ترجمة وتحرير: نون بوست
أولئك الذين يتصورون أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هو الرئيس الذي سيوقف الحرب في الشرق الأوسط، عليهم أن يلقوا نظرة على ما يجري حاليًا في الضفة الغربية المحتلة.
الجيش الإسرائيلي الذي أذهله مشهد المئات من مقاتلي حماس وسيارات الجيب الفارهة التي تحيط بسيارة الصليب الأحمر التي كانت تحمل أول ثلاث أسيرات إسرائيلياتضمن عملية تبادل الرهائن، يدكّ الآن جنين بعد 15 شهرًا من الحرب المتواصلة في غزة.
لقد صدمت صور إطلاق سراح الرهائن في غزة الرأي العام الإسرائيلي الذي تغذى على أساطير النصر الكامل؛ وقال الصحفي يسرائيل فراي لموقع “ميدل إيست آي”: “بعد عام وأربعة أشهر غُمرت فيها عيون الجمهور بالمعلومات والروايات التي لا أساس لها من الصحة عن قصص النصر الكامل والانتقام، يرى الرأي العام الإسرائيلي من غزة صور سيارات التويوتا وعناصر حماس المسلحين، ويرى غزة تنهض من تحت الأنقاض”.
ومع ذلك، فإن الهجوم البري واسع النطاق على مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية تم التخطيط له مسبقًا، لكن توقيته كان كافيًا لإقناع بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف والقنصل العام الفعلي للضفة الغربية المحتلة، بالبقاء في الحكومة بعد أن هدد بالاستقالة بسبب وقف إطلاق النار في غزة.
وكان البند الآخر في شروط سموتريتش هو الوعد بإقالة قيادات الجيش. وإذا كان الفريق هرتسي هاليفي، كبير الجنرالات الإسرائيليين الذي استقال هذا الأسبوع، قد فعل ما يكفي في غزة ليستحق هو الآخر مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، فإن بديله يستحق المراقبة أيضا.
ومع هجوم المستوطنين على بلدة الفندق في الوقت الذي رفع ترامب فيه العقوبات عن أعنف عصاباتهم الغوغائية، يمكننا أن نرى أن إسرائيل أوقفت الحرب بشكل مؤقت على غزة لتطلق جحيمها على الضفة الغربية؛ حيث سقطت 10 جثث في شوارع جنين في غضون ساعات فقط، وكان من الخطير للغاية انتشالها.
فهل ظهرت بالفعل ملامح ولاية ترامب الثانية، وهل هذا ما ستكون عليه الأمور في الفترة القادمة؟
تكرار لـ”علاقة الأحلام”؟
لا يمكن لأحد أن يجادل في الحقائق: جميع الأمور مهيأة لتكرار “علاقة الأحلام” التي ربطت ترامب بإسرائيل خلال ولايته الأولى.
سمح ترامب لإسرائيل في الولاية الأولى بضم هضبة الجولان المحتلة – وهي خطوة من المتوقع أن تتسبب يوم ما في نشوب حرب مع سوريا – واستخدم اتفاقات أبراهامكرافعة لدفن القضية الفلسطينية، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
أما في ولايته الثانية والأخيرة، فقد عيّن ترامب مايك هاكابي سفيرًا في إسرائيل، وهو الذي يعتقد أنه لا يوجد شيء اسمه فلسطين، ووزير الدفاع بيت هيغسيث، الذي قال إنه يجب بناء الهيكل الثالث على أنقاض المسجد الأقصى، ومبعوث السلام ستيف ويتكوف، الذي يريد “نقل سكان غزة إلى إندونيسيا”.
وقد أعلن ترامب نفسه بوضوح تام أنه لا يكترث نهائيًا بمصير سبعة ملايين فلسطيني.
ترامب، مثل صهره جاريد كوشنر، يهتم بغزة باعتبارها أكبر موقع مدمّر في العالم، فقط من أجل كل تلك الفرص الاستثمارية التي يمثلها موقعها على شاطئ على البحر، أو كما قال: “يمكن القيام بأشياء جميلة هناك، أشياء رائعة”.
أما بالنسبة للناس الذين يعيشون هناك، فلا يساور عقله الفارغ أي قلق بشأنهم.
ولكي نكون منصفين، لا يهتم ترامب كثيرًا بأي عربي، غنيًا كان أم فقيرًا؛ وتعاطفه مع المملكة العربية السعودية يقتصر على مدى استعداد ولي العهد محمد بن سلمان بفتح خزائنه للولايات المتحدة.
وعندما سُئل عن رحلته الخارجية الأولى، تذكر ترامب زيارته الرياض في ولايته الأولى، ولكن فقط لأن السعودية أنفقت 450 مليار دولار على المنتجات الأمريكية: “لا أعرف، إذا أرادت السعودية دفع 450 مليار دولار أخرى، أو 500 مليار دولار من أجل مكافحة التضخم”.
ومع تجاهل ترامب للإبادة الجماعية، وعزمه على أن تنفيذ أوامره، وتعيينه شخصيات تردد أسوأ ما في الدعاية الإسرائيلية، هل سيثبت ترامب مرة أخرى أنه سيكون الرهان المثالي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؟ وهل ستكون سياسة نتنياهو هي إجهاض الدولة الفلسطينية قبل أن تولد؟
الإجابة التي توصّلت إليها تحمل أكثر من وجه، فمن المؤكد أن “علاقة الأحلام” التي يجسدها ترامب وإسرائيل خاضعة بالكامل لسيطرة الصهيونية الدينية، التي تحتل اليوم مكانة أكبر مما كانت عليه في 2017، وأكبر من أي وقت مضى؛ حيث لم تعد مهمشة أو منبوذة.
فهي تتحكم في احتلال الضفة الغربية، وشرطة الحدود، وقد وصل تأثيرها إلى أعلى المستويات في الجيش والقضاء، وقد أصبح لها اليوم صوت مسموع في مجلس الوزراء لا يمكن لنتنياهو تجاهله، لذا يحق لها توقع الولاء المطلق من إدارة ترامب.
كل هذا صحيح، ولكن ترامب ونتنياهو لا يعيشان اليوم في العالم الذي يعتقدان أنهما أتقنا التعامل معه في عام 2017.
فإذا ما تُركت إسرائيل المتهورة بمفردها، يمكن أن تكون مصدرًا رئيسيا لعدم الاستقرار في المنطقة، وبالتالي لترامب، كما كانت بالنسبة لبايدن.
حتمية التغيير
ربما استغل نتنياهو اجتماعه القصير مع ويتكوف كذريعة للموافقة على وقف إطلاق النار الذي كان بإمكانه الموافقة عليه في يوليو/ تموز من العام الماضي، ولكن هناك أيضًا أسباب داخلية متزايدة للقيام بذلك الآن.
استطلاعات الرأي متناقضة في ظاهرها؛ إذ يعتقد 60 إلى 70 بالمئة من الإسرائيليين أنه لا يوجد أبرياء في غزة، ولكن ما بين 60 و70 بالمئة أيضًا يؤيدون إنهاء الحرب. السبب في هذا التناقض هو الغياب التام لأي تعاطف مع الفلسطينيين.
فالإسرائيليون مرهقون من الحرب بسبب التكلفة التي دفعوها من أرواح الجنود، والتكلفة التي تكبدها الاقتصاد، والضرر الذي أحدثته الحرب على نمط حياتهم الغربي المترف الذي يشعر هذا الجيل من الإسرائيليين أنه حقهم الطبيعي.
لقد أصبحت الحرب، كما أشار زميلي ميرون رابوبورت، عبئًا ثقيلًا على الحكومة والجيش والمجتمع ككل.
المجتمع الإسرائيلي منقسم كما لم يحدث من قبل، وقد أدت المظاهرات الأسبوعية التي تنظمها عائلات الرهائن إلى زيادة الضغط على الحكومة التي جادلت عبثًا، وبشكل لا تدعمه الأدلة على الأرض، بأن العمل العسكري وحده هو الذي يمكن أن يعيد الرهائن أحياء.
إن هذا المستوى من المعارضة الداخلية للحرب أثناء خوضها لم يحدث من قبل.
ولم يخفف وقف إطلاق النار في لبنان الضغط على نتنياهو بل زاده، وهذا ما أقنع رئيس الوزراء الذي يقترب من منتصف ولايته الحالية، أنه سيخسر الانتخابات المقبلة إذا استمر على هذا المنوال.
فبغض النظر عن مسؤوليته عن هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول، قُتل منذ ذلك الحين أكثر من 400 جندي وأصيب الآلاف. من أجل ماذا ضحى هؤلاء الجنود إذا كانت حماس ما تزال تسيطر على أنقاض غزة؟
وإذا كانت إسرائيل قد أنهكتها الحرب كما تشير استطلاعات الرأي، فلماذا تشن حربًا أخرى في الضفة الغربية، ولماذا احتلت مساحة من الأراضي السورية أكبر مما تحتله حاليًا في غزة؟
الضم الجزئي
بداية، كان نتنياهو داهية مرة أخرى في تحليله لما ستسمح به واشنطن.
إصرار ترامب على وقف الحرب على غزة يتعلق فقط بالرهائن الإسرائيليين. وبمجرد عودتهم، أو عودة معظمهم، يمكن لإسرائيل أن تفعل ما تريد في غزة أو الضفة الغربية.
وردًا على سؤاله حول مستقبل وقف إطلاق النار أثناء توقيع الأوامر التنفيذية في المكتب البيضاوي، قال ترامب: “إنها ليست حربنا، إنها حربهم. أنا لست واثقًا، لكنني أعتقد أنهم الجانب الآخر ضعيف جدا”.
ثانياً، الهجوم العسكري في الضفة الغربية واستبدال هاليفي هو ثمن لبقاء سموتريتش إلى جانب نتنياهو، وهو صريح تمامًا في هذا الشأن؛ فقد قال سموتريتش إن الفترة المقبلة ستشهد استبدال القيادة العسكرية العليا استعدادًا لاستئناف الحرب على قطاع غزة.
كما أن فريق ترامب يتابع عن كثب عملية تفكيك مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية تمهيدًا لضم جزئي.
وتعتقد إليز ستيفانيك، مرشحة ترامب لمنصب السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، أن إسرائيل لها سيادة توراتية على يهودا والسامرة، والفلسطينيون في نظرها ليس لهم حقوق كشعب، وبالتأكيد ليس لهم نفس الحقوق التي يتمتع بها الإسرائيليون.
سيكون من الحماقة حصر هدف نتنياهو في هذا الأمر فقط؛ فهو يعلم أن خطوته في جنين لن تؤدي إلى هدم المدينة فحسب، بل إلى هدم السلطة الفلسطينية التي تعيش بالفعل حالة احتضار.
لا يمكن للسلطة أن تبقى قائمة كهيكل مساعد للآلة العسكرية الإسرائيلية في هدم جنين وطولكرم ونابلس وجميع مناطق المقاومة الأخرى. ويمكننا أن نتوقع رؤية انشقاقات متزايدة في صفوف قوات الأمن الوقائي المسلحة والمدربة كما رأينا في الانتفاضة الثانية. وهذا ما يعرفه نتنياهو جيدًا.
أكبر نقطة ضعف إسرائيلية
إن ترتيبات ما بعد الحرب التي يتمنى نتنياهو رؤيتها في الضفة الغربية ستكون هي نفسها التي يريدها في غزة: العودة إلى أيام الصفقات الفردية مع القيادات المحلية في المدن والبلدات الفلسطينية.
وعلى غرار غزة، ستخضع الضفة الغربية للحكم العسكري الإسرائيلي الدائم، وهنا يكمن الاختلاف الرئيسي مقارنة بولاية ترامب الأولى.
فوحشية إسرائيل في غزة لم تتسبب فقط في خسارتها لتعاطف جيل كامل من اليهود في الولايات المتحدة، بل خسرت أيضًا دعم المنطقة العربية بأسرها، والتي كانت قبل 6 أكتوبر/ تشرين الأول تُظهر كل علامات التخلي عن القضية الفلسطينية.
فقد وصل جيل جديد من الحكام المستبدين إلى السلطة في السعودية والإمارات، جيل لا يبالي أساسًا بالقضية الفلسطينية. وقبل أن تدمر إسرائيل غزة، كانت إسرائيل على أعتاب النصر الكامل.
إن عدم قدرة إسرائيل على فهم العرب الذين تعيش بينهم هي نقطة ضعفها الكبرى.
ما زال على إسرائيل أن تستوعب حقيقة أن حربها على غزة قد ألهبت جيلًا كاملًا من العرب وشحنت عواطفهم كما لم تفعل أي حرب سابقة في تاريخ إسرائيل القصير والمرير.
فما الذي قد يدفع مغربيًا إلى التخلي عن الإقامة الدائمة في أمريكا مقابل الموت المحقق في هجوم بالسكين في شوارع تل أبيب؟
وقد كان المغرب من الموقعين المتحمسين على اتفاقات أبراهام، فما هو ثمن تلك الوثيقة الآن؟
إن إسرائيل غافلة تماماً عن طبيعة المنطقة التي تعيش فيها، ولا تعتقد أنها تحتاج بأي شكل من الأشكال إلى أن تتصرف بمنطق آخر غير منطق القوة الغاشمة.
ولكن إذا مضت قدمًا في خططها لضم الضفة الغربية، فإنها ستزيد من تطرف ستة ملايين فلسطيني في الأردن، وملايين من سكان الضفة الشرقية كما لم يحدث من قبل.
سوف يتعين على الجيش الأمريكي بقيادة ترامب أن يتصرف؛ حيث أن لديه الكثير من الأصول والقواعد في المنطقة، وقد تصبح هدفا شعبيا في أي دولة مضيفة.
وقد حذّر وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي عدة مرات من هذه العواقب وتم تجاهله؛ وقال الصفدي: “الضفة الغربية على حدودنا والوضع خطير، وما يحدث هناك يمكن أن يزعزع أمن المنطقة”.
لن يكون ترامب في وضع يسمح له بتجاهل انهيار الأردن، وسيؤثر الأمر على الدول المجاورة، وقد يهدد الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة.
إن الإدارة الأمريكية الحالية ليس لديها أي فكرة عن هوية الفلسطينيين وطبيعتهم؛ فهي تنظر إلى المنطقة من منظور إسرائيل. لطالما فعلت أمريكا ذلك، ولكن قصر النظر اليوم أكبر من أي وقت سابق.
هذه وصفة لكارثة قادمة وبذرة للمزيد من الصراعات، وقريبًا ستبدو وعود مناهضة الحرب التي أطلقها ترامب ذكرى بعيدة.
المصدر: ميدل إيست آي