أثارت مبادرة الحزام والطريق، وهو برنامج بنية تحتية غير مسبوق يمتد عبر القارة الأوروبية الآسيوية وخارجها، ردود فعل عدائية متزايدة في الغرب، وجاءت لترمز إلى خيبة أمل قادة الولايات المتحدة فيما يتعلق بتأكيد بكين المتزايد واستبدادها في ظل الرئيس الصيني شي جين بينغ، ومع ذلك، لا تزال طبيعة المبادرة وانعكاساتها المحتملة غير واضحة، فما المبادرة التي تُعرف أيضًا باسم “طريق الحرير الجديد”؟ وما الآثار المترتبة عليها بالنسبة لإستراتيجية أمريكا الكبرى؟
تبحث السطور التالية عن إجابة لهذه التساؤلات، مع التركيز بشكل خاص على “الديناميات” الأمنية المعقدة في المنطقة، فعلى الرغم من العديد من المشاكل والغموض، فإن “الحزام الطريق” تقود إستراتيجية صينية كبيرة متماسكة يمكن أن يؤدي ذلك إلى تآكل أسس الهيمنة الأمريكية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها تقدم أيضًا بعض المصالح الأمريكية.
تأثير طموحات بكين على أدوات النفوذ الأمريكية
تناولت العديد من الدراسات نشأة وملامح المبادرة الصينية بشكل عام، أو استكشفت تنفيذها في مجالات محددة (مثل التمويل والتكنولوجيا) أو المناطق الجغرافية (مثل باكستان وجنوب شرق آسيا) أو المشاريع (مثل ميناء هامبانتوتا بسريلانكا)، ومع ذلك، فإن التحقيق في جذورها التاريخية والثقافية وطبيعتها متعددة الأبعاد والتضامن مع السياسات الصينية الأخرى والمظاهر الجيوإستراتيجية معًا على خلفية الهيمنة الأمريكية يساعد في اكتشاف تأثيرات الخطة الصينية على إستراتيجية واشنطن في المنطقة.
عن طريق هذه المبادرة، تنافس الصين خصمها الأمريكي على الطاقة والأمن الغذائي، فقد عززت بكين هيكل الأمن الإقليمي في فترة ما بعد الحرب الباردة في الولايات المتحدة وعدم شعبية الحرب على الإرهاب لتعزيز وجودها الاقتصادي في الشرق الأوسط الغني بالنفط، وبحسب الإحصاءات الواردة في تقرير موقع “Middl Eeast Monitor“، نمت تجارة الصين في المنطقة بنسبة 350% في الفترة من عام 2005 إلى عام 2016، وبلغت استثماراتها الأجنبية المباشرة 29.5 مليار دولار عام 2016، مقارنة بـ6.9 مليار دولار في واشنطن.
يمكن للمبادرة أن تسهل الخيارات الاقتصادية كبديل للإكراهات الأمريكية، علاوة على ذلك، فهي تعمل جنبًا إلى جنب مع حشد عسكري قوي وعقيدة دفاعية موسعة
علاوة على ذلك، فإن العديد من الجهات الفاعلة الواقعة خارج حدود الحزام والطريق تتعاون مع مبادرة الصين، بما في ذلك حلفاء واشنطن، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية والبنوك البريطانية والشركات الأمريكية الخاصة، ما يعني التحرر من السيطرة الأمريكية.
وعلى الرغم من علاقتها الوطيدة بواشنطن، توجهت الرياض نحو “الحزام والطريق”، فقد تم توقيع عدد من الصفقات الثنائية بقيمة 65 مليار دولار خلال زيارة الملك سلمان في مارس/آذار 2017، ووقعت الرياض اتفاقيات بقيمة 20 مليار دولار كاستثمار أولي في الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني.
أمَّا خصوم واشنطن، فقد كانوا سبَّاقين للتحرر من الهيمنة الأمريكية، فقد تمتعت إيران وهي حليف قديم لبكين، بتفضيلات متجددة منذ توقيع الاتفاق النووي لعام 2015، حيث ارتفع الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني بنسبة 20% بين مارس/آذار 2014 ويناير/كانون الثاني 2018، وارتفعت التجارة الثنائية بنسبة 19% من 2016 إلى 2017، بالإضافة إلى المشاريع المشتركة مثل حقول نفط شمال أزاديجان ويادافاران، المقدرة بـ5 مليارات دولار.
أدّت العقوبات الأخيرة التي فرضتها إدارة ترامب إلى تقليص هذا الزخم، ومع ذلك، فإن بكين – التي قد ينضم إليها آخرون، بما في ذلك الدول الأوروبية – من المرجح أن تعمل للتحايل عليها، كما فعلت في الماضي. في الوقت نفسه، ساعدت مبادئ عدم التدخل الصينية في نشر نفوذها الإقليمي، ويتضح ذلك من حقيقة أن قطر والكويت وسوريا والعراق يدعمون العلاقات الصينية الإيرانية، بينما ترى السعودية والإمارات و”إسرائيل” علاقة بكين بإيران وقدرتها على التأثير كسبب لإشراك الصين دبلوماسيًا واقتصاديًا.
خريطة لمبادرة الحزام والطرق في هونغ كونغ
وكما يتضح من الخلافات بين أقطاب هذه الدول، يمكن للمبادرة أن تسهل الخيارات الاقتصادية كبديل للإكراهات الأمريكية، علاوة على ذلك، فهي تعمل جنبًا إلى جنب مع حشد عسكري قوي وعقيدة دفاعية موسعة، وقد تساعد بكين على إنشاء شبكة من حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بالإضافة إلى ذلك، رغم أن بكين ما زالت تريد السماح لأمريكا المتدهورة بتحمل المسؤوليات المكلفة للمحافظة على النظام الدولي.
علاوة على ذلك، يمكن استيعاب الأمر الذي يهدد المصالح الأمريكية في المنطقة، بالنظر إلى ما كشفه تقرير للبنك الدولي عن منح الصين قروض مالية للدول الأخرى خصوصًا النامية تفوق كثيرًا ما تقدمه أمريكا في هذا المجال، ويرجع تفوق الصين إلى حصولها على فوائد مالية من تسديد هذه القروض تتراوح بين 10 و15% خلال خمس سنوات، بينما تصل الفوائد التي تفرضها أمريكا على قروضها إلى الدول الأخرى أكثر من 25%، وهذا الأمر بحد ذاته شجع الدول المختلفة للتوجه نحو الاقتراض من الصين بدلاً من أمريكا في السنوات الأربعة الأخيرة.
لهذا السبب، نالت مبادرة “الحزام والطريق” نصيبها من التشويه بوصف التعاون “الصيني – الإفريقي” بـ”الاستعمار الجديد”، حيث يمكن أن تخلق القروض الهائلة المقدمة إلى الدول المتلقية ما سماه العديد من المراقبين “فخ الديون”، ويتضح ذلك في استيلاء الصين على ميناء هامبانتوتا بسريلانكا في ديسمبر/كانون الأول 2017، وارتفاع مستويات الدين الوطني في بلدان مثل جزر المالديف وجيبوتي أو الجبل الأسود، ويمكن أن يتفاقم الخلاف مع اقتراب انتهاء فترة صلاحية قروض الخطة الصينية، ومع اقتحام الصين في التنافس الإقليمي – مثل النزاع بين المملكة العربية السعودية وإيران – والسياسة المحلية.
يمكن للخطة الصينية التأثير بشكل كبير على نظام الأمن البحري الذي تقوده الولايات المتحدة في منطقة المحيط الهادئ الهندية، وهي النقطة الرئيسية في التنافس الأمريكي الصيني
ومع ذلك، فإن جاذبية “الحزام والطريق” لا تزال قوية، حيث تضمن الصين أهمية المبادرة بحقيقة أن احتياجات البنية التحتية العالمية المتوقعة في الفترة من 2013 إلى 2030 قد تصل إلى 57 تريليون دولار بحسب شركة الاستشارات الأمريكية “ماكينزي“، بالإضافة إلى ذلك، أهملت المنظمات التي يقودها الغرب منذ فترة طويلة البنية التحتية في الدول المشاركة في المشروع الصيني، وكانت تتجنب المخاطر بشدة، مما أدى بهم إلى تجاهل العديد من الدول الفقيرة، وهي فجوة تحاول بكين سدها على حساب واشنطن.
وفي حين أن الانتقادات الموجهة للصين تستحق الاهتمام، إلا أن تمويلها التنموي كان له آثار إيجابية، وهذا التأثير الذي يشمل النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل وتوفير بدائل للتقشف في أوقات الأزمات، يفسر شعبية بكين التي لا يمكن إنكارها في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، أمَّا بالنسبة لاتهامات “فخ الديون”، فهي لها حدودها، فقد خلصت المؤسسات الرسمية مثل مركز التنمية العالمية إلى أن الحزام والطريق “من غير المحتمل أن يتسبب في مشكلة ديون شاملة”.
الحزام والطريق.. أكثر من مجرد شعار
تعمل الصين على تعزيز “التحوط الإستراتيجي”، أي تحسين قدرتها على التعامل مع التهديدات المحتملة القادمة من هيمنة النظام الدولي دون القيام بعمل عسكري واضح، وعلى نطاق أوسع، تُستخدام الخطة الصينية لتشكيل بيئة تفضي إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبذلك تنبثق المبادرة عن التقليد الإستراتيجي الغربي الذي يشدد على فرض القوة، كما أنها مصممة للتحايل على التفوق العسكري الأمريكي من خلال إحباط الائتلافات العدائية والبحث عن ميزة نسبية بدلاً من المواجهات الشديدة الخطورة.
يعتقد الكثيرون أن بكين تنوي، تحت ستار نشر الرخاء، تركيز النشاط الاقتصادي العالمي وإضعاف التحالفات الأمريكية وتآكل النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة، مع عواقب أخرى مميتة
لا تساعد مبادرة الحزام والطريق الصين فقط في التخفيف من أي عدوان محتمل، بل إنها تتيح لها أيضًا إبراز التأثير الإستراتيجي على المستويات الثنائية والإقليمية والنظامية، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال مهيمنة على كل مستوى من هذه المستويات، فإن بكين يمكن أن تقضي تدريجيًا على هيمنة الولايات المتحدة وتضعف نظامها الأمني في الهند والمحيط الهادئ.
وبمرور الوقت، يمكن للخطة الصينية التأثير بشكل كبير على نظام الأمن البحري الذي تقوده الولايات المتحدة في منطقة المحيط الهادئ الهندية، وهي النقطة الرئيسية في التنافس الأمريكي الصيني، فقد حافظت واشنطن منذ فترة طويلة على نظام أمني قوي يستخدم موارد الطاقة والموانئ والمنشآت الحيوية والأبنية التحتية المتطورة والقواعد الخلفية الآمنة للحلفاء والشركاء في جنوب شرق آسيا والمحيط الهادي، وقد ساعدت هذه الإستراتيجية على احتواء الاتحاد السوفيتي والصين خلال الحرب الباردة، بحسب ما ذكر روبرت روس في كتابه “إستراتيجية الولايات المتحدة الكبرى، صعود الصين، وإستراتيجية الأمن القومي الأمريكي لشرق آسيا”.
الرئيس الصيني شي جين بينغ مع الملك سلمان بن عبد العزيز
يبدو هدف الصين الرئيسي اليوم هو كسر ما تنظر إليه باعتباره “إستراتيجية سلسلة الجزر” لإفساح المجال للمناورة وتسهيل إسقاط القوة العسكرية وتلميع مصداقيتها. استجابةً لطموحات بكين، أحيت إدارة ترامب، استنادًا إلى التوازنات المحورية للرئيس باراك أوباما إلى آسيا، الشراكة البحرية مع الهند وأستراليا واليابان، في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، كما عززت عمليات الملاحة في بحر الصين الجنوبي، بالإضافة إلى ذلك، فإن انسحاب واشنطن مؤخرًا من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى سوف يسمح للولايات المتحدة بتحديث صواريخها الأرضية، وتوسيع قوتها النارية عبر آسيا.
رغم ذلك، يدرك معظم الزعماء الإقليميين “انخفاضًا حادًا” في النفوذ الأمريكي، فالتقدم التكنولوجي في بكين وقدرتها على نشر الأصول الإستراتيجية العسكرية بأعداد أكبر يهددان بالتغلب على المزايا المحلية للولايات المتحدة، ويمكن أن يهدد عزمها على القتال، ومن غير المرجح أن تؤدي الزيادات الأخيرة في ميزانية الدفاع الأمريكية إلى تغيير هذا الاتجاه، إذ يتراجع تفوق واشنطن العسكري لسنوات على الرغم من أن نفقاتها الدفاعية الإجمالية تزيد على 3 أضعاف حجم ميزانية الصين المعلنة.
طريق الحرير الجديد.. فرصة للصين أم تهديد لأمريكا؟
يرى كثير من المراقبين أن مبادرة بكين عبارة عن “تهديد”، فقد أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي أعلنت إستراتيجيتها للأمن القومي في ديسمبر/كانون الأول 2017، أن الصين قوة “تحررية” دولية تهدف إلى “تقويض الأمن والازدهار الأمريكي”، ونددت بشدة بالممارسات الاقتصادية المفترسة لبكين، وقيامها إلى جانب بعض الحلفاء والشركاء بتطوير مشاريع استثمارية بديلة.
تستغل مبادرة الصين توسع واشنطن في فترة ما بعد الحرب الباردة – العسكرة والتدخل السياسي والليبرالية الجديدة – والتوترات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي في بناء شبكة تحالفها
في المقابل، يرى البعض – كما في مقال الكاتب جال لويف بمجلة Foreign Affairs الأمريكية – أن الحزام والطريق بمثابة “فرصة” على الولايات المتحدة قبولها، ويؤكد آخرون أن هدفها الأساسي دفع عجلة النمو الاقتصادي المحلي للصين، ومع ذلك، لم تخل هذه الأهداف من التشكيك في النوايا الصينية، إذ يعتقد الكثيرون أن بكين تنوي، تحت ستار نشر الرخاء، تركيز النشاط الاقتصادي العالمي وإضعاف التحالفات الأمريكية وتآكل النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة، مع عواقب أخرى مميتة.
في الوقت نفسه، يزعم معظم الخبراء أن فرص نجاح الصين ضئيلة، مقارنةً بـ”خطة مارشال” التي أطلقتها الولايات المتحدة لإعادة إعمار أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية بينما كانت في أوج قوتها، لكن بينما يتوقع بعض الباحثين أن “الحزام والطريق” ستحقق عائدات متواضعة، ينتقد الكثيرون ذلك باعتباره مجرد شعار أو “قائمة لا نهاية لها من الأنشطة غير المترابطة”، التي ستستنزف موارد بكين المالية وتضر بالبلدان المشاركة فيها.
رغم كل هذه العيوب، يُنظر إلى مبادرة بكين على أنها أكثر قوةً وتماسكًا ومرونةً مما يعتقد الكثيرون، فهي تعزز سيطرة الدولة على الجهات الفاعلة، وتحقق معدلات نمو أعلى في معظم البلدان للالتفاف على الأسبقية العسكرية لواشنطن، كما تعمل بالتوازي مع التحديث الصناعي لبكين وتعزيز الدفاع والمشاركة متعددة الاتجاهات والدعاية المتطورة، وبالتالي تجاوز النهج العسكري المتمركز في الولايات المتحدة.
الرئيس الصيني شي جين بينغ مع المندوبين الأجانب في حفل توقيع مواد اتفاقية بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية في بكين
بالإضافة إلى ذلك، تقدّم المبادرة إستراتيجية جغرافية مختلطة تحقق تآزرًا قويًا بين أرض البحر، على عكس الرؤية الأمريكية الأكثر تقييدًا، أخيرًا، تستغل مبادرة الصين توسع واشنطن في فترة ما بعد الحرب الباردة – العسكرة والتدخل السياسي والليبرالية الجديدة – والتوترات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي في بناء شبكة تحالفها.
في الواقع، قد يستغرق الأمر عقودًا للوقوف على العواقب الإستراتيجية لمبادرة الحزام والطريق، لكن لا شك أن مسعى الصين الهائل سيثير المزيد من الخلافات ويسجل المزيد من الإخفاقات، ومع ذلك، لا ينبغي التقليل من قدرتها على تعزيز النفوذ الصيني والقدرة التكنولوجية الصناعية والدبلوماسية متعددة الاتجاهات والدعاية والقوة العسكرية.
في المجمل، إذا تمكنت بكين من إجراء تعديلات كافية لتحسين العائدات وتعزيز الشراكات والحفاظ على النمو الاقتصادي، فقد يكون لمشروعها آثار بعيدة المدى، وقد تتمكن من تقسيم أدوات النفوذ المترابطة التي عززت الهيمنة الأمريكية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.