شكل الأمر الديواني الذي أصدره رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي في يوليو 2019، الذي أمر بموجبه بإعادة هيكلة الحشد الشعبي وربطه بالقيادة العامة للقوات المسلحة عن طريق وضع أطر قانونية تنظم عمله من حيث التراتبية العسكرية والتنسيق والعمل المشترك مع باقي صنوف القوات المسلحة، حالة من عدم اليقين بالمستقبل الذي ينتظر عمل هذا الكيان المسلح الذي يكتسب شرعيته من ظروف داخلية وخارجية، جعلت منه رقمًا صعبًا في المعادلة الأمنية العراقية، بحيث لم يعد بالإمكان الحد من نفوذه ودوره، خصوصًا أنه بدأ يبرر وجوده بأنه الحامي الوحيد والشرعي للمكتسبات السياسية بعد العام 2003، وهو ما قد يجعل من الصعب جدًا الربط بينه وبين أي حسابات سياسية خلال المرحلة القادمة.
وفضلًا عن موضوع إعادة الهيكلة، تحدث الأمر الديواني عن وجوب إغلاق مقرات الحشد الشعبي في عموم العراق في موعد أقصاه 31 من أغسطس 2019، وهو ما لم يحصل حتى هذه اللحظة، ومن أجل تدارك هذا الوضع، جاء إعلان وزير الأمن الوطني فالح الفياض، مهلة شهرين لإغلاق جميع مقرات الحشد الشعبي وسحب قواته العسكرية إلى خارج المدن وتسليم ملف إدارة الأمن في المناطق التي سينسحب منها الحشد الشعبي إلى الجيش العراقي.
الحشد الشعبي وعن طريق وجوده في هذه المناطق، جعل الإستراتيجية الإيرانية تتمتع بهامش مناورة إستراتيجية واسعة، مكنت إيران من التمتع بميزات واسعة للمرور إلى سوريا
ولا يخفى على أحد أن ملف وجود الحشد الشعبي في المناطق المحررة من سيطرة تنظيم داعش، هو أحد الملفات الرئيسية في الصراع الأمريكي الإيراني في العراق، ففي الوقت الذي ينظر فيه الطرف الأمريكي إلى أن وجود الحشد الشعبي في هذه المناطق، عائق إستراتيجي أمام التحركات الأمريكية في العراق، ينظر الطرف الإيراني بصورة مختلفة تمامًا لهذه المعادلة.
هامش مناورة
فالحشد الشعبي وعن طريق وجوده في هذه المناطق، جعل الإستراتيجية الإيرانية تتمتع بهامش مناورة واسعة، مكنت إيران من التمتع بميزات واسعة للمرور إلى سوريا، عبر منافذ حدودية عديدة، وتشكل محافظة نينوى إحدى هذه المنافذ المطلة على الساحة السورية عبر مناطق عديدة كسنجار وربيعة.
وما يعطي ميزة إضافية لإيران في موضوع وجود الحشد الشعبي في هذه المناطق، هو تصوير وجوده في هذه المناطق لحماية الأقلية الشيعية من مشروع إبادة قد تحصل في حالة انسحاب الحشد الشعبي من هذه المناطق، وهو ما يحصل حالًًّا في مناطق سهل نينوى (منطقة جغرافية تابعة لمحافظة نينوى شمال وغرب مدينة الموصل، تتألف من ثلاثة أقضية هي الحمدانية والشيخان وتلكيف)، التي تشهد اضطرابات أمنية على خلفية بدء الحشد الشعبي بغلق بعض مقراته ومكاتبه الاقتصادية.
إذ أشارت بعض المصادر الاستخبارية أن نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس سيزور سهل نينوى اليوم الثلاثاء، للاطلاع على ما يجري هناك، إذ وجهت بعض الفصائل الموجودة في مناطق سهل نينوى عناصرها لارتداء الزي المدني والنزول إلى الشوراع وغلق الطرق التي تربط مدينة نينوى بمدينة أربيل، فضلًا عن الاعتداء على القوات الأمنية التابعة لقيادة عمليات نينوى، وإجبارها على الانسحاب من موقع الاعتصام.
وصف النائب عن محافظة نينوى شيروان دوبرداني، ما يحدث في مناطق سهل نينوى من قطع للطرق واعتداء على القوات الاتحادية الرسمية بـ”الفوضى والتمرد” على الحكومة والدولة العراقية
وفي ضوء هذا الوضع الأمني المتصاعد، دعا محافظ نينوى منصور المرعيد، إلى التهدئة بعد قيام متظاهرين من الحشد الشعبي بالاعتداء على قوات الجيش والشرطة المحلية في مناطق سهل نينوى، وقال في بيان له: “في الوقت الذي نشيد فيه بالتضحيات الجسيمة المتحققة خلال المرحلة السابقة، والتي لم تتم لولا تضافر جهود الجميع وتضحيات المضحين، نؤكد على ضرورة تطبيق القوانين والالتزام بالتعليمات الصادرة من المراجع الأمنية العليا، حفاظًا على ديمومة النجاحات السابقة، وسعيًا لإعادة الحياة إلى طبيعتها، وفرض القانون في عموم مناطق نينوى”.
في حين وصف النائب عن محافظة نينوى شيروان دوبرداني، ما يحدث في مناطق سهل نينوى من قطع للطرق واعتداء على القوات الاتحادية الرسمية بـ”الفوضى والتمرد” على الحكومة والدولة العراقية، متهمًا النائبين في تحالف الفتح عن المكون الشبكي قصي عباس وحنين القدو، بالتأليب والتحريض ضد الدولة والخروج عن الدستور العراقي، قائلًا: “السابقة الخطيرة الأخرى تتمثل في تحريض عناصر الحشد وبعض المواطنين ضد الحكومة العراقية، من قبل النائبين قصي عباس وحنين القدو شقيق قائد لواء الشبك وعد القدو”.
وفي هذا الإطار أيضًا وصف النائب الشبكي حنين القدو في بيان بهذا الشأن، قيام رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بسحب الحشد الشعبي من السيطرات الرئيسية لمناطق سهل نينوى بالقرار الجائر، وأضاف “في الوقت الذي بدأ أبناء منطقة سهل نينوى بتنفس الصعداء، بعد عمليات القتل والتهجير الذي تعرض لها أبناء المنطقة، وخاصةً من الشبك والتركمان، تفاجأنا بقرار القائد العام للقوات المسلحة بسحب الحشد المحلي من السيطرات الرئيسية، فيما تعتبر هذه القوات مفتاح الأمان لمنطقة سهل نينوى”، كما وصف تحالف الفتح قرار رئيس الوزراء عادل عبد المهدي سحب اللواء الـ30 التابع للحشد الشعبي من مناطق سهل نينوى، إلى إدراج مسؤول اللواء وعد القدو ضمن لائحة عقوبات الخزانة الأمريكية، وضغوط واشنطن تجاه عبد المهدي، بالمجازفة الأمنية الكبيرة.
تشهد مدينة الموصل عملية هيمنة اقتصادية، وقفية، مالية واستثمارية على واقع المدينة، مما انعكس سلبًا على حياة المواطن الموصلي
إذ قال عضو التحالف محمد كريم، في تصريح له إن سحب الحشد الشعبي من مناطق سهل نينوى مجازفة أمنية كبيرة، وقد تؤدي إلى عودة عصابات داعش الإرهابية للموصل مجددًا، لافتًا إلى أن عقوبات الخزانة الأمريكية وضغوط واشنطن تجاه عبد المهدي، وراء سحب الحشد الشعبي من سهل نينوى، كون المسؤول عن اللواء أبو جعفر الشبكي إحدى الشخصيات التي أدرجت على لائحة العقوبات الجديدة.
تذمر مجتمعي وضغط أمريكي
لا بد من القول هنا إن الجهود الحكومية الحاليّة في غلق مقرات الحشد الشعبي في المناطق المحررة من سيطرة تنظيم داعش، تنبع بالأساس من سببين رئيسيين هما: التذمر المجتمعي في هذه المناطق من سلوكيات فصائل الحشد ومكاتبة الاقتصادية من جهة، إذ تشهد مدينة الموصل عملية هيمنة اقتصادية، وقفية، مالية واستثمارية على واقع المدينة، مما انعكس سلبًا على حياة المواطن الموصلي.
ومن جهة أخرى الضغوط الأمريكية، فعمليات القصف الجوي الذي تعرضت له مقرات الحشد الشعبي في أمرلي والدوز، وأوقعت خسائر مادية وبشرية في صفوف الحشد الشعبي، بالإضافة إلى الخسائر البشرية في صفوف المستشارين العسكريين التابعين للحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني، سيناريو يمكن تكراره في مناطق أخرى كالموصل والأنبار، وهو على ما يبدو توجه حكومي للتخلص من هذا الحرج الكبير الذي وضع السيادة العراقية على المحك، وتحديدًا عندما تكون “إسرائيل” المنفذ!
إن الوجود العسكري الأمريكي في بعض تخوم ومركز مدينة الموصل، يرتبط بصورة مباشرة بوجود قوات الحشد الشعبي في هذه المدينة، فهناك ضغوط أمريكية كبيرة على الحكومة العراقية بضرورة عدم وجود فصائل عراقية مقربة من إيران، بالقرب من مناطق وجود القوات الأمريكية، وهو ما يجعل المشهد الأمني في هذه المدينة معقدًا بعض الشيء، بسبب الرفض المتبادل من الطرفين لوجود الآخر.
يمكن القول إن ملف إنهاء وجود فصائل الحشد الشعبي في مناطق سهل نينوى، رغبة أمريكية أكثر من كونها عراقية
فالولايات المتحدة الأمريكية تدرك أن سحب قوات الحشد الشعبي من هذه المناطق، يعني توجيه ضربة قوية لبعض وكلاء إيران في العراق، وذلك بسحب يدهم من أهم مورد اقتصادي ومالي يدر عليهم ملايين الدولارات سنويًا، في ضوء انقطاع الدعم المالي الإيراني، بسبب العقوبات الاقتصادية على إيران، هذا بالإضافة إلى إبعادهم عن مناطق وجود القوات الأمريكية على الحدود العراقية السورية التي تشهد حضورًا كثيفًا لهذه الفصائل هناك، وتمتع بترابط جغرافي مع فصائل أخرى داخل الساحة السورية، وهذا يعني استمرار التهديد الأمني ضد “إسرائيل”.
ولهذا يمكن القول إن ملف إنهاء وجود فصائل الحشد الشعبي في مناطق سهل نينوى، رغبة أمريكية أكثر من كونها عراقية، بل وصل الأمر إلى أن يتحدث عن هذا الموضوع السفير الأمريكي في العراق!
والجدير بالذكر أن القوات الأمريكية تعمل لبناء قاعدة عسكرية في مناطق سهل نينوى، لتكون استكمالًا لسلسلة من القواعد العسكرية التي تنتشر عبر سلسلة أرضية متواصلة من مناطق إقليم كردستان العراق والموصل، وصولًا إلى الحدود السورية.