جلب اللاجئون السوريون رأس المال إلى تركيا ورفعوا الإنتاجية وخلقوا فرص عمل وسدّوا الفجوات في القوى العاملة، كما عزّزوا السوق الداخلية وحسنوا من وتيرة النمو الاقتصادي. إضافة لذلك، لم يكن لوجودهم تأثير سلبي على البطالة وسط الأتراك، فعلى عكس الرائج، لم يشكل اللاجئون السوريون عبئًا اقتصاديًا على تركيا، لأن تدفقهم إلى أراضيها كان مصحوبًا بالمال والاستثمارات والطاقات البشرية التي تعد موردًا مهمًا في بناء أي اقتصاد.
هذا ما ذكره تقرير صادر عن المعهد التركي للإحصاء، وبالتأييد من البروفيسور مراد تسديمير، من جامعة مدنيات في إسطنبول.
ولكن كنتيجة طبيعية للعدد الهائل من اللاجئين السوريين الذين استقروا في المدن التركية، فُرضت تحديات اجتماعية ومعادلات اقتصادية معقدة بعض الشيء على الحكومة التركية والشعب المستضيف. فقد أثّر الوجود السوري على أسعار الغذاء والسكن ومعدلات التوظيف والأجور، ولم تكن هذه التغيرات المتوقعة بحد ذاتها مزعجة أو مرهقة، ولكن تزامنها مع أسوأ أزمة اقتصادية تمر بها البلاد منذ عام 2000 -أي حين فقدت الليرة التركية أكثر من 40% من قيمتها أمام الدولار الأمريكي في بداية عام 2018- أدى إلى زيادة الاحتقان تجاه اللاجئين السوريين.
ورغم أن السوريين لم يكونوا سبب هذه الأزمة، إلا أنهم كانوا أهدافًا لـ “خطاب الكراهية” في وسائل الإعلام المكتوبة والأوساط الاجتماعية من كل شريحة تقريبًا من المجتمع، وبشكل متكرر ومفزع. وهنا نسأل: أليس هناك خيار أفضل من الغريب أو “الغير” لإلقاء اللوم عليه وتوجيه أصابع الاتهام له؟ على أي حال وفي ظل هذه الخلفية، يهدف هذا التقرير إلى توضيح أثر الوجود السوري على الاقتصاد التركي مع التركيز على دور التغطية الإعلامية في تصوير اللاجئ السوري كسبب مباشر في تدهور الرفاه الاقتصادي للمواطنين الأتراك.
هل أثر اللاجئ السوري على الاقتصاد التركي؟
استعرضنا سابقًا في “نون بوست” تسلسلًا زمنيًا يوضح التقلبات التي مرت بها العملة التركية منذ عام 2013 وحتى 2019، وذكرنا في كل عام بالتحديد الأسباب والعوامل التي دفعتها إلى التدهور بشكل حاد. لم يكن للوجود السوري أي علاقة بالاضطرابات الاقتصادية التي مرت بها تركيا، بل على العكس تمامًا، فلقد رأى بعض المحللين أن مصلحة تركيا الاقتصادية في هذا الوقت خصيصًا تكمن في الحفاظ على وعدها بشأن إبقاء اللاجئين السوريين على أراضيها والاستمرار في استضافتهم، لكي تضمن استمرار تدفق مساعدات الاتحاد الأوروبي إليها بالعملة الأجنبية التي تسهل عليها مدفوعات الدين الخارجي، خاصةً وأن قيمة العملة الصعبة أصبحت الآن أكثر قيمة من أي وقت مضى بفضل انخفاض قيمة الليرة إلى مستويات غير مسبوقة، ومع ذلك تكشف العديد من استطلاعات الرأي والتقارير مسارات معاكسة لهذا التوقع.
فرغم استحقاق الحكومة التركية مدح المجتمع الدولي لإيوائها أكثر من 3.6 مليون لاجئ سوري، فإن علامات الإرهاق التي ظهرت على ملامح النظام الاقتصادي أفشت عن حالة الغليان الاجتماعي التي لن تهدأ إلا مع إعادة السوريين إلى بلادهم. يمكن استنتاج ذلك من تحوّل الخطاب السياسي للأحزاب الرئيسية في تركيا التي ذكرت مرارًا عزمها تنفيذ هذا الإجراء، في محاولة منها للسيطرة على المزاج العدائي المنتشر تجاه اللاجئين السوريين.
مع العلم أن هذا الشعور ليس جديدًا أو غريبًا، فمنذ البداية، أثارت سياسة “الباب المفتوح” التي اتبعتها تركيا في استقبال اللاجئين ردود فعل سلبية واسعة، وتبعتها الكثير من الاعتراضات والانتقادات، إلا أن الأزمة الاقتصادية الأخيرة أثرت بشكل أعمق على تفكير المواطنين تجاه اللاجئين. فبحسب ما أشار له خبير اقتصادي في مجلة الإيكونومست، الشعب التركي لم يعد يرحب باللاجئين السوريين وينظر إليهم على أنهم مشكلة اجتماعية واقتصادية ملحة.
وذلك ما يؤيده استبيان للرأي أجري مؤخرًا أفاد بأن %66 من المواطنين الذين شاركوا في الاستطلاع، أجابوا بأن السوريين يمثلون أكبر مصدر للقلق في حياتهم. وفي استطلاع رأي آخر لعام 2018، قال 83% من الأتراك إنهم ينظرون إلى اللاجئين بصورة سلبية، بينما قال 17% فقط من المشاركين بأنهم ينظرون إليهم بطريقة إيجابية.
في نفس العام وفي استطلاع آخر، عندما سئل الأتراك ما الذي أثار غضبهم بشأن اللاجئين، كانت الشكوى الأولى للمشاركين الأتراك، التي بلغت 28%، هي ارتفاع نسبة البطالة بين أفراد شعبهم، وتليها الضرائب غير المدفوعة بنسبة 16%، وانتشار المشاكل الأمنية والهجمات الإرهابية بنسبة 13%، وانخفاض الأجور بنسبة 8%، وبالنهاية قال 7% منهم “لا شيء يزعجني”. فهل يملك الأتراك حق الاستياء من اللاجئين السوريين؟
لا شك أن تدفق الآلاف من اللاجئين السوريين إلى المدن الحدودية التركية أدى إلى ارتفاع أسعار الإيجارات والعقارات، وتحديدًا في غازي عنتاب وشانلي أورفا وكليس في جنوب شرق تركيا. إذ ارتفعت الإيجارات هناك إلى 3 أضعاف مقارنة بما كانت عليه قبل عام 2012 وذلك بحسب بيانات عام 2014، ولا داعي للذكر أنه بحلول عامنا الحالي استمرت الأسعار بالارتفاع بشكل طردي، لكننا لم نعثر على تقارير رسمية لقياس هذه الزيادة بدقة.
وبحسب العرف الاقتصادي، فإن تكدس السوريين في هذه المناطق، زاد الطلب على المنازل والمحال التجارية والمستودعات، ما أدى تلقائيًا إلى رفع أسعارها، وفي بعض الحالات كان أصحاب العقارات يفضلون المستأجرين السوريين حتى يحصلوا على مبالغ أعلى. كما جاء هذا الارتفاع أيضًا بصحبة منظمات الإغاثة الأجنبية والمؤسسات الدولية غير الربحية التي قدمت إلى تركيا بميزانيات كبيرة، وكانت تستأجر مساحات صغيرة مقابل مبالغ كبيرة، وبالتالي انحصرت خيارات المواطن التركي ولم تعد قدرته المالية تناسب تغيرات السوق السريعة.
كيف خلقت الأزمة الاقتصادية أساطير حول اللاجئ السوري؟
رصدت العديد من استطلاعات الرأي انطباعات وشكاوى المجتمع التركي حول اللاجئين، وكانت من بينها شعورهم بالغربة في بلدهم، وعدم سماعهم للغة التركية في الشارع كالسابق وتلقي السوريين المساعدات المالية من الدولة. ومقولات من قبيل: “أردوغان يأخذ من شعبه ويعطي للسوريين” و”سمحنا لهم بالدخول والآن يشنون حربًا ضدنا” و”يذهبون إلى الشاطئ، بينما يخوض جنودنا حروبهم”.
هذا المزاج العام جاء مصحوبًا ومدفوعًا بخطابات الكراهية التي تبنتها العديد من الأحزاب والشخصيات العاملة المعارضة للوجود السوري ولقد بثتها وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية
جدير بالذكر، أن هذا المزاج العام جاء مصحوبًا ومدفوعًا بخطابات الكراهية التي تبنتها العديد من الأحزاب والشخصيات العامة المعارضة للوجود السوري ولقد بثتها وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية (منصات التواصل الاجتماعي)، ما أدى إلى ازدياد الاستياء الاجتماعي والعداء تجاه السوريين، ولا سيما في المناطق الحضرية التي تتركز فيها أعداد كبيرة من اللاجئين مثل إسطنبول وإزمير وأنقرة وهي الأماكن التي نادرًا ما تشهد أي تقارب بين السوريين والمواطنين الأتراك.
وبما أن التفاعل بين اللاجئين والمواطنين محدود للغاية، لا سيما بين النساء، فإن العديد من التصورات السلبية التي يتم تداولها وترويجها يسهل تصديقها وتمريرها للآخرين الذين يتلقون هذه المعلومات من خلف شاشاتهم الإلكترونية دون بذل أي مجهود لتفقد مدى دقتها أو واقعيتها.
على سبيل المثال، إذا قمنا بإجراء بحث بسيط على المواقع الإلكترونية حول أسباب امتعاض الأتراك من الوجود السوري، فسنجد أن غالبية التعليقات تحتوي على معلومات غير صحيحة، مثل حصول اللاجئ على رعاية صحية مجانية والتحاقه بالجامعة دون إجراء اختبار القبول أو تغطية المساعدات التي يتم توزيعها على بعض اللاجئين من ضرائب المواطنين.
لن يكون الأمر مفاجئًا حين نعلم أن 80% من الأتراك، المشاركين في واحدة من استطلاعات الرأي، يريدوا أن يعود السوريون إلى وطنهم، وهي نسبة عالية جدًا ولها انعكاساتها الاجتماعية المخيفة ولكنها متناغمة مع حملة التشويه والتضليل
وهي المعلومات التي تم الترويج لها من قبل الشخصيات السياسية المعارضة في البلاد، مثل زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كليتشدار أوغلو، الذي قال بأن السوريين هم سبب استنزاف الاقتصاد التركي وزيادة نسبة البطالة. وهو ما كررته زعيمة حزب الجيد، ميرال أكشنار في وقت لاحق حين قالت أن وجود اللاجئين السوريين “تسبب في انخفاض مستوى معيشتنا، فالشباب الأتراك أصبحوا يعانون من البطالة”.
ولا شك بأن هذه الادعاءات كفيلة بتعمية المواطنين الأتراك عن الحقيقة والتلاعب بمشاعرهم تجاه السوريين، ولن يكون الأمر مفاجئًا حين نعلم أن 80% من الأتراك، المشاركين في واحدة من استطلاعات الرأي، يريدون أن يعود السوريون إلى وطنهم، وهي نسبة عالية جدًا ولها انعكاساتها الاجتماعية المخيفة ولكنها متناغمة مع حملة التشويه والتضليل التي قادتها العديد من المنابر والشخصيات الإعلامية.
يضاف إلى ذلك، أن ثلث المشاركين أشاروا إلى ضرورة إعادة اللاجئين لوطنهم بغض النظر عن السبب، بينما قال 45% منهم بأنه يجب على الحكومة إعادتهم إلى المناطق الآمنة التي أنشأتها تركيا على الجانب السوري من الحدود، كما أيد 13% وضعهم الراهن ودعوا إلى الاستمرار في معاملة اللاجئين كضيوف ودون السماح لهم بالحصول على الجنسية. في المقابل، رأى 9% فقط أن السوريين يجب أن يصبحوا مواطنين في تركيا ويدفعون الضرائب.
خلاصة القول، إن مستقبل اللاجئين في تركيا لم يعد محددًا فقط بالموقف الحكومي والمصالح السياسية والاتفاقيات الدولية وإنما بالرغبة الشعبية المرتبطة بشكل وثيق بالمنفعة الفردية والأولويات الشخصية، ولا داعي للذكر أن تأطير بعض وسائل الإعلام التركية اللاجئين السوريين إما كـ “انتهازيين اقتصاديين” أو كـ “أعباء اقتصادية” ساهم في زيادة الضغوط عليهم بدلًا من التركيز على صراعاتهم اليومية التي من الممكن أن تسد فجوة سوء التفاهم بينهم وبين الشارع التركي.