ترجمة وتحرير: نون بوست
ماذا لو سارت الاحتجاجات في الجزائر نحو عصيان مدني؟ في الوقت الذي تراجعت فيه التعبئة أثناء المسيرات الأسبوعية الكبرى تحت تأثير التعب والإرهاق والخمول الصيفي والوضع المتأزم، لا يسمح المؤمنون بالحراك إيمانا لا مشروطا بالمساس من معنوياتهم.
قالت المتظاهرة آسيا: “من الطبيعي أن نكون أقل عددًا بعد خمسة أشهر. فجميعنا متعبون، ونحتاج إلى الراحة. بالإضافة إلى ذلك، يعد الجو حارا للغاية، ما أجبر الكثيرين إلى التوجه إلى الشاطئ. ولكن ستعود المظاهرات إلى حجمها الطبيعي في شهر أيلول/ سبتمبر”. كما بدت المتظاهرة آسيا صارمة في موقفها حينما صرحت أن الحراك الجزائري ليس بصدد الاضمحلال، ذلك أن “الذين يدّعون ذلك ليسوا سوى أشخاصا يحبون إطلاق الأكاذيب خدمة لمصالح النظام”.
تطرقت آسيا إلى أن العصيان سيتمحور حول “كسر القوانين عمدا وجماعيا والتوقف عن الذهاب إلى العمل وعدم اصطحاب الأطفال إلى المدرسة وغلق آبار النفط والغاز. وسنريهم ما الذي يعنيه وقف سير دواليب البلاد”.
سيظهر الدليل على ذلك في غضون شهر واحد، مع اندلاع موجة العصيان المدني، وهو السلاح الجديد الذي وعد به الشعب الجزائري لإخضاع “رئيس العصابة قايد صالح”. وتمثل الشعار القوي الذي رُفع في المظاهرات التي اندلعت في الثاني من آب/ أغسطس، وهو الأسبوع الرابع والعشرين على التوالي من المظاهرات، ضد النظام في “راهو جاي العصيان المدني” (“العصيان المدني قادم”).
تطرقت آسيا إلى أن العصيان سيتمحور حول “كسر القوانين عمدا وجماعيا والتوقف عن الذهاب إلى العمل وعدم اصطحاب الأطفال إلى المدرسة وغلق آبار النفط والغاز. وسنريهم ما الذي يعنيه وقف سير دواليب البلاد”. وفي حديثها مع المحيطين بها، باللغة العربية تارة والفرنسية تارة أخرى، كانت آسيا، التي تضع قبعة وسوارا مزينين بألوان “الجزائر”، فضلا عن علم وطني فوق كتفيها تضعه فوق قميص زهري وأقراط دائرية كبيرة الحجم، قائلة “ستشارك أنت أيضا في العصيان، أليس كذلك؟”
الجزائر العاصمة، يوم الجمعة الرابع والعشرين للتظاهر ضد النظام
كما شددت آسيا على أن “استئناف العمل بعد العطلة الصيفية سيهز البلاد، وسترتفع الأسعار مرة أخرى، بينما سيزيد انخفاض المقدرة الشرائية، لقد أساؤوا إدارة البلاد بشكل كبير، والتهموا البلاد”. وتتعاطف آسيا مع موظفي الشركات التابعة للأقلية الحاكمة التي زُج بها في السجن، على غرار الأخوة كونيناف، وحداد: “لم يحصل الكثيرون عن رواتبهم، لأن النظام علّق دفع الأجور في انتظار تعيين مدير جديد. إن هذا أمر مشين!”
مضت ساعتان وهي تسير على قدميها وتتصبب عرقا على طول طريق ضيق للغاية، في قلب الجزائر العاصمة، بين شارع ديدوش مراد ومتحف البريد المركزي، في وسط حشد مكتظ بسبب شاحنات الشرطة، وطائرتي هليكوبتر وشمس حارقة. وتنزل أنابيب متصلة بأحواض المطبخ، على طول مباني الهوسمانية المتهالكة، لإنعاش المتظاهرين. علاوة على ذلك، أعيد تدوير العشرات من بخاخات غسيل النوافذ أو القوارير المثقوبة حتى تأخذ شكل بخاخات مياه، حتى أن أحد السكان تمكن حتى من رؤية “الأمطار” تهطل تحت نوافذه.
وسط الجزائر العاصمة، الجمعة الثاني من آب / أغسطس 2019
“دولة مدنية، غير عسكرية”، “قايد صالح، ارحل”، “سلطة قاتلة! “الشعب يريد الاستقلال”، “لقد ذقنا ذرعا بالجنرالات”، “لقد التهمتم البلاد، يا عصابة اللصوص”، “لا لسيسي جزائري”؛ تعرف آسيا كل الشعارات وأناشيد الاحتجاج، وقد شاركت في جميع أيام جمعة الاحتجاج، ما عدا “أجملها”، أي يوم 22 فبراير / شباط، باعتبار أنه “لم يكن متوقعا”.
بالإضافة إلى ذلك، تحمل آسيا العديد من اللافتات، بما في ذلك واحدة تطلب من الأجانب مغادرة البلاد. وتقصد بكلمة “الأجانب” “الشركات الفرنسية والأمريكية”. وغالبًا ما كانت تخاطب أبناء أشقائها الذين يعيشون في فرنسا قائلة: “إذا كنتم في وضع جيد في ذلك البلد، فإن ذلك بفضل أموال الجزائر. لقد سرقت فرنسا الجزائر. فقد غادرت البلاد، لكنها تركت أتباعها هنا ينهبوننا بالإضافة إلى الناهبين الوطنيين التابعين لعصابة بوتفليقة”.
عادةً ما تخرج آسيا من حيها، تلملي، للتظاهر رفقة أسرتها المكونة من شقيقتها وأبناء وبنات أشقائها. لكن لم يحدث ذلك، اليوم، بسبب الحرارة: “كان من الضروري أن تظل إحدانا بعيدا عن الشمس رفقة الأطفال” ومع “يما”، وهي الدتها، البالغة من العمر 72 سنة. وبسبب إصابتها بداء السكري وبسرطان في حالة مغفرة، لم تشارك والدتها سوى خلال جُمُعتي احتجاج فحسب. “لقد اكتفت بذلك. كما كادت تصاب بمشكلات صحية، لأن الحراك ليس مجرد حفلة شعبية ضخمة، وإنما مصدر قلق أيضًا. نحن نشعر بالقلق على أطفالنا، وأحفادنا وعلى مستقبل البلد”.
والجدير بالذكر أن آسيا في الأربعين من عمرها، وتتمثل وظيفتها في تحسين معالجة مياه الصرف الصحي في جميع أنحاء البلاد، ولديها ابن خباز يبلغ من العمر 19 سنة، رفض الدراسات المطولة حتى لا يزيد عدد المعطلين عن العمل في البلاد. وفي هذا الإطار، قالت آسيا: “كان ابني يشارك في المسيرات كل يوم جمعة مع أصدقائه ولكنهم اختاروا الشاطئ اليوم. لقد توجه الجميع إلى الشاطئ، ولدينا انطباع بأن ذلك المشهد اختفى”، مشيرة إلى هذا المبنى قيد البناء والمهجور بالقرب من متحف البريد المركزي، الذي أبهرت صورته العالم بأسره قبل بضعة أسابيع لأنه كان يعج بالناس، إلى درجة أن البعض اعتقدوا أنه كان خبرا مزيفا.
متظاهر يسير وبصحبته ثعبانين، أحدهما صغير الحجم اسمه بوتفليقة وآخر كبير الحجم يدعى قايد صالح، في الجزائر العاصمة، الثاني من آب / أغسطس سنة 2019.
تتذكر آسيا وهي تشعر بالحنين قائلة: “لقد كان ذلك زمن كان فيه المتظاهرون كثيرون”، قبل التضييق الاستبدادي الذي فرضه قايد صالح الذي استأثر في الوقت الراهن بجميع السلطات. وتفكر آسيا في الذهاب إلى الشاطئ مدة أسبوع، عبر ساحل وهران، مع والدتها وابنها، خلال نهاية الشهر، وذلك حين تنخفض الأسعار قليلاً.
سيكون ذلك متنفسا قبل تنفيذ العصيان وفرصة لمغادرة الجزائر العاصمة، وجميع ضباط الشرطة فيها الذين يشعرونها بالخوف لأنهم يذكرونها بتأجيل خدمة ابنها العسكرية حتى نهاية السنة: “نحن نشعر أنهم في صفنا، انظر إليهم وهم يتناقشون، ويصغون إلى نصائح جداتنا”. وتتساءل آسيا عما إذا كانت ستصبر أسبوعًا دون التظاهر حيث صرحت أن “الحياة ليست كما كانت عليه منذ 22 شباط / فبراير”.
بالقرب من لافتة ورد فيها التالي: “أستطيع أن أموت اليوم، أن أتلقى رصاصة غدا، ولكني أعلم أنني أنتمي إلى شعب محترم وعظيم وسيظل كذلك دوما”، كانت هناك فضيحة على وشك الحدوث حين تحرش رجل كهل، فقد نصف أسنانه، بامرأة شابة. وآنذاك، سحبتها آسيا من ذراعها قائلة: “هيا، لنذهب بعيدا، إنه رجل المخابرات السرية، أي دائرة الاستعلام والأمن، هم الذين يفعلون ذلك لإلحاق الضرر بالحراك، حتى نشعر نحن النساء بالخوف”. وتعتقد آسيا أنها ترى مثل هؤلاء الاشخاص في كل مكان في الحشد: “إنهم يرتدون ملابس مثلنا، كالفقراء، ويلفون أنفسهم بالأعلام”.
كان زوجان من مزدوجي الجنسية (فرنسيان جزائريان)، يقضيان الصيف في البلاد، بصدد التقاط صورة خلف لافتة “يتنحاو قاع”، (“فليرحلوا جميعا”). وكانت آسيا تدعوهم “بالمهاجرين”. وفي هذا الصدد، قالت آسيا مبتسمة: “لقد أصبح الحراك سياحيًا”، حتى أن شقيقها عاد من إنجلترا مؤخرًا لقضاء أربعة أيام في البلاد. وأفادت آسيا قائلة: “لقد وصل يوم الخميس. وحين ذهبت لإحضاره، كان أول شيء طلبه عندما عاد من المطار هو التوقف لشراء القبعة، والقميص، والعلم والقدح”.
بعد ذلك، توقفت المسيرة للغناء، أغنية تنشد مجد الجزائر لن تموت أبدا، مع شباب من باب الوادي. “هل ترين؟ ليست الطبقات الوسطى هي التي تتظاهر فحسب، إذ تشارك جميع الطبقات الاجتماعية، حتى أكثرها حرمانًا”، وذلك بحسب ما لاحظته آسيا بينما يشق أحد المتظاهرين طريقه ماسكا كيس القمامة لجمع فضلات المظاهرة ويقوم آخر باستعراض مع اثنين من الثعابين، أحدهما من حجم صغير يمثل بوتفليقة وآخر كبير قايد صالح.
آسيا، يوم الجمعة الثاني من آب / أغسطس سنة 2019.
من جهته، أفاد مصطفى بن فوضيل الصحفي في صحيفة الوطن والكاتب في صحيفة مصطفى، الذي يعترف بأن الحراك بدأ يتراجع قائلا: “بالنسبة لقايد صالح، وحدها الطبقات الوسطى تخرج إلى الشوارع للتظاهر، ويقصد بذلك أشخاص يدافعون عن أفكار سامة ونماذج مستوردة وأناس ليس لديهم انتماء اجتماعي في الجزائر، حسب قوله، كما لو أن الحديث عن حرية الصحافة واستقلال القضاء وحقوق الإنسان ليست سوى أفكارًا مستوردة”. وعموما، تمر صحيفة بن فوضيل بأزمة، إذ لم يتبق فيها سوى حوالي 10 صحفيين، وهو الوحيد تقريبا الذي يغطي مظاهرات يومي الجمعة والثلاثاء.
وتحدث المصدر ذاته قائلا: “لضمان الاستمرار على المدى الطويل، هناك حاجة لتوفير المزيد من الموارد المعنوية والسياسية والنفسية. كما باتت العديد من المدن في المناطق الداخلية إما تتظاهر بشكل أقل أو توقفت عن ذلك. وحتى في المعاقل، مثل تيزي وزو في القبايل، تقلصت أعداد الحشود. وفي بوفاريك، المكان الذي قدمت منه، وهي مدينة شاسعة في متيجة لم تعد هناك مظاهرات أساسا”، قبل أن يتوقف المرشح السابق للانتخابات الرئاسية، الصحفي عمار شكار، لإلقاء التحية عليه. ويمتلك هذا الصحفي موقع إنترنت قامت السلطات بحظره، بعد حظر صحيفة “كل شيء عن الجزائر” الإلكترونية وغيرها من الصحف.
محتج يحمل قائمة تضم أسماء المتربصين بالبلاد.
بعيدا، ألقينا التحية على حسان، البالغ من العمر 52 سنة، والذي لم يفوت المشاركة في أية جمعة احتجاج رفقة أبنائه الثلاثة. وقال حسان سائق تاكسي يعيش في الشارع الشعبي، فوق مقام الشهيد، إنه “كان ينبغي علينا الخروج إلى الشارع قبل هذا الوقت بكثير”، أي منذ أن تعهد بوتفليقة إلى الصينيين، قبل سبعة أعوام، بالشروع في أشغال مشروع بناء جامع الجزائر الضخم، وهو المسجد الفرعوني الجديد في الجزائر العاصمة وثالث أكبر جوامع العالم، التي لم تنته بعد.
وتابع حسن قائلا: “كان ينبغي علينا معارضة هذا الجنون، لكننا لم نكن مستعدين، لقد عشنا الكثير من الأشياء السيئة، إنه مسجد من أجل المملكة العربية السعودية، من أجل مكة، وليس من أجل الجزائر العاصمة. وعموما، هناك ملايين الجوامع هنا أساسا. فهل تعلمون تكلفة هذا المشروع؟ ستة مليار دولار كانت من شأنها أن تسمح لنا على الأقل بإنشاء مستشفى بتكنولوجيا متطورة للغاية في كل ولاية”.
الجزائر العاصمة، يوم الجمعة الرابع والعشرين للتظاهر ضد النظام.
في متحف البريد المركزي، التقينا مهند البالغ من العمر 60 سنة، الذي نزل إلى الاحتجاجات مع “جميع متظاهري القصبة في العاصمة الجزائر” كل يوم جمعة بعد الصلاة. وتحدث مهند عن حيّه الذي يجسد التراث العالمي للإنسانية والذي يستمر وضعه في التدهور، علما وأنه المعقل السابق لمؤيدي الاستقلال من جبهة التحرير الوطني، وعن منزله الذي ورثه عن والده والذي قصفته منظمة الجيش السري أيام الثورة الجزائرية وهو مغلق اليوم بسبب أعمال الترميم. ويأمل مهند في أن يغير الحراك الوضع، في حين اشتكى من “الجزائريين الجدد الذي يعيشون في القصبة ولا يهتمون بها”، مضيفا أن “تلك غلطة الدولة التي سرقت كل شيء وحتى المال الذي أرسلته منظمة اليونسكو لإجراء إصلاحات على القصبة”.
تتشكّل حشود في كل مكان حول من يدْعُون إلى إطلاق سراح سجناء الرأي. وأمام متجر “نسبرسو” على سبيل المثال، يشيد الجموع بالمحارب القديم والمعروف، لخضر بورقعة، البالغ من العمر 86 سنة والذي شارك في حرب الاستقلال وسُجن مؤخرا بسبب “تقويض الروح المعنوية للجيش”. وفي مكان آخر بالقرب من أفراد الشرطة، يطالب جمع آخر بإطلاق سراح الشاب هلال يحياوي، أصيل بلدية فرعون، الذي يقبع خلف القضبان بعد أن رفع العلم البربري خلال مسيرة 21 حزيران/ يونيو في العاصمة.
الجزائر العاصمة في الجمعة الرابعة والعشرين من التظاهر ضد النظام.
أعربت آسيا عن استيائها قائلة إن “ما يحدث عار. إن هناك أكثر من 60 شخصا في السجن بلا سبب. لقد خلّف القمع آثارا وحطّم الديناميات. كما أن الناس خائفون في الوقت الذي يسيء فيه النظام استخدام الحبس الاحتياطي”. وخلال الصباح ذاته، وفي خضم التوتر، كانت هناك المزيد من الاعتقالات في قلب العاصمة تحت ضغط كبير من قبل الشرطة. في هذا الصدد، أوضحت إحدى الناشطات في “تجمع العمل الشبابي” أن “العشرات من المحتجين تمّ إيقافهم دون أن نعرف الأسباب”. وقد طُرح نقاش حول ما إذا كان يجب فتح باب الحوار مع السلطة، فضلا عن العامل الآخر المسبب للانقسام والمتمثل فيما إذا كان يجب تنظيم انتخابات رئاسية دون مجلس تأسيسي.
في الوقت الراهن، يبدو الأمر عبارة عن “حوار شامل” للصمّ، علما وأن المحاولات الأخيرة مثلت فشلا تاما وكدليل على ذلك الهيئة التي يرغب في تأسيسها الرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح، والتي وعد بأن تكون حرة وشفافة. وقد باءت المحاولة الأولى لاختيار أعضاء هذه الهيئة بالفشل حيث أن معظم “الشخصيات الوطنية الموثوقة والمستقلة تفتقر للانتماء الحزبي والطموح الانتخابي على غرار المحامي مصطفى بوشاشي والمجاهدة جميلة بوحيرد. أما عملية الاختيار الثانية، التي فقدت ثقلها بسبب كل هذا الرفض، فتتعرض لانتقادات شديدة يتزعمها كريم يونس، الرئيس السابق للمجلس الوطني لنواب الشعب خلال الربيع الأسود في سنة 2001، حين اندلعت أعمال الشغب في منطقة القبائل بعد وفاة شاب على يد أحد الدرك.
في الواقع، فقد بن صالح مصداقيته بسبب تمسكه بمطالبه التي لم تُنفّد على أرض الواقع على غرار إطلاق سراح جميع المحتجزين من الحراك، والتقليل من حضور الشرطة، لا سيما في العاصمة، وإعطاء الحرية لوسائل الإعلام، ورحيل الحكومة الحالية واستبدالها بحكومة وفاق مؤلفة من تكنوقراط لا ينتمون لأي حزب. لكن قايد صالح، الذي يقف في مواجهته، وجه له ضربة موجعة يوم الثلاثاء متخليا علنا عن بن صالح حيث أوضح أنه لا مجال لتلبية أي من هذه المطالب التي وصفها “بالإملاءات”.
الجزائر العاصمة في الجمعة الرابعة والعشرين من التظاهر ضد النظام.
نقلت سيدة عن قريبتها، التي لا تريد الاحتجاج بعد الآن، أن الحراك “يرفض كل شيء، حتى الحوار، وسيصل إلى طريق مسدود”، وهو “مُخترق من قبل متطرفين عدميّين”. من جانبها، أكدت آسيا أن “هذه القريبة انتقلت إلى الجانب المظلم من السلطة. أخبريها أن ما قالته ليس سوى خطاب قايد صالح”. وأوضح رجل يرتدي جلابة بيضاء قائلا: “لقد صُدمنا بأزمة ثقة خطيرة. إنه أمر لا يُصدّق، فالجزائريون لا يثقون في أحد”.
كان ذلك الرأي ذاته الذي شاركه قبل يومين أنيس، طالب الصيدلة والبالغ من العمر 20 سنة، الذي ينتمي للطبقة المتُرفة حيث أن والدته طبيبة ووالده مهندس. وأفاد الشاب بأنه “ينبغي فتح باب الحوار. إن من السذاجة الاعتقاد بأن قايد صالح، هذا المجرم الذي وضع أصدقائه المجرمين في السجن لينفذ بجلده، سيُسلّمنا مفاتيح الجزائر”. وقد التقينا بأنيس في برنامج “مقهى الصحافة السياسية” في “راديو إم”، بالقرب من ساحة موريس أودان، التي تمثل القلب الثوري للعاصمة الجزائر.
كان في الغرفة 30 شخصا تقريبا من النخبة المتعلمة والمناضلة والواعية للاستماع إلى نقاش اليوم الذي جمع صحفيين وعالم سياسة وكاتب. وقد اعترفت طالبة دكتوراه في الإدارة ترتدي الحجاب أنها حضرت لتصبح “الرؤية أوضح”، علما وأنها ما تزال تشارك في المظاهرات “ولكن بصفة غير منتظمة” بسبب التعب “وأيضا لأننا لم نعد نعرف إلى أين نحن ذاهبون”.
مركز العاصمة، يوم الجمعة الثاني من آب/ أغسطس سنة 2019.
تتعالى أصوات متشائمة للغاية من قبيل “إنها ثورة دون قيادة ودون أفكار”، و”يجب الاهتمام بمن يقفون ضد الحراك والذين لا نتحدث عنهم”، تقابلها أصوات مليئة بالأمل على غرار “لقد تصالحنا مع أنفسنا وهذا أمر مهم. لقد كنا نخاف من الجميع”، و”قد أصابنا بوتفليقة بالشلل ووضعنا على حافة الموت. لقد عدنا إلى الحياة”.
من جهته، طرح أحد المتحدثين، وهو الصحفي ومدير الموقع الإخباري “المغرب إمرجينت” القاضي إحسان، نظرية مفادها: “ماذا إن كان قايد صالح، المصاب بجنون عظمة رئيس دولة مسن ويصر على عدم رغبته في الترشح للرئاسة، يرفض في قرارة نفسه الانتخابات كي يظل الرجل القوي في البلاد حتى وفاته؟” كان ذلك اليوم الذي أدركنا فيه مدى إثارة السياسة لحماس الجميع، في كل مكان، إذ أنها تمزج بين كل شيء إن كان في الشارع أو المنزل أو المقهى، وحتى في طوابير الانتظار مثلما هو الحال في متجر مشغل شبكة الهاتف المحمول “جازي”.
وبينما كانوا يجلسون على مقعد، خاطب رجل في الأربعينات من العمر يرتدي بنطلون جينز ونعلا، جارته حيث قال: “إن حال هذه الدولة ميؤوس منها، لا بد من الرحيل. لدي ابن عم درس علوم الروبوتات ولا مستقبل له هنا، فنحن لا نعرف ماذا تعني روبوتات”. وقد أجابته السيدة أن “الوضع أفضل مما كان عليه قبل بضعة أشهر. إن أطفالنا سيكبرون في بيئة مختلفة عن تلك التي كبرنا فيها دون آل بوتفليقة”. لكن الأربعيني اعترض على ذلك متسائلا: “ولكن أي مستقبل؟ نحن غير قادرين حتى على الابتسام لبعضنا البعض في الشارع أو في المترو”.
امرأة تطالب بالإفراج عن المعتقل السياسي، لخضر بورقعة، وهو من قدامى المحاربين في حرب الاستقلال.
على الطرف الآخر من المقعد، تدخلت سيدة كبيرة في السن تلبس اللون الأسود قائلة: “إن ما تقوله خاطئ. انظر فأنا أبتسم لك”، قبل أن تنقل النقاش حول “العاصمة التي باتت بمثابة مكب للنفايات في الهواء الطلق”. من جهتها، قالت سيدة أخرى ترتدي اللون الأزرق: “اذهبوا إلى القاهرة. لقد عاد أخي من هناك بعد حضوره مباراة نهائي كأس أفريقيا لكرة القدم. إنهم متحضرون تحت حكم السيسي”.
لكن السيدة التي ترتدي اللون الأسود لم توافقها الرأي على الإطلاق حيث أفادت بأن “مصر واحدة من أسوأ البلدان في العالم، حيث البؤس وعنف الدولة. سيُعذبونك إذا تظاهرت”، لتردّ عليها السيدة الأخرى بالقول: “على أية حال، لم أعد أتظاهر. الآن بعد رحيل بوتفليقة وسجن السارقين، ما الذي سنفعله؟”. وقد أجابتها جارتها: “نواصل التظاهر في حال لم ترغبي في أن يتحول قايد صالح، الذي لم ينتخبه أي أحد منا، إلى سيسي آخر”.
في الحقيقة، تمثل هذه الفكرة أكثر مخاوف آسيا، وهي عدم تجدد النظام وأن تظل الجزائر في دورة طويلة من الاستبداد والسجن. وأضافت آسيا: “حينها سأكون قد شاركت في المسيرات دون جدوى”، بينما كنا نقترب من متجر لبيع المثلجات الذي يمثل بالنسبة لها نقطة نهاية مظاهرة الجمعة حيث قالت: “أنهي هذا اليوم دائما بمثلجات بطعم الشوكولاتة الداكنة”.
مركز العاصمة، بالقرب من ساحة أودان.
المصدر: ميديابارت