على مفترق طرق مصيري تقف سوريا في مشروع وضعِ أسس الدولة الجديدة وإعادة هيكلتها، عبر الإدارة الجديدة التي دخلت دمشق من أوسع أبوابها بقيادة أحمد الشرع، محاولةً خلق نموذج سياسي متقدم وتقديم جملة من الإصلاحات وتبني رؤية معتدلة تهتم بالحوكمة.
ومع ذلك فالملاحظ عدم وجود ملامح واضحة المعالم تشير إلى الرؤية والتوجه والبرامج لدى السلطة الجديدة، إضافة إلى غياب خارطة طريق تحدّد المسؤوليات والتعامل مع الملفات الحساسة وخاصة تلك المجتمعية التي تمسّ المواطن السوري في جغرافية تضم الكثير من الطوائف والعرقيات، ومسألة إشراكه ولا سيما النخب في رؤية الحكم الجديد.
فمن التخبط -أحيانًا- في الجانب الأمني وملف المفقودين والمعتقلين والسجون إلى الغموض في فحوى وماهية “الحوار الوطني” الذي تحدثت عنه دمشق، وصولاً إلى غياب الإعلام الرسمي جملة وتفصيلًا وترك زمام القيادة وإدارة الرأي العام إلى محتويات مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي التي تجاوزت مسألة التأثير والتوجيه إلى إغضاب الشارع المدني وخاصة ذوي المفقودين والمختفين قسريًا بعد عبثهم بمسارح الجرائم ومحتوياتها الورقية والجدارية كالسجون والمعتقلات، فضلًا عن غياب آلية واضحة لعمل القضاء في ملاحقة شخصيات أوغلت بالدم السوري وتركه أخرى.
لماذا تغيب الخارطة الداخلية؟
منذ تسلّم الإدارة الجديدة في سوريا كان تركيزها منصبًا بشكل كبير إلى أولوية ضبط الأمن والاستقرار عبر الاعتماد على الجهاز الأمني في حكومة الإنقاذ، وبالتالي ضبط المشهد الأمني الذي يعد اللبنة الأولى في بناء وتصدير نموذج حكم سياسي مناسب إلى الأطراف الدولية.
إلا أن المبالغة في البحث عن الاستقرار الأمني على حساب ملفات أخرى لا تقل أهمية عنه، وعدم المضي فيها والبدء بمعالجتها بشكل متوازٍ، والاقتصار فقط على رسم خارطة الانفتاح الإقليمي والدولي، باتت عاملًا مثيرًا للقلق والإزعاج لدى كثير من السوريين.
هذا إلى جانب غياب ترتيب الأولويات التي تصبّ في خدمة المواطن السوري مباشرة، مثل تحسين الخدمات الأساسية، ومعالجة ملفات المفقودين والمعتقلين، وحل القضايا الأمنية الملحة، ووضع آليات واضحة لمحاسبة جميع الأطراف المتورطة في الانتهاكات، بما يعزز الثقة في القضاء الذي دارت حوله علامات استفهام مرتبطة بشخص وزيره الذي عينته الإدارة الجديدة، إضافة إلى الاستياء من الترقيات العسكرية غير المفهومة.
في حديثه لـ”نون بوست”، يعلّل طلال مصطفى الباحث في مركز حرمون للدراسات الإستراتيجية غياب طريق حكم واضحة أو أولية في الحكم الجديد في سوريا إلى عدة أسباب، أولها وجود عدد كبير من الفصائل المسلحة المعارضة، كل منها يحمل رؤية خاصة لإدارة الدولة أو المنطقة التي يسيطر عليها، دون وجود مظلة جامعة توحد الأهداف أو تحدد مسارًا مشتركًا للحكم. والتنافس بين هذه الكيانات أدى إلى تشتيت الجهود وعدم القدرة على صياغة رؤية وطنية شاملة.
وثانيها التدخلات الخارجية من قبل بعض الدول الإقليمية والدولية والتي أسهمت في تشكيل أجندات متضاربة تتعارض مع وضع خطة سورية مستقلة للحكم، إضافة إلى غياب الاستقرار الأمني الذي يحول دون قيام حوار حقيقي حول مستقبل الحكم، وضعف المؤسسات والهياكل الإدارية، مما يصعّب بناء رؤية موحدة للحكم.
أما ثالثها -حسب الباحث مصطفى- فهي تعدد المكونات الاجتماعية والطائفية في سوريا التي تجعل الاتفاق على نظام حكم موحد تحديًا كبيرًا، خصوصًا مع تراكم الخلافات التاريخية وتباين الأولويات بين هذه المجموعات ومخاوف الإقصاء أو التهميش من قبل بعض المكونات التي تعيق الاتفاق على صيغة حكم شاملة.
غموض هدّام.. ولكن
ما يزال حديث الإدارة الجديدة عن أهم الملفات المتمثلة بالمرحلة الانتقالية وإقرار الدستور الدائم والانتخابات ومؤتمر الحوار الوطني يعتريه شيء من الغموض والضبابية ولا سيما في ظل غياب معالجة تفصيلية وآليات واضحة تفند الصيغة الواضحة لتلك الملفات.
عدا عن ملاحظة حالة تسرع وارتجال في سنّ قرارات اقتصادية كبرى وصفت بـ”غير المدروسة”، كإصدار التعريفة الجمركية الجديدة والإعلان عن بيع جميع شركات القطاع الاقتصادي الحكومي، ومن ضمنها توليد الكهرباء وتوزيعها، وبيع معامل الإسمنت والبنوك وغيرها.
حسب الكاتب السياسي والحقوقي نادر جبلي لـ”نون بوست”، فإن عدم قدرة أصحاب السلطة على التصدي للمهام الاحترافية المعقدة، والتي تحتاج إلى كوادر خبيرة ومختصة تفتقد لها والإصرار على الاستئثار، وعدم إدخال أي كوادر من خارج الهيئة، هو سبب وجيه لطرح رؤى غريبة ضبابية تفتقر إلى الدقة في هذه الفترة الحساسة.
إضافة إلى ذلك فهناك -حسب تعبير جبلي- حالة صراع داخلي خفي تعيشه الهيئة، بين تياراتها وأجنحتها المختلفة والمتباينة في الرؤية للحكم، وفي درجة التشدد الديني، وهو صراع مرشح للانفجار في أي لحظة، ما قد يؤدي إلى انفراط عقد الهيئة ودخولها في صراع داخلي دموي وذهاب البلاد بالكامل إلى الفوضى والحرب الأهلية والتفكك.
مما لا ريب فيه حجم الضغوطات الكبيرة والكثيرة التي تتعرض لها إدارة دمشق الجديدة، أمام الدمار المجتمعي والمؤسساتي الذي يحيط بالبلاد، وعدم حسم ملفات كبيرة كملف قسد وضبط الاستقرار والسلاح وبناء الجيش وفك العزلة الدولية.
يشير الباحث جبلي إلى أن إدارة دمشق لا تستطيع المواءمة بين الضغوطات المتنوعة الهائلة التي تتعرض لها، كالضغوطات الخارجية التركية والخليجية والأميركية والأوروبية، عدا عن ضغوط الداخل السوري الذي يعاني من نقص شديد في الأمن ومستوى المعيشة والخدمات، وضغوط الفصائل المختلفة داخل جسم الهيئة ذاتها، والساعية للحفاظ على تماسك بنية الإدارة الجديدة.
لكن رغم تلك الضغوط واللعب على أكثر من جبهة لم يمنع ذلك الإدارة الجديدة من الاستمرار في وضع أسس دولة عميقة جديدة في سوريا والاعتماد على أجنحة قوية ودوائر ثقة صغيرة تعود إلى المركزية المطلقة المتمثلة في شخصية الشرع، فحسب تقرير نشره موقع Syria in Transition، أن الشرع يطمح إلى إفشال أي ثورة مضادة عبر تركيزه على ركائز أربعة هي: السيطرة على الجيش، وقوات الأمن، والاقتصاد، والعلاقات الدولية.
ماذا يريد السوريون؟
يعيب كثير على “الشرع” تأخر توجهه المباشر إلى السوريين مستمعًا لمطالبها ومتفاعلًا معها كما كان يفعل في إدلب عندما كان يخرج في لقاءات مرئية أو يكون على تماس مباشر مع المدنيين.
من جهة أخرى، فقد بات شرخ شكوك الداخل يزداد أكثر فأكثر مع غياب الإعلام الوطني الذي يعكس تطلعات السوريين ويواجه تحديات الإعلام المؤدلج وترك الحبل على غاربه أمام مشاهير التواصل الاجتماعي للنطق باسم الإدارة الجديدة والتركيز على قضايا هامشية بعيدة عن جوهر وتفاصيل حياة السوريين.
في حديثه لـ”نون بوست”، يشير الصحفي المقيم بدمشق يعرب العيسى، إلى أن الظروف المحيطة بالإدارة الجديدة خلقت تحديات كبيرة جدًا بالنسبة إليها وأكثر آنية كضبط الأمن وموضوع الحصول على الاعتراف الدولي وهو ما حول منهجيتهم بالنسبة للداخل إلى منهجية “إطفاء الحرائق” التي تظهر هنا أو هناك وتشغل القريب والبعيد بإطفائها، مع ما تعانيه الدولة ومؤسساتها أصلاً من معوقات جسيمة.
ومن المعلوم أن النظام البائد أفرغ ما تبقى من مؤسسات الدولة رغم أن آباء الاستقلال المؤسسين بنوا دولة مؤسسات وقوانين تصلح للاستخدام قرن أو قرنين قبل أن تأتي حقبة الظلام والديكتاتورية من عبد الناصر وصولاً للأسد الابن، إذ تم إفساد بنى الدولة وتحويلها إلى أداة طيعة بيد السلطة ولخدمتها.
وبالتالي، حسب الصحفي العيسى، فإن أمام تلك الكارثة المتمثلة في إفراغ بنية المؤسسات، لا يمكن لفريق الإدارة الجديدة، الذي يفتقر إلى الإمكانيات الكافية ودون إشراك الجميع، أن يملأ الفراغ الكبير الناتج عن انهيار تلك المؤسسات، لأن النظام ربط مؤسسات الدولة به، فصار هو الدولة، وعندما سقط، سقطت معه مؤسسات الدولة.
يختم العيسى حديثه، بالقول: معظم السوريين يريدون تحقيق نقلة من الحكم الديكتاتوري إلى بلد المؤسسات والقانون والاحتكام لصندوق الانتخابات والبدء بمشاريع تنموية وإعادة هياكل التعليم والصحة والقضاء وغير ذلك، أما الأكثر إلحاحاً هو تحقيق العدالة الانتقالية.. باختصار “السوريون يريدون بلداً”.
منطق الجماعة والدولة
يدرك “أحمد الشرع” قائد الإدارة الجديدة أن إرثه الجهادي يشكل عبئًا سياسيًا واجتماعيًا، لكنه إرث يحاول التخلص منه عبر تقديم صورة تركّز على الحكم والدبلوماسية وقيادة المجتمع، إلا أن ذلك التركيز يحتاج إلى إرادة قوية، تستطيع التحول من عقلية الجماعة إلى عقلية الدولة.
لأن التحول بكل الفصيل يحتاج لجهد ووقت كبيرين، فهناك شخصيات موجودة في مواقع قيادية داخل الإدارة الجديدة تعارض الانتقال لعقلية الدولة الجامعة، وبالتالي فإن نقل مراكز الثقل من هذه الشخصيات القيادية إلى مؤسسات الدولة يشكّل تحديات كبيرة.
حسب تقرير أصدره مركز جسور للدراسات، فإن الانتقال من الفصائلية إلى التنظيم المؤسساتي لجيش الدولة يحتاج إلى توفّر الموارد المستقرّة بِيدِ الدولة، وإلى التخطيط الصحيح لتنفيذ عملية التنظيم والإدارة الجديدة، وقبل ذلك كله إلى الاستقرار الأمني والسياسي بين الفُرَقاء على مشروع واحد يعمل عليه الجميع.
يشير الباحث جبلي إلى أن قدرة الشرع على التخلص من منطق الجماعة وتبني منطق الدولة، ظاهرة في خطاباته وهو راغب بذلك، لأنه رجل براغماتي متفهم لشروط اللعبة، وعينه على السلطة والحكم، وليس مهتمًا بالدين والإيديولوجيا، فقد قدم مؤشرات كثيرة على ذلك، لكن المسألة لا تتوقف على نوايا الشرع، بل على تعقيدات أكبر من ذلك بكثير.
ويطرح جبلي وجهة نظر للتحول إلى منطقية الدولة وخلع عباءة الجماعة تتمثل بالانفتاح على الآخرين كالتكنوقراط على الأقل ومشاركتهم في جزء من السلطة، وفي المواقع الإدارية في مؤسسات الدولة، واستدعاء الضباط المنشقين من الجيش والأمن، وإدخالهم في المؤسستين العسكرية والأمنية.
معللاً السبب في أن ذلك يمكن أن يطمئن الشرع بأن مؤسسات الدولة لن تنهار والفوضى لن تعم بإبعاد الفصائل والشخصيات والتيارات المتشددة التي تعيق الحركة والتحول، قبل أن يأتي دور الإعلان عن رؤية وخارطة طريق وأهداف محددة دون أن يخشى انهيار الهيئة أو مصيرًا كمصير “رابين”.
ختامًا.. مع مرور الشهر الأول لحكومة “الشرع” التي حددت أعمالها بثلاثة أشهر، تظهر التحديات والمعوقات جلية واضحة وأكبر من التوقعات ولا سيما في ظل وجود ملفات معقدة ورثتها حكومة الشرع من النظام البائد وراحت تعالجها بما تيسر لها من خبرات حكومتها التي خاضت تجربة سابقة في إدلب، والتي يبدو أنها مختلفة كليًا عن العاصمة دمشق المترقبة بصمت نتائج العمل مع نهاية الشهر الثالث.