في 30 يونيو/حزيران 2021، ومع انطلاق الدورة الـ52 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، تفاجأ العاملون بدار “المرايا” للإنتاج الثقافي بحضور قوة أمنية رفقة لجنة من المصنفات وضباط من جهاز الأمن الوطني وأمن المعرض، وطلبوا نسخة من ديوان “كيرلي” للناشط السياسي أحمد دومة (المسجون حينها) للإطلاع عليه وفحصه، ووجهوا أوامر شفهية للعاملين بعدم عرض الكتاب أو بيعه لحين تحديد موقفهم منه، وهو ما لم يحدث حتى انتهاء المعرض، وكان المعنى الواضح لهذه “المصادرة الملفقة” يتلخص في رد الجهات الأمنية بعدم عرض وبيع الكتاب.
بعد مرور 4 سنوات، وقبل أيام من انطلاق الدورة الـ56 من المعرض الذي يضم 1345 ناشرًا من 80 دولة حول العالم، تفاجأ الوسط الثقافي في مصر، بمنع دار “المرايا”، من المشاركة في الدورة الحالية التي تُعقد في الفترة بين 24 يناير/كانون الثاني الجاري و5 فبراير/شباط المقبل، دون تمكن أصحاب الدار من معرفة الأسباب الرسمية للمنع من المشاركة، رغم انتظام مشاركتهم منذ عام 2017، وسدادهم الالتزامات المالية في المواعيد المحددة.
نتيجة لهذه الممارسات الممنهجة التي دأبت عليها السلطات المصرية في السنوات الأخيرة، تواجه الهيئة المصرية العامة للكتاب (حكومية تابعة لوزارة الثقافة)، وهي الجهة المنظمة للمعرض، تخوفات وانتقادات حقوقية بسبب استمرار سياسية المنع والحظر والمصادرة التي تطال دور نشر وإصدارات بعينها، وتحرمها من المشاركة في المعرض، لأسباب يُعتقد أنها أمنية وسياسية، ما يفرِّغ هذا “العرس الثقافي” الذي ينتظره الجميع من ضجيجه المعتاد.
الجريمة.. كتاب
على مدار السنوات الماضية التي تزامنت مع صعود السيسي للسلطة، تعرضت دار “المرايا” لضغوط متكررة من الأجهزة الأمنية التي داهمت مقرها مرتين، وصادرت عددًا من الكتب والأجهزة، مع تحرير محاضر بمخالفات غير منطقية مثل بيع كتب صادرة عن دور نشر أخرى واستخدام برامج غير أصلية على أجهزة الكومبيوتر، وتعرض مدير الدار الكاتب السينمائي، يحيى فكري، وبعض العاملين فيها على إثر ذلك للاحتجاز في أقسام الشرطة.
رغم كل هذا، لا تعد دار “المرايا” الأولى التي تتعرض لهذا النوع من المضايقات، فقد شهدت النسخة الماضية منع حوالي 120 دار نشر من المشاركة في معرض الكتاب بأمر من الهيئة العامة، التي اعتادت – بحكم موقعها من الحكومة – عدم إبداء أسباب واضحة للرفض والحرمان الذي تكررت حالاته بشكل واضح على مدار العقد الماضي.
يعيدنا ذلك بالذاكرة إلى النسخ الماضية من المعرض، حيث شهدت دور نشر عريقة منعًا قسريًا من المشاركة، وتعرض بعضها للطرد حرفيًا، لأسباب خفية ترجع إلى اختلاف صوتها وثقافتها عن معظم دور النشر الأخرى، وعدم اتفاق سياساتها مع توجهات السلطة السياسية ورؤية أجهزتها الأمنية التي يبدو أنها تشعر بعدم الرضا تجاه توجهات إصداراتها، في حين تُترك دور نشر أخرى بلا مضايقات لأنها لا تتعارض مع توجهات النظام. كما يقول الكاتب الصحفي محمد العريان، مؤلف كتاب “تلات ستات.. سيرة من ليالي القاهرة” الصادر عن دار “مرايا”.
وعلى مدار 4 سنوات، أقصت الهيئة العامة للكتاب مكتبة ودار نشر “تنمية” الواعدة من المشاركة في المعرض كنوع من العقاب المضاعف بعد اقتحام قوة من المصنفات الفنية مقر الدار بحجة مخالفة معايير النشر، واعتقال مؤسسها، خالد لطفي، والحكم عليه بالسجن لمدة 5 سنوات أمام محكمة عسكرية في عام 2018.
واجه لطفي تهمة “إفشاء أسرار عسكرية وإذاعة أخبار ومعلومات كاذبة”، بعد نشر طبعة مترجمة من كتاب المؤرخ الإسرائيلي يوري بار جوزيف “الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل” الذي يروي قصة أشرف مروان صهر الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، رغم أن الكتاب متاح بنسختيه الورقية والإلكترونية في كل الدول العربية منذ عام 2016، وجرى تحويله إلى فيلم على منصة “نتفليكس”، وهو ما يجعل مصادرة وعقاب دار النشر الشبابية لأسباب لا تخفي من يقف وراءها.
كما طالت التضييقات الأمنية دار النشر الناشئة “عصير الكتب” التي مُنعت من المشاركة في معرض الكتاب في دورتين متتاليتين في عامي 2022 و2023، بدعوى نشرها كتب للكاتب والروائي الدكتور أحمد خيري العمري، باعتباره “إخوان”، وحوَّلها اتحاد الناشرين المصريين إلى اللجنة التأديبية بعد اتهامها بأنها “إخوانية”، ونشرها كتب “تحمل توجهات تدعم التطرف الديني”، رغم كونها من أبرز دور النشر المشاركة بفاعلية في المعرض منذ نشأتها قبل 10 سنوات، وحصولها على لقب أفضل ناشر مرتين، وجائزة أفضل جناح في معرض 2020.
ولم تكن “عصير الكتب” الهدف الوحيد لحملات التشويه والاتهام بـ”الأخونة والتورط في تمويل الإرهاب”، إذ منعت إدارة المعرض “الشبكة العربية للأبحاث والنشر” من المشاركة في نفس العام، وواجهت اتهامات بـ”التزييف والتحايل”، وواجه عاملوها في اليوم الثاني للمعرض ترهيبًا داخل جناحهم، وتمزيق اللافتات، وأُجبروا على المغادرة الفورية بطريقة مهينة مع كتب الدار.
جاء ذلك بعد إعلان مدير الشبكة العربية، نواف القديمي، قبل أيام من انطلاق المعرض إغلاق فروع مكتبات الدار في عدد من المحافظات المصرية بسبب “التضييقات الأمنية المستمرة والتحريض الصحفي والتفتيش المتكرر للمكتبات والرقابة المشددة وتعطيل شحنات الكتب”، بعد 15 عامًا من ممارسة دورها الثقافي من خلال مكتباتها المنتشرة في أرجاء مصر.
وكانت الدورة الـ55 السابقة الأكثر إثارة للجدل، فقبل يومين فقط من انطلاقها، صُدم الوسط الثقافي بالمنع التعسفي المفاجئ لدار النشر المستقلة “الكتب خان” من المشاركة في المعرض قبل ساعات قليلة من الافتتاح الرسمي، دون إبداء أسباب واضحة أو إخطار رسمي مسبق، رغم عدم استبعاد دار النشر من 12 دورة سابقة شاركت فيها، وعدم مصادرة أي كتاب للدار قبل ذلك، وفقًا لبيان نشرته مؤسّسة وصاحبة الدار كرم يوسف.
ولم تكن واقعة “الكتب خان” الأولى في ذلك العام، فقد تكرر نفس السيناريو في اليوم التالي مع دار نشر “تنوير” المصرية المستقلة التي تم حجب مشاركتها قبل يوم واحد فقط من تسلم المساحة المتفق عليها، ولحقت بها دار نشر “ديوان العرب” والمكتب المصري لتوزيع المطبوعات.
مسلسل المنع مستمر
امتدت قائمة المستعبدين من المشاركة في المعرض لتتجاوز في بعض الأحيان حدود الكتَّاب والإصدارات ودور النشر المصرية، ففي عام 2017، شهد المعرض في دورته الـ48 توقيف عناصر من الأمن المصري موظف بدار نشر لبنانية وإغلاق مكتبتي “آل ياسر ودار العلوم” لبيعهم كتبًا “تنشر فكر المذهب الشيعي”، وصادرت شرطة المصنفات 5 كتب شيعية على الفور، في تأكيد على استمرار ممارسات جهاز الرقابة على المطبوعات الذي منع قبل ذلك بعامين مشاركة 30 كتابًا، بحجة أنها تحتوي على عناوين شيعية.
وللعام الخامس على التوالي تغيب الناشرة والأديبة الفلسطينية بيسان عدوان، صاحبة دار “ابن رشد” للنشر، عن المشاركة في المعرض، بعد تغيبها عن مصر بالكامل، ففي مارس/آذار 2020، تم ترحيلها قسرًا بتهمة “الإلحاد والترويج علانية لهذا الفكر والانضمام لحركة تسعى لإسقاط مؤسسات الدولة”، وأُدرجت على قوائم الممنوعين من دخول مصر، لكن هذه الإجراءات التعسفية تخفي في الأصل خصومتها مع السلطة الحالية بسبب آرائها السياسية بشأن القضية الفلسطينية ودفاعها عن حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير.
في المقابل، وسط كل حالات الإقصاء والمصادرة المتعمدة، يبقى الجناح السعودي الأكبر في المعرض شامخًا لا يراوح مكانه، ويحظى بتغطية إعلامية مصرية خاصة دون غيره، رغم ما يتضمنه من مؤلفات الفتاوى المتشددة والمثيرة للجدل، ومع ذلك، لا يُتهم بالتطرف، ولا تجرأ إدارة المعرض على مراجعة أو سحب أو مصادرة ورقة واحدة منه.
ولم تقتصر قيود الرقابة على منع وحظر المشاركة بمعرض الكتاب، بل امتدت لتشمل إغلاق بعض المكتبات، أبرزها مكتبة “البلد” بوسط القاهرة، المملوكة للمرشح الرئاسي السابق ورئيس اتحاد الناشرين المصريين الحالي، فريد زهران، وفروع مكتبات “الكرامة”، المملوكة للمحامي الحقوقي جمال عيد، كما تحفظت السلطات المصرية في منتصف عام 2019 على 37 فرعًا لمكتبات “ألف” المملوكة لرجل الأعمال الشاب، عمر الشنيطي، الذي أُلقي القبض عليه بزعم “تمويل مخطط وتحركات معارضة للنظام”.
يُضاف إلى قرارات الإغلاق هذه، إجراءات أخرى تتعلق بمصادرة بعض الإصدارات التي يُستبعد أن تجدها على الأرفف في معرض الكتاب في نسخته الحالية، ديوان “في زحام أحمر” للشاعر المصري يونان سعد، الذي سحبته الهيئة العامة للكتاب من المعرض، وحظرت بيعه، وهو ما حدث مع كتاب “شعرية تاريخ ليبيا.. الليبيون مؤسسو الحضارة المصرية) للكاتب والباحث محمد عبد الله الترهوني.
وتضم قائمة الممنوعات من العرض أيضًا كتاب “تلخيص وتحقيق لسيرة ابن هشام” للكاتب أشرف الخمايسي، ورواية “ممر بهلر” للكاتب علاء فرغلي، ورواية “جمهورية كأن” للأديب علاء الأسواني، وكتاب “هل مصر بلد فقير حقًا؟” للخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق، والقائمة تطول، ولكل إصدار منها حكاية تكشف تعنت الرقابة وقيود الرقيب.
وبحسب تقرير أصدرته مؤسسة “حرية الفكر والتعبير” في مايو/ أيار 2023، شهدت النسخة الـ54 من المعرض مصادرة العديد من الكتب، أبرزها: “ترويض الاستبداد” و”الديكتاتورية الجديدة” للكاتب السياسي أنور الهواري، و”تاريخ الحركة الصهيونية وتنظيماتها” للكاتب محمد مدحت مصطفى، وكتاب “42 شارع القصر العيني” للطبيب خالد عبد الرحمن، والذي اتهم جهات أمنية بالتدخل لمنع حصول كتابه على رقم إيداع دون إبداء أسباب.
أما ديوان “كيرلي“، فقد أعاد مؤلفه أحمد دومة إلى المحاكمة مجددًا بعدما قضى 10 سنوات داخل السجن لتنفيذ حكم نهائي بالسجن المشدّد 15 عامًا، وأفرج عنه بعفو رئاسي في أغسطس/آب 2023، لكن في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أمر النائب العام محمد شوقي باتخاذ إجراءات التحقيق في البلاغات المقدمة من العديد من الأشخاص، بشأن نشر ديوان شعر يزعم أنه “يتضمن عبارات تحمل اعتداءً على الذات الإلهية وازدراء الأديان”، وأمرت النيابة العامة بتكليف لجنة من الأزهر “لفحص عبارات الديوان”.
ولم تكن الجهات الأمنية السبب الوحيد وراء مثل هذه الإجراءات، بل ألقت الخلافات السياسية بظلالها أيضًا، إذ وصلت أجواء النزاع على الشرعية بين الحكومتين المتنافستين في ليبيا (حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة والحكومة الموازية برئاسة فتحي باشاغا)، إلى المعرض في دورته الـ54.
وانتقل الصراع على السلطة بين الحكومتين إلى وزارة الخارجية المصرية بعدما أحالت إدارة المعرض الخلاف إليها، لتقرر استبعاد مشاركة ليبيا في هذا الحدث الثقافي عام 2023، بما في ذلك حكومة الدبيبة المعترف بها دوليًا، والتي تمارس عملها من العاصمة طرابلس، وذلك بسبب جملة من الخلافات مع نظام السيسي الداعم للحكومة الموازية – المكلفة من البرلمان – ما اعتبره البعض نوعًا من العقاب السياسي.
ومع تجدد استبعاد بعض هذه الدور أو التي لم تتمكن من التسجيل في المراحل الأولى من المشاركة في معرض الكتاب هذا العام – كما هو الحال في دوراتٍ متتالية سابقة – رغم استيفائها كل الإجراءات المعتادة، يبقى السبب الحقيقي وراء المنع مجهولًا، لكن تبقى السمة المشتركة بين هذه الدور هي الانتشار داخل الأوساط الثقافية والأدبية، وتواجدها على الساحة لسنوات طويلة وتقديمها محتوى معرفي وثقافي تقدمي وديمقراطي تضيق لها الجهات الرسمية المسؤولة عن الثقافة في مصر ذرعًا.
القراءة ليست للجميع
بخلاف التحديات السياسية، يعاني قطاع النشر في مصر خلال السنوات الأخيرة من أزمة غير مسبوقة بسبب انخفاض قيمة الجنيه المصري وشُح العملة الأجنبية، ما أدى إلى تضاعف تكاليف الإنتاج من أوراق وأحبار ومستلزمات طباعة، وانعكس بدوره على ميزانيات القراء وانخفاض المبيعات.
وتزيد الأزمة الاقتصادية التي ألقت بظلالها على أسعار الكتب من التحديات التي تواجه دور النشر الممنوعة من المشاركة في المعرض، فالمعرض يمثل الموسم السنوي للمبيعات، وغالبية إصدارات دور النشر تصدر قبيل المعرض مباشرة، وهذا يعني أن إقصاءها من المشاركة في المعرض يكبدها خسائر مضاعفة، بسبب التزامها بسداد الاستحقاقات المالية للكُتاب والعاملين.
ودفعت الأزمة المالية التي طحنت العديد من الأسر ومتوسطي الدخل وارتفاع تكلفة صناعة الكتب إلى عزوف فئة كبيرة من القراء عن الشراء، وهو ما اضطر الكثيرين منهم إلى شراء الطبعات المقلدة من منافذ بيع الكتب سواء داخل المعرض أو عبر الإنترنت وليس من مقر أو موقع دار النشر الأصلية.
وفي محاولة للتأقلم مع الأزمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة، يلجأ البعض إلى شراء الكتب بالتشارك، في حين يلجأ آخرون إلى النسخ الإلكترونية من الكتب المُقرصنة، خاصة مع تنامي سوق الكتب الرقمية وتطبيقات القراءة الإلكترونية التي أثرت على حركة البيع.
وفيما بدا إقرارًا بغلاء أسعار الكتب، أعلنت وزارة الثقافة لأول مرة هذا العام تخصيص جناح خاص للكتب الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب وباقى قطاعات وزارة الثقافة المعنية بالنشر بأسعار مخفضة، بالإضافة إلى تخصيص صالة تضم دور نشر مصرية وعربية لتوفير كتب وإصدارات بأسعار زهيدة.
ومع ذلك، لم تعد حتى الكتب التي توفرها المؤسسات التابعة لوزارة الثقافة والهيئة العامة للكتاب غير الهادفة للربح في متناول الجميع، وهو ما دفع الكثيرون إلى المقارنة بين سوزان مبارك، زوجة الرئيس المخلوع حسني مبارك، بقطاع النشر والثقافة، التي رفعت شعار “القراءة للجميع”، والإهمال الرسمي الحالي للثقافة المصرية، وإزاحتها عن رأس أولويات النظام المصري الذي يرفع في معرض هذا العام شعار “اقرأ”.