقرار الجغرافي، والمؤسسية القوية، وغياب الصراعات الداخلية. وحتى مع القيود على التعبير السياسي، فقد أتاحت الثقة في مؤسسات الدولة بيئةً جاذبة للاستثمار الأجنبي ورسم السياسات على أسسٍ واضحة وشفافة.
رؤية المملكة العربية السعودية 2030
أما “رؤية السعودية 2030″، التي أُطلقت عام 2016، فتهدف إلى تنويع اقتصاد المملكة بعيدًا عن النفط، وتوسيع نطاق الخدمات العامة، ودفع إصلاحات اجتماعية واسعة. وبفضل عائدات النفط الضخمة، شرع ولي العهد محمد بن سلمان في تغييرات جريئة شملت الانفتاح على السياحة، وتطوير قطاع الترفيه، ودعم مشاركة المرأة في سوق العمل، والسعي لجذب استثمارات هائلة في مشروعاتٍ ضخمة مثل مشروع “نيوم”.
وفي المقابل، فإنّ النموذج السعودي مرتكزٌ هو الآخر على ظروفٍ وطنية خاصّة: وفرة الموارد الطبيعية، وهيكل حكم مركزي قادر على تنفيذ السياسات الكبرى بسرعة، بالإضافة إلى الاحتياطيات المالية الكبيرة لتمويل مشاريع البنية التحتية والمبادرات الثقافية. ورغم الانتقادات الدولية في مجال حقوق الإنسان، فإن القوة الاقتصادية الهائلة وراء رؤية 2030 منحت المملكة اهتمامًا وشراكات عالمية واسعة.
واقع سوريا الراهن
دمارٌ ما بعد الصراع
لا يمكن لسوريا أن تكون في وضعٍ أبعد عن هذه النماذج. فبعد عقدٍ من النزاع المسلح، تواجه البلاد دمارًا هائلًا في البنية التحتية، واقتصادًا منهارًا، ونزوحًا سكانيًا غير مسبوق داخليًا وخارجيًا. وتتسم الأوضاع الميدانية بمدنٍ منكوبة، وحكومةٍ مجزّأة السلطات، بالإضافة إلى تشابك قوى إقليمية ودولية. وتعاني مناطق كثيرة من ندرة الكهرباء والماء، بل وحتى خدمات الصحة والتعليم الأساسية.
لهذا، فإن مجرد التفكير في تحويل سوريا إلى مركز مالي عالمي على غرار سنغافورة أو إقامة مشاريع ضخمة شبيهة بما يجري في السعودية يبدو ضربًا من الأحلام بعيدة المنال. لكن مع ذلك، فإن رفض هذه الأحلام بشكل قاطع قد يقوّض قيمة الرمزية التي تمثلها هذه الرؤى. إذ يحتاج الشعب السوري إلى الأمل، خاصةً بعد سنوات طويلة من الحرب والأزمات الإنسانية. وقد تُشكّل التصريحات من قبيل ما جاء على لسان الشيباني نوعًا من النداء لاستنهاض الهمم، وإثبات رغبة الحكومة في الانتقال من دائرة الصراع المستمر نحو إعادة الإعمار.
الحكم والشرعية
غير أنّ الأمل لوحده لا يكفي. فالعناصر التي أفضت إلى نجاح سنغافورة – مثل سيادة القانون والحوكمة الرشيدة والمؤسسات الكفؤة – تغيب حاليًا في سوريا. ويُعد الفساد والمحسوبية، وغياب عملية سياسية شاملة، من أبرز المعوقات أمام أي محاولة جادة للإصلاح الجذري. وفي المقابل، فإن ما يجعل “رؤية 2030” السعودية ممكنة هو التمركز القوي للسلطة والموارد المالية الهائلة، في حين تواجه سوريا نقصًا في كلا العنصرين، فضلًا عن العقوبات الدولية الشديدة وشُح رؤوس الأموال.
من جهة أخرى، الشرعية والثقة في السلطة أمران حاسمان لجذب المستثمرين الأجانب وتشجيع السوريين المغتربين على العودة والاستثمار في وطنهم. لكن العقد الاجتماعي في سوريا تعرض لهزةٍ عنيفة. وإعادة بناء الثقة يتطلّب خطواتٍ ملموسة نحو مصالحةٍ وطنية حقيقية، ومحاسبة، وتوسيع المشاركة السياسية – وهي أمورٌ يصعب تنفيذها لكنها لا غنى عنها. ودون تحقيق تقدم واضح في هذه الملفات، ستبقى التصريحات الطموحة في المحافل الدولية أشبه بوعودٍ للاستهلاك الإعلامي أكثر منها خارطة طريق واقعية.
لماذا تبقى الطموحات مهمّة؟
الرؤية كقوة توحيدية
هناك حاجةٌ ماسة في بلدٍ عانى من هذا الحجم من المآسي إلى سرديةٍ جامعة – رؤية مشتركة لما يمكن أن تكون عليه سوريا ما بعد الصراع. سواء سمّيناها “سوريا 2030” أو “سوريا 2050”، ينبغي أن تكون طموحًا موحِّدًا يتجاوز الانقسامات الطائفية والمشاحنات الأيديولوجية وآثار الحرب.
وعلى الرغم من أن مقارنات مثل سنغافورة أو السعودية قد لا تكون واقعية على الفور، فإنها ربما تخدم بوصفها أمثلةً ملهمة. وقد يدفعنا الحديث عنها إلى مناقشات جدية تتعلق بإعادة بناء الاقتصاد، وسيادة القانون، ومستقبل المجتمع المدني في سوريا.
الإشارة الدبلوماسية والاقتصادية
دوليًا، تحمل التصريحات المستشهدة بقصص النجاح – كسنغافورة – أو برؤى التطوير الكبرى – كرؤية السعودية – دلالاتٍ على أن سوريا تسعى للانخراط من جديد في المنظومة الاقتصادية والدبلوماسية العالمية. وبالنسبة للمستثمرين، قد تُحفِّز بوادر الاستقرار، ولو كانت خجولة، اهتمامًا أوليًّا. أمّا بالنسبة للدول المجاورة، فقد تُعبِّر هذه الإشارات عن رغبة سوريا في انتهاج سياساتٍ أكثر هدوءًا في المنطقة، وربما أكثر جذبًا للاستثمار. وعلى المدى الطويل، إن قُرنت هذه النوايا بإصلاحاتٍ حقيقية، فربما تساهم في دفع بعض القوى الدولية لإعادة النظر في العقوبات أو تسهيل دعم مشاريع إعادة الإعمار.
العقبات التي يجب تجاوزها
1. سيادة القانون وبناء المؤسسات
تُعَدّ البيروقراطية النزيهة والفعّالة، وتطبيق القوانين دون محاباة، من أعمدة نجاح سنغافورة. وبالنسبة لسوريا، فإن مكافحة الفساد وترسيخ الثقة في القضاء مسألةٌ جوهرية لأي خطة تحديث شاملة. فإذا شعر رواد الأعمال والمستثمرون بالخوف من الفساد أو عدم وجود ضمانات قانونية، فلن يُقبِلوا على أي مشروع. وكذلك لن يضع المواطنون ثقتهم في أي حكومة لا تؤمن لهم حقوقهم أو لا توفر لهم سبلًا عادلة للتقاضي.
خطوات مقترحة:
- صياغة تشريعاتٍ جديدة لمكافحة الفساد، مع إشرافٍ دولي أو دعم خبراء محايدين.
- تمكين هيئاتٍ مستقلة (مثل هيئة أمين المظالم أو لجان الرقابة) من التحقيق في الفساد على جميع المستويات.
- توفير الحماية القانونية للمبلّغين عن الفساد ومنح منظمات المجتمع المدني مساحةً أكبر لرصد الممارسات الحكومية ومساءلتها.
2. العدالة الانتقالية والمصالحة
مهما كانت الخطط الاقتصادية واعدة، فإنها ستنهار إذا استمرت الجروح الاجتماعية الغائرة دون معالجة. إذ لا يزال الآلاف من السوريين يعانون الصدمات الناجمة عن الاعتقال والنزوح وفقدان الأقرباء. وأي نقاشٍ حول رؤيةٍ وطنية للمستقبل يجب أن يتضمن آلياتٍ للعدالة الانتقالية تمنح الضحايا فرصة التعبير وتعاقب مرتكبي الانتهاكات – وذلك عبر محاكماتٍ أو لجان حقيقة أو برامج جبر الضرر.
خطوات مقترحة:
- تأسيس مسار سوري بإشراف دولي لدعم آليات الحقيقة والمصالحة.
- إدماج المقاتلين السابقين في المجتمع، وفقًا لضوابط صارمة تضمن المحاسبة عن الجرائم الخطيرة.
- تشجيع الحوار المجتمعي عبر لقاءات محلية وبرامج توعوية يشارك فيها قيادات دينية واجتماعية لتخفيف حدة الاحتقان بين المكونات المختلفة.
3. إعادة تأهيل البنية التحتية
استفادت السعودية ومالت سنغافورة بشكل كبير إلى الاستثمار في البنية التحتية – سواءٌ في الموانئ أو الطرق أو المناطق الصناعية. أما سوريا، فحاجتها الأشدّ تكمن في إعادة الإعمار الأساسي – من شبكات الكهرباء والمياه إلى المستشفيات والمدارس – قبل الحديث عن مناطق اقتصادية متقدمة أو مراكز مالية.
خطوات مقترحة:
- التعاون مع منظماتٍ دولية ووكالاتٍ أممية لتوجيه المساعدات نحو بناء منشآتٍ حيوية مستدامة.
- إعطاء الأولوية لربط المدن الكبرى (دمشق – حلب، حمص – اللاذقية) لإحياء الحركة التجارية.
- تسهيل استثمارات المغتربين السوريين في مشروعاتٍ تنموية محددة، وتوفير ضماناتٍ حقيقية لاستخدام أموالهم بشكلٍ شفاف وفعّال.
4. تنويع الاقتصاد ورفع العقوبات
تعتمد “رؤية 2030” في السعودية على الإنفاق الحكومي الهائل لجذب الاستثمارات في قطاعاتٍ جديدة. في حين نجحت سنغافورة في استقطاب رؤوس أموال أجنبية عبر سمعتها الاستقرار والمؤسسات القوية. أما سوريا، فتعاني نقصًا حادًا في التمويل إلى جانب العقوبات الدولية التي تشلُّ تطورها.
ولتنفيذ أيٍّ من مقومات التجربتين السعودية أو السنغافورية، يتعيّن على سوريا إما التفاوض على تخفيف العقوبات عبر تنازلاتٍ سياسية حقيقية، أو البحث عن قنواتٍ تمويلية بديلة قد تُعمّق عزلتها الدولية.
خطوات مقترحة:
- الشروع في مفاوضاتٍ جادة مع القوى الدولية الرئيسية، وتقديم التزاماتٍ واضحة وقابلة للتحقق بشأن الإصلاح السياسي، ووصول المساعدات الإنسانية، واحترام حقوق الإنسان، مقابل رفعٍ تدريجي للعقوبات.
- تعزيز دور المشروعات الصغيرة والمتوسطة (SMEs) من خلال برامج التمويل الصغير، بما ينشّط الاقتصاد المحلي حتى قبل رفع العقوبات بالكامل.
- إنشاء مناطق اقتصادية خاصة بحوكمةٍ شفافة – إذا أمكن الحصول على إعفاءاتٍ جزئية أو دعمٍ دولي – لتشجيع قيام صناعاتٍ محلية مستقلة.
ما الذي يمكن للسوري أن يساهم به؟
أ. السوريون داخل البلاد
- مشاريع مجتمعية محلية: حيثما أمكن، يجب على السوريين الانخراط في لجان إعادة الإعمار على مستوى المدن والأحياء. ففي العديد من البلدات، يمكن اتخاذ قرارات جماعية حول إعادة بناء المدارس والعيادات وشبكات المياه بما يحقق نتائج ملموسة.
- محاسبة المسؤولين: حتى لو كانت الهياكل الرسمية ضعيفة، يظل الضغط الشعبي عبر المجالس المحلية ووجهاء العشائر والقادة الدينيين ممكنًا، للمطالبة بشفافيةٍ أكبر في إنفاق المساعدات والميزانيات.
ب. السوريون المغتربون
- توظيف الخبرات: إن المهارات التي يمتلكها السوريون في الخارج – أطباء، مهندسون، تربويون، رواد أعمال – تشكّل رصيدًا هائلًا. يمكن للتعاون بين الكفاءات المغتربة والشبكات المحلية أن يؤسّس لمشاريع صغيرة وبداياتٍ واعدة.
- التأثير الدولي: يستطيع المغتربون استثمار مواقعهم في الضغط من أجل تخفيف العقوبات بطريقةٍ ذكية، تمسّ الشخصيات المتورطة في الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان دون أن تزيد معاناة الناس. وفي الوقت ذاته، يمكنهم حشد الدعم الإنساني والإغاثي.
- المشاريع الاجتماعية: يمكن توجيه بعض الاستثمارات الخيرية أو “ريادة الأعمال الاجتماعية” لخلق فرص عمل داخل المجتمعات المحلية، خصوصًا في مجالات الزراعة أو الطاقة المتجددة، شريطة أن تكون تلك الاستثمارات محسوبة المخاطر ومستدامة.
ج. الفاعلون السياسيون ومنظمات المجتمع المدني
- صياغة رؤية واقعية: سواء سميناها “سوريا 2030” أو غير ذلك، ينبغي أن تكون رؤية وطنية مشتركة – يشارك فيها أيضًا ممثلون من المعارضة، والفعاليات المحلية، والجهات الدولية المهتمة.
- إرساء ثقافة الحوار: فالثورة عمّقت الشرخ بين مختلف الشرائح الاجتماعية والسياسية؛ سدّ تلك الهوة يحتاج إلى جهدٍ متواصل لنشر ثقافة الحوار الحر، وإنشاء مساحاتٍ آمنة يلتقي فيها المحافظون والليبراليون، المتدينون والعلمانيون، للاتفاق على الأهداف الوطنية الكبرى.
- التمسك بالقيم الإنسانية: مهما كانت الخطط التنموية طموحة، يجب ألا تطغى على الاحتياجات الإنسانية الملحّة لملايين السوريين. إذ من دون معالجة الأزمات المعيشية – من نقص الغذاء والدواء إلى تدني مستوى التعليم – سنخاطر بمفاقمة الفجوات المجتمعية وتعميق الإحباط.
الطريق إلى الأمام – موازنة الطموحات مع الواقع
يمكن أن ننظر إلى تصريحات الشيباني في دافوس بوصفها كلامًا إنشائيًا أو محاولة صادقة لتغيير نظرة العالم لسوريا. وفي كلتا الحالتين، فإنّ هذه التصريحات تسلط الضوء على سؤال محوري: هل يمكن لسوريا أن تتحول فعلًا إلى دولةٍ مستقرّة ومزدهرة على غرار سنغافورة، أو أن تخوض تجربة تنموية واسعة النطاق شبيهةً بما تطرحه السعودية؟ والإجابة الواقعية، إن كنا صرحاء مع أنفسنا، تتأرجح ما بين احتمالٍ بعيد المدى وضرورةٍ ملحّة.
- احتمالٌ بعيد: لأن التحولات البنيوية والاجتماعية والاقتصادية اللازمة لمضاهاة حوكمة سنغافورة أو مشروعات السعودية تتطلب جهودًا جبارة وتغييراتٍ كبيرة على مدى طويل، قد يستغرق عقودًا.
- ضرورةٌ ملحّة: لأن حجم الكارثة السورية يتطلب “قفزةً نوعية” في التفكير والممارسة. إن السوريين في أمس الحاجة إلى رؤيةٍ شاملة توحدهم وتخرجهم من دوّامة الحرب والمعاناة. لكن الطموح، وإن كان مرتفعًا، ينبغي أن يترافق مع خطواتٍ عملية وملموسة.
النقطة الأهمّ أنّ الطموحات لا ينبغي أن تكون ذريعةً للتنصّل من المتطلبات الأساسية. فلا بد من وضع أسسٍ متينة: حوكمة شفافة، محاسبة عادلة، هيئات مستقلة قادرة على إصلاح ما أتلفه الفساد والحرب، ومشروع وطني للمصالحة. فبدون هذه الأركان، ستظل أي خطة تنموية مجرد حبر على ورق، ولن تتمكن من تغيير جذري في حياة المواطنين.
خاتمة
إن التصريحات التي تُشيد بنموذج سنغافورة أو “رؤية 2030” السعودية تلمس قلوب السوريين المتعطشين للأمان والازدهار. لكنها قد تختزل واقعًا معقدًا أكثر مما ينبغي. فاستنساخ التجارب الخارجية ليس ضمانةً للنجاح، إن لم يأتِ في سياقٍ يراعي تاريخ سوريا وتركيبتها الاجتماعية وأولوياتها التنموية الفعلية.
ولعلّ الاستفادة الأهم تتمثّل في المبادئ التي يمكن اقتباسها: سيادة القانون، مكافحة الفساد، الاستثمار في الإنسان، تطوير البنية التحتية، واعتماد المرونة السياسية والانفتاح. أما التطبيق فيجب أن يُصاغ ضمن رؤية سورية خاصة، تُبنى بالتوافق المجتمعي، وتُحرّر الإمكانيات المحلية من قيود النزاع والانقسام.
إننا في أمس الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد ينطلق من جبر الضرر ومصارحةٍ جدّية بالجرائم والانتهاكات، ويُعزز سلطة المؤسسات الرقابية، ويمنح الأجيال الشابة أفقًا للمشاركة الفاعلة. حينها فقط يمكننا تهيئة بيئةٍ مواتية للإصلاح الاقتصادي والبناء المؤسسي. فالمعادلة بسيطة: لا تنمية بلا مصالحةٍ وطنية حقيقية، ولا مصالحة بلا شفافية وعدالة. بهذه القيم يتعاضد السوريون، ويتوجّهون صوب مرحلةٍ جديدة تحقق منجزًا أكثر ثباتًا من مجرّد خطابٍ سياسي أو شعارٍ تنموي عابر.