تتوق الأنفس كل عام إلى زيارة بيت الله الحرام، ومع اقتراب موسم الحج يؤمل كل مسلم نفسه أن ينول القبول ويطوف بفؤاده حول قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي منزلة تفوق لدى الكثير أعظم المنازل الدنيوية فيما لا تناظرها أخرى إلا دخول الجنة والتنعم بجوار رب العالمين.
وبينما تعزف الأرواح على أوتار الرجاء في أداء فريضة الحج، تنشق الأرض عن عراقيل ومشكلات تحول الحلم إلى كابوس، والأمل إلى يأس، وتجهض فرحة المشتاقين وتلقي بهمتهم فوق التراب، ورغم تعدد تلك العقبات فإن النتيجة واحدة، الحرمان من الحج، شعور ربما تقف أمامه الكلمات عاجزة عن الوصف.
“نون بوست” في هذه الإطلالة يعرج سريعًا على العديد من القصص والمأسي التي يكشفها أصحابها، المحرومون من نعمة الحج، إما بفعل أمور مادية نظرًا لارتفاع أسعار الحج بصورة خيالية لا سيما خلال الأعوام القليلة الأخيرة، أو لأسباب إدارية وسياسية وأمنية أجهزت على حلم الكثيرين في أداء الركن الخامس من الدين الإسلامي.
الأسعار.. وحش كاسر
تحتل الأسعار المرتفعة للحج الصدارة في قصص المحرومين هذا العام، ففي الوقت الذي كان يؤمل البعض فيه أنفسهم بأن تستقر الأسعار نسبيًا إذ بها تفاجئ الجميع وتقفز بصورة خيالية، وصلت في بعض الحالات إلى أن تجاوزت كلفة أداء الفريضة قرابة 180 ألف جنيه مصري (11 ألف دولار) وهو رقم غير مسبوق في تاريخ المصريين.
أحمد عامر، ستيني مصري، نجح بعد خروجه على المعاش الوظيفي، أن يدخر قرابة 90 ألف جنيه لأداء الحج هذا العام، قدم في القرعة السنوية، لكن لم يكتب له القبول فيها، فلجأ إلى إحدى شركات السياحة الدينية بمنطقة وسط القاهرة، ليفاجأ أن كلفة الحج (سفر وإقامة) تتجاوز 150 ألف جنيه (9 آلاف دولار).
“شعرت بغصة في الحلق ويأس تام من الحياة.. حينها تمنيت الموت”، بهذه الكلمات علق العجوز المصري في تصريحاته لـ”نون بوست” على شعوره بعدما فشل في الحج هذا العام، لافتًا “تمنيت لو أختم عمري بزيارة بيت الله وقبر رسوله لكن يبدو أن الله لم يطلبني حتى الآن”.
لم تكن الأسعار وحدها اللعنة التي تصيب المشتاقين لزيارة بيت الله الحرام، فهناك لعنة أخرى لا تقل ألمًا، تتمثل في الحدود والمعابر والتضييقات الأمنية، وهو ما يتضح بصورة فجة في الدول التي تعاني من أزمات حدودية
وأضاف “كنا في السابق ندفع أقل من 30 ألف جنيه كلفة الحج كاملاً، وكانت الأجواء أكثر رحمة ورحبة مما هي عليه الآن”، موضحًا أنه لو قبضت روحه قبل أداء فريضة الحج، سيسأل كل من تسبب في منعه من السفر أمام الله عز وجل، “والله لن أسامحهم وأنا بين يديه” هكذا أكمل بصوته المتحشرج بالدموع.
الأمر ذاته عانته “حنان الليموني” عضو نقابة الصحفيين المصرية، فبعد فوزها بتأشيرة الحج في القرعة التي تعقدها النقابة كل عام، إذ بها تفاجأ بأن الكلفة المطلوبة تفوق قدراتها بمراحل، وهي التي كانت تعتقد أن مجرد فوزها في القرعة هو تأشيرة مكتملة الصلاحية للسفر دون أعباء جديدة.
وأضافت الصحفية المصرية أن الأمر يحتاج إلى مبلغ كبير وهو ما ليس بحوزتها في الوقت الراهن، ومن ثم فلن تستطيع أداء الفريضة هذا العام، فكتبت على صفحتها على فيسبوك تقول: “اعتذرت عن الحج بنقابة الصحفيين نظرًا لارتفاع ثمنه، وربنا يكتبها لنا مرة ثانية، الحمدلله”، وتابعت “يارب لم يكن لدي مال للحج لبيتك الحرام رغم أن القرعه طلعت من نصيبي.. يارب اكتبهالي”.
ارتفاع أسعار الحج حرمت الملايين من أداء الفريضة
لعنة المعابر والحدود
لم تكن الأسعار وحدها اللعنة التي تصيب المشتاقين لزيارة بيت الله الحرام، فهناك لعنة أخرى لا تقل ألمًا، تتمثل في الحدود والمعابر والتضييقات الأمنية، وهو ما يتضح بصورة فجة في الدول التي تعاني من أزمات حدودية، كما هو الحال في قطاع غزة على سبيل المثال، الذي يتطلب حجيجه عبور معبر رفح وصولاً إلى المطارات المصرية ومنها إلى الأراضي المقدسة في السعودية.
“كثير من الحجاج يعودون من المعبر بسبب رفض السماح لهم بالعبور، وكنت أتمنى أن أختم حياتي في بيت الله”، هكذا قالت الحاجة سامية، إحدى سكان قطاع غزة، لافتة إلى أن هذا الأمر معتاد لديهم منذ سنوات، لكن هذا لا يقلل من الشعور بالحسرة على عدم أداء الفريضة، خاصة أنهم حصلوا على تأشيرات للسفر.
فصل جديد من فصول الأزمة الخليجية، يتزامن مع موسم الحج، غير أنه هذه المرة لم يتعلق بمنع طعام أو شراب، أو حصار بري وجوي وبحري، أو حتى التفكير في عزل قطر عن محيطها الجغرافي، فالأمر تجاوز ذلك إلى منع الشعب القطري من أداء مناسك العمرة ومن بعدها الحج
المرأة التي تبلغ من العمر 65 عامًا، أضافت في تصريحاتها لـ”نون بوست” أنها وولدها عادا من المعبر أكثر من مرة، وحين سألت لم يجبها أحد، إلا أن البعض أشار إلى أن أبعادًا أمنية وراء القرار، وأن الجانب المصري هو من حدد عدد العابرين من رفح، وهو ما يتطلب السماح للبعض وإعادة الآخرين.
المعبر بصفة عامة يسمح بعبور الحجاج وضيوف بيت الله الحرام، إلا أنه وفي بعض الأحوال يكون مضطرًا لعدم السماح للبعض خاصة إن كانت الأعداد كبيرة، هذا بجانب طبيعة العلاقات بين مصر وسلطات القطاع التي تؤثر بشكل كبير على أعداد الحجاج الفلسطينيين، بحسب ما ذهب إليه أحد صحفيي القطاع.
الصحفي الذي رفض ذكر اسمه أشار في تصريحاته لـ”نون بوست” إلى أن الواسطة والمحسوبية تلعب دورًا كبيرًا في اختيار من يسافر ومن يبقى، لافتًا إلى أن البعض ربما يختار البقاء طواعية في حالات التوتر مع السلطات المصرية، خشية التعرض للاعتقال أو المضايقات الأمنية، هذا رغم الحصول على التأشيرة، فالقانون وحده ليس كافيًا للعبور، هكذا أنهى حديثه.
وأضاف أن العامل الاقتصادي له بُعد كذلك في هذه الأزمة، موضحًا أن الجانب المصري فرض رسومًا باهظة مقابل نقل الحجاج من المعبر لمطار القاهرة، تصل وفق ما أشار إلى 800 دولار، هذا بخلاف رسوم الحج الأساسية التي تزيد عن 2000 دينار أردني (2800 دولار).
معاناة كثير من الحجيج الفلسطينيين مع معبر رفح
تسييس الحج
“للعام الثاني على التوالي لا أستطيع أنا وأبنائي أداء عمرة رمضان وهي التي كنا نحرص عليها منذ عشر سنوات، ما حال بيننا وبينها حائل مهما كانت شدته، لكن اليوم نحن ممنوعون مما اعتدناه، والبركة في الأشقاء”، بهذه الكلمات عبرت مريم وهي أم قطرية لأربعة أبناء، عن استيائها جراء القيود المفروضة من السلطات السعودية على المعتمرين القطريين.
مريم أوضحت في حديثها لـ”نون بوست” أنها فكرت أكثر من مرة هي وأبنائها بمساعدة شقيقها في السفر إلى المملكة لأداء مناسك العمرة بداية رمضان الحاليّ لكن الكثيرين حذروها مما يمكن أن تتعرض له هناك في ظل حالة الاحتقان الراهنة، معربة عن أسفها أن يصل الحال إلى أن تمنع من ممارسة شعائرها الدينية، قائلة: “لم يدر بخلدي يومًا أن منعي من أداء أفضل وأحب العبادات إلى قلبي سيكون بيد مسلمين فضلاً عن كونهم جيرانًا وأشقاءً”.
فصل جديد من فصول الأزمة الخليجية، يتزامن مع موسم الحج، غير أنه هذه المرة لم يتعلق بمنع طعام أو شراب، أو حصار بري وجوي وبحري، أو حتى التفكير في عزل قطر عن محيطها الجغرافي، فالأمر تجاوز ذلك إلى منع الشعب القطري من أداء مناسك العمرة ومن بعدها الحج، ليترك في حلقهم غصة بات من الصعب محوها.
منذ حصار الدول الرباعية (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) في الخامس من يونيو/حزيران 2017 اتهمت الدوحة الرياض بمنع القطريين من أداء فريضة الحج للعام الحاليّ، بعد أن أغلقت نظامًا إلكترونيًا للحصول على التصاريح، بالإضافة إلى إغلاق حدودها البرية بوجه الحجاج.
عبد الله الكعبي عضو اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بقطر أكد أن السعودية أغلقت نظامًا إلكترونيًا تستخدمه وكالات السفر للحصول على تصاريح من أجل الحجاج القطريين، وأضاف “ليس أمام مواطني قطر وسكانها أي فرصة هذا العام للسفر لأداء الحج، ما زال إغلاق تسجيل الحجاج من دولة قطر مستمرًا ولا يستطيع سكانها الحصول على تأشيرات لعدم وجود بعثات دبلوماسية”.
مئات القطريين على مدار عامين باتوا اليوم في عداد المحرومين من أداء الفريضة رغم أنه لم يفصل بينهم وبين المشاعر المقدسة إلا دقائق معدودة بالطائرة، غير أن تسييس المملكة للحج واستخدامه كورقة ضغط ضد خصومها السياسيين، حال دون ذلك، وسط تصاعد مشاعر الاحتقان، فالأمر تجاوز الخلافات السياسية بين الدول إلى العبادات والفرائض الدينية.