لم تتوقف الجماعات البشرية عن التنقل من مكان لآخر يومًا ما، بداية من انتشار الإنسان من إفريقيا كما تدلل النظريات، وحتى يومنا الحاليّ، ووقت كتابة هذه الكلمات أيضًا.
بنظرة ضيقة جدًا لمحيطنا الجغرافي العربي، نستطيع أن نرى ونلمس كم الهجرات القسري منها والخياري ربما، وبتوسيع المحيط الذي نتأمله، نرى حركات الهجرة دائمة ومستمرة، من الدول الإفريقية والبلاد العربية لأوروبا ومن القارة الأمريكية للولايات المتحدة وآخرون عالقون في الطريق، ونازحون من مناطق مهددة لمناطق أخرى أقل تهديدًا في نفس نطاق دولهم الحدودي، وهناك من يدفع عمره ثمنًا للرحلة التي لا تكتمل أبدًا.
تتعدد أشكال الحركات الجماعية والفردية وتتباين أسبابها، ونظن أن الوضع المأزوم العارض الذي نمر به في منطقة الشرق الأوسط هو الدافع الرئيسي، ولكن الحقيقة أن السبب الأكبر مستمر ودائم ومتغير، تدمير النظام العالمي لبلاد بأكملها بلا التفات للمتضررين من أهليها، وجور قوى رأس المال على المناطق والدول الأكثر استضعافًا بسبب أهداف اقتصادية وتحالفات سياسية.
تتباين المصطلحات والحالات وتظل الأرقام حاضرة وملموسة وتخبرنا أنه أكثر من 68.5 مليون إنسان على الطرقات في العالم. فماذا يحدث تحديدًا؟
تتدهور الأحوال الاقتصادية وتقل فرص العمل أو تكاد تنعدم. يضرب الاحتباس الحراري العالم وتتأثر الدول الأكثر فقرًا ويقل الإنتاج الزراعي ومن ثم الصناعي. تتنازع الأعراق أو أصحاب الديانات المختلفة أو حتى المذاهب فتندلع الحرب الأهلية. يثور شعبًا على حاكم مستبد ويخرج للشوارع مطالبًا بإسقاط النظام فيقتل النظام أبناءه. تتدخل دول لمساعدة أنظمة على حساب الشعوب، ولتقوية شوكة فصيل على آخر، ولنهب كل ما يمكنهم نهبه من الثورات الطبيعية لدولة ما، ولشراء أراضٍ من أخرى، أو وضع يد، أو إرسال مرتزقة لتسيير النزاع في جانب بدل آخر، ولا تنتهي الفرضيات ولا المشاهدات لما يحدث بالفعل فضلًا عما يخبرنا به التاريخ. والنتيجة؟ ارتحال وشتات ومعاناة اغتراب.
فلسطينيو الشتات هم الشتات الأول والأكبر الذي ارتبطت به الكلمة في أذهان العرب لسنوات طويلة
ارتبط الارتحال بالبداوة، حيث يقول العرب ارتحل الجمل: أي جُعِل عليه “الرحل” وهو ما يوضع على ظهر الجمل، ولما ظهرت المدن وكبرت، استقر الأمر قليلًا، والتف الناس حول الزراعة والصناعة وقلت الحركة، وكانت وسائل السفر وحتى الرغبة فيه محدودة.
تغير الزمن، وعاد لفظ الارتحال لتصدر الأدبيات والدراسات مرة أخرى بعد ظهور الشركات العابرة للقارات، في معنى جديد للحداثة تكلم عنه زيجمونت باومان باستفاضة في سلسلة السوائل التي خاضت بتفصيل بديع في قلب الحياة التي كانت صلبة ثم سالت وسالت معها المعاني التي ألفناها، بداية من الحداثة التي قامت حول المصانع والماكينات الصلبة الثابتة في الأرض، والحب والعلاقات المستمرة الثابتة في القلب ومرورًا بالخوف والشر والرقابة، في طرح لا يعطي لقطة ثابتة لصورة ساكنة لكن شرحًا للحداثة في مسيرتها وتحولاتها.
فلسطينيو الشتات هم الشتات الأول والأكبر الذي ارتبطت به الكلمة في أذهان العرب لسنوات طويلة، بدأ الأمر باللاجئين الفلسطينيين ممن تم تهجيرهم في العام 1948، ثم مئات الآلاف خلال حرب 1967، هاجر الكثيرون خلال الحرب، وهاجر آخرون بدافع البحث عن فرص عمل وتعليم أفضل أو هربًا من اضطهاد الاحتلال.
لم يتوقف الأمر عند الفلسطينين، فبدأ العراقيون في النزوح والهجرة والترحيل كجماعات كثيفة – رغم حداثتها مقارنة بالهجرات اللبنانية أو السورية الأولى التي كانت في أوجها في أواخر القرنين الثامن عشر والتاسع عشر -، لأسباب مختلفة، منها الصراعات الداخلية والطائفية أو حين احتل تنظيم الدولة الإسلامية نحو ثلثي الأراضي العراقية واستهدافه لمجموعات بأكملها، وبالطبع الحروب، بدءًا من حرب العراق وإيران بين العامين 80 و88، وانتهاءً باحتلال العراق عام 2003.
تواريخ وأحداث وأفراد تسافر ووجهات جديدة تتموضع على خريطة الهجرات واللجوء، وأماكن تسحق بالكلية تحت قصف الطائرات أو تباد بالكيماوي، تحالفات تتكون وأخرى تفض، والخاسر الأساسي هو الشعوب. منذ 2011 وأزمة اللاجئين تتصدر الصحف والدراسات والأوراق العلمية، ولا تخلو منها الأخبار على وسائل التواصل الاجتماعي، فأزمة سوريا تحولت لأزمة اللاجئين، وصار الجدل العالمي على حصص الدول من اللاجئين، وعبورهم للحدود والبحر لأوروبا أو غرقهم فيه، والمساعدات التي يتلقاها لاجئو ألمانيا والتجارة التي ينشئها من استقروا في مصر والالتباس بشأن مساعدة تركيا للسوريين من عدمها وورقة يلعب بها السياسيون لكسب أصوات في الانتخابات.
لا تمنح تركيا حق اللجوء كدول مثل ألمانيا مثلاً، ولكن تمنح الواصلين لأراضيها بطاقات لجوء ضمن قانون الأجانب والحماية المؤقتة عن طريق التسجيل لدى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين لهيئة الأمم المتحدة
ليست هذه المرة الأولى التي يهاجر فيها أعداد غفيرة من أهل سوريا في حقبة واحدة، كان الشتات الأول شتات مهاجرين، والثاني شتات لاجئين. يتحدث ملف سوريون حول العالم الذي طرحته مبادرة الإصلاح العربي في 2018 عما يقارب 18 مليون سوري يعيشون في الخارج منذ سنوات وربما عقود، رحلوا عن سوريا على دفعات واستقروا في أماكن مختلفة حول العالم منها البرازيل التي تحتل المرتبة الأولى في الدول الموجود بها شتات عربي قديم بدأ أيام الخلافة العثمانية واستمر لما بعد الحرب العالمية الأولى.
تتغير الخرائط الديموغرافية بتغير تحالفات القوى، فلو كانت الخلافة العثمانية طاردة للسوريين في وقت ما، فمن المفارقات اللطيفة أن أصبحت تركيا اليوم الدولة المستقبلة لأكثرمن ثلاثة ونصف مليون سوري منذ اشتعال الأزمة في 2011، ونزوح أكثر من 13 مليون سوري عامة، -نزوح داخلي وهجرات -، مما يمثل 60% من عدد السكان قبل الحرب.
لا تمنح تركيا حق اللجوء كدول مثل ألمانيا مثلاً، ولكن تمنح الواصلين لأراضيها بطاقات لجوء ضمن قانون الأجانب والحماية المؤقتة عن طريق التسجيل لدى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين لهيئة الأمم المتحدة، كما أنها لا توفر برامج اندماج للمهاجرين عامة، مما يصعب على الأجانب – السوري في هذه الحالة -، الانخراط في المجتمع والشعور بالرغبة في الانتماء والتهديد الدائم بعدم الاستقرار، وهو الأمر الذي تحققت نبوأته بعد انتخابات المحليات الأخيرة التي ساهمت في تعالي نبرة العنصرية ضد السوريين وكذلك حملة ترحيل السوريين “المخالفين” لإدلب والمستمرة لشهرين حتى الآن.
يعاني الجميع، أطفال وبالغون، من كرب ما بعد الصدمة في حال الحروب والقصف والموت والألم، وتظل هذه الندوب مؤلمة دومًا، ولا يخفف منها هجر الوطن لا سيما الهروب منه. آلاف الحكايا الأليمة تسمعها وتقرأ عنها. أطفال مشوا على الأقدام عبر الحدود للوصول لتركيا طلبًا للأمان، وعائلات فقدت كل واقعها المجتمعي التضامني الذي كبروا بينه مضطرين للعيش في بلد لا يفهمون حتى لغتها، فالأمر ليس سهلًا، وخاصة لو كان المجتمع المحيط غير واعٍ بأهمية الدعم النفسي أو أن المصاب نفسه لا يستطيع الوصول للخدمة، إما لعدم توافرها مجتمعيًا أو لأن ظروفه المادية تمنعه من الحصول عليه.
على سوريي تركيا العمل على خلق شتات جديد بها، نرى ذلك في التضمن الذي يقدمه أصحاب الأعمال الحرة في اشتراط توظيف السوريين فقط
تقول إليزه بتنبندر إن نتائج صدمة الحرب والانهيار الاقتصادي لا يؤديان فقط إلى فقدان آفاق مستقبلية شخصية، بل من الممكن أن يتحول الأمر إلى حالة اكتئاب جماعية عامة، وتؤكد بتنبندر أن الوضع كان سيئًا أيضًا على الأفراد في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن الفارق أنهم كانوا ألمانًا في ألمانيا يعملون لأجل إعادة بناء الوطن، فهل ينجو أبناؤنا من مصير التيه المستمر وهم يكبرون في بلاد بعيدة عن بلادهم وفي أوضاع سيئة اجتماعيًا، حيث هم مهددون بالطرد من السكن لعدم القدرة على توفير الإيجار أو الطرد من البلد لمرة ثانية عائدين للمجهول، ولا وجود لوطن نكبر فيه ونعمل من أجله؟
على سوريي تركيا العمل على خلق شتات جديد بها، نرى ذلك في التضمن الذي يقدمه أصحاب الأعمال الحرة في اشتراط توظيف السوريين فقط، – مما يفجرغضب المصريين في تركيا في أحايين كثيرة، الذين ليسوا في حال ممتازة أيضًا -، ولكن يبدو أن الأمر ما زال مبكرًا على أن يكون الشتات السوري بتركيا مجتمعًا داعمًا ومستوعبًا لمشتتين آخرين، فثمانية سنوات من التخبط ليست أبدًا مقياسًا وكل ما يحصل أننا ندون بعض المشاهدات، ونسترعي بعض الانتباه، عسى أن نخرج جميعًا من الأزمة بأقل الضرر.