عام 1989 شهدت الولايات المتحدة الأمريكية إحدى القضايا التي هزت الرأي العام في العالم كله، وعكست مدى عنصرية وتعسف الحكومة الأمريكية وجزء كبير من شعبها، خاصة البيض منهم تجاه النسبة المضطهدة الموجودة بينهم، وهم الزنوج، وهي قضية سنترال بارك التي تتحدث عن اغتصاب سيدة بيضاء، كانت تمارس رياضة الجري في إحدى ليالي تلك السنة بالقرب من منطقة سنترال بارك، وبعد عملية الاغتصاب تم العثور على السيدة ملقاة في حالة إغماء استمرت لـ12 يومًا كاملين.
في تلك الأثناء كان هنالك مجموعة من الأولاد الزنوج الذين يثيرون الشغب في إحدى الحدائق العامة بنفس المنطقة ونفس الليلة، وتم الاشتباه بمشاركتهم في هذه الجريمة وقُبِض عليهم ثم بدأ التحقيق معهم.
كانت تلك القضية من أشهر القضايا في أمريكا أواخر الثمانينيات، بل وفي التاريخ الأمريكي كله، لأنها أوضحت لنا عدة حقائق لم نكن لنعرفها بسهولة دون حدوث مواقف كهذه، ولأهمية تلك القضية، صورت شركة نيتفلكس مسلسلاً دراميًا قصيرًا مكونًا من أربع حلقات لتجسيد تلك القضية كما حدثت بالفعل، وكانت النتيجة إخراج واحد من أروع المسلسلات القصيرة المؤثرة في تاريخ الدراما، من أعمال المخرجة الأمريكية المتميزة أفا دي فيرني المتخصصة في مواضيع التفرقة العنصرية وتعسف القانون الأمريكي مع الزنوج بأمريكا.
كان لكل حلقة، رغم أنها حلقات متتالية على شكل دراما تسجيلية في مسلسل واحد، طابع خاص وسمة مميزة ومتصاعدة، فأصحاب القضية الحقيقيون ذُكر اسمهم الحقيقي في المسلسل وكانوا خمسة فتيان لا يتعدى عمرهم الـ15 وهم: أنترون وكيفن ويوسف سلام وكوري وايز، من ذوي الأصول الإفريقية، وخامسهم ريموند سانتانا من أصل مكسيكي، وكان كوري الوحيد بينهم الذي بلغ 16 عامًا، أي لم يعد طفلًا بحكم القانون.
جاءت الحلقة الأولى من المسلسل تتحدث عن حياة الأطفال وما حدث في أثناء القبض عليهم ومعاناة الأهل في الدفاع عنهم، والحلقة الثانية شهدت المحاكمات الظالمة للأطفال وتهديدهم إن لم يعترفوا بالواقعة، إلا أن الأطفال شهدوا على أنفسهم زورًا، وتم الزج بهم في السجن ظُلمًا، وفي الحلقة الثالثة نشهد تطورًا في الشخصيات، فبعد قضائهم لسنوات السجن وخروجهم للعالم رأينا الأبطال وهم كبار وكيف بدأوا في مواجهة المجتمع الرافض لهم حتى بعد تحقيق العقوبة التي لم يستحقوها، كما جاءت الحلقة الرابعة والأخيرة مميزة للغاية فكانت مخصصة لأحد الأبطال المجني عليهم، تتبعت قصة سجنه منذ البداية وهو طفل حتى كبر وأخذ يواجه رفضه، إلى أن تأتي النهاية مع باقي الشخصيات.
من الضروري ذكر دور ترامب التاريخي في هذه القضية، فقد كان بجانب عدد من رجال الأعمال في ذلك الوقت يصعدون الرأي العام ضد هؤلاء الفتية، بالمطالبة بتوقيع أقصى العقوبات عليهم وحتى الآن لا يزال يصر أنهم مذنبون.
صور لنا المسلسل كيفية اضطهاد طبقة الزنوج في المجتمع الأمريكي وكيف تتم معاملتهم، فكانت المحققة تتعمد إثبات تهمة الاغتصاب عليهم، ورغم عدم تطابق أي شيء في الجريمة مع أدلتهم، فإنهم أُجبروا على التحدث، وتم ذلك عن طريق الإغراء، إذ قال المحققون لهم إن اعترفتم ستذهبون إلى بيوتكم، إن اعترفتم سنقف بجانبكم، وبعد ضرب ومعاناة اعترف كل من الأطفال مجبرين، ورغم تناقض الكثير من الأدلة واكتشاف عينة من السائل المنوي بجانب السيدة المُغتصبة، التي لم تتطابق مع أي من الأطفال المتهمين فإن القضية لحقتهم وأودينوا، وحُكم عليهم بالسجن من 12 إلى 14 سنة.
بجانب الظلم والمعاملة السيئة التي نالت تلك الأطفال وأهاليهم من البداية، فإن المسلسل أظهر لنا جانبًا واقعيًا آخر وقاسيًا في قصة هؤلاء الأطفال، وهو الفقر والجهل، فقر طبقة الزنوج في المجتمع الأمريكي وكيف أن حياتهم بائسة مقارنة بباقي الأمريكان، فرأينا كيف عجز أولياء أمور إحدى الأسر عن استئجار محامٍ ماهر، لعدم وجود نقود كافية، فبدلًا من استئجار محامي قضايا اغتصاب استئجر محامي قضايا طلاق لأنه الأرخص!
وكشف لنا مشهد مؤثر في المسلسل مدى جهل أسرة أخرى، فأخذ والد أحد الأطفال بضرب ابنه وحثه على الاعتراف، خوفًا عليه، قائلًا إن ما تريده الحكومة ستفعله كيفما أرادت، بل وضرب ابنه ليعترف بما يريده المحققون، رغم أنه يعلم براءه ابنه، وظهرت جوانب أخرى تدل على عجز الأسر ماديًا، فالاتصال التليفوني بالأبناء داخل السجون يكلفهم مبالغ لا يقدرون عليها بجانب الزيارات الدورية وطلب كل طفل بعض المال ليساعده في سجنه لشراء بعض الطلبات البسيطة.
لم تنته المعاناة، ليس داخل المسلسل فقط بل في الحقيقة أيضًا، فبعد خروج الفتيان من السجن، وجدوا أن الحياة قضت عليهم بالسجن حتى وهم في الخارج، فهم تقريبًا بلا أي مستقبل، فلم تسمح القوانين الأمريكية وقتها لمن تورطوا في أي قضايا بالعمل في مهن معينة مثل التدريس أو التمريض أو المحاسبة وغيرها، بجانب أن أي وظيفة يتقدم إليها المجني عليهم كان يتم السؤال عن موقفهم الجنائي الذي كان يُلاقى بسلبية في النهاية، فأصبح الطريق مسدودًا أمامهم ولم ترحب بهم أي وظيفة بجانب الضغوطات العائلية والسمعة السيئة التي اكتسبوها بسبب قضيتهم، فحتى أهالي بعض الأطفال كانوا ينعتون أحد الناجيين بالمغتصب ويسخرون منه.
وظلت المعاناة لسنوات طويلة داخل وخارج السجن، إلى أن ظهرت الحقيقة واعترف “ماتياس رييس” المغتصب الحقيقي الذي كان موجودًا بالسجن وقتها، وتم التأكد من صحة أقواله وإطلاق سراح المدانين، وبعد قضايا وتسويات حكمت المحكمة لهم بتعويض مالي، هو الأبرز في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وكان قدره 41 مليون دولار، وتم تخليد الواقعة في التاريخ لتصبح واحدة من أقسى الوقائع والحوادث ظلمًا في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
قصة المسلسل ليست جديدة أو قدمت تفاصيلاً لم تكن موجودة في الواقع، وعندما تقرأ الواقعة الحقيقية لن تجد شيئًا مختلفًا عما ظهر في المسلسل، لكن التصوير الدرامي الممتاز كان السبب في إشعال حرارة القضية مرة أخرى، قدمت نيتفلكس مسلسلاً عظيمًا يجسد المأساة الحقيقية بشكل واقعي أكبر، مما أعطى تعاطفًا أكبر وتضامنًا مع المجني عليهم، بجانب التصوير الرائع الذي عودتنا عليه نيتفلكس، بالإضافة إلى لمحة عن الحياة في نهاية الثمانينيات التي ظهرت في المسلسل، وكان طاقم المسلسل التمثيلي موفق جدًا في أدائه خاصة الأطفال، كما أضافت أغاني الراب المدرجة في المسلسل نوعًا من الواقعية والإحساس بعمق المشكلة.