في الوقت الذي يمثل فيه العيد مناسبة سنوية عامرة بالسعادة والفرح ودفء العلاقات العائلية والتلاحم الأسري بين أفراد المجتمع، يتخلله طقوس تبعث على البهجة والأمل، وتطلق الأرواح إلى آفاق رحبة من الانسجام والألفة، إذ به على جانب آخر ربما يحرك الحنين إلى ماضٍ ليس بالبعيد، يعمق آلام أرواح حُبست في سجون الهجر والترحال.
“عيد.. بأي حال عدت يا عيد”، لعل هذا هو الشعار الأبرز والأعم الذي يرفعه اللاجئون في مختلف دول العالم، حيث لا وطن ولا أهل، بعضهم ترك أسرته في بلده الأصلي وفر هاربًا من ويلات صراعات دمرت الأخضر واليابس، ليقبع وحيدًا في بلاد لا يعلم عنها إلا اسمها فقط، وأناس يختلفون عنه في اللغة والدين والثقافة والعادات.. فيشعر بالوحدة وإن كان محاطًا بالكثير.
ورغم وجع الغربة وآلام الفراق ونيران الشوق والحنين للوطن الأم، يحاول اللاجئون لملمة ما يمكن من عاداتهم وتقاليدهم الموروثة في العيد، لئلا ينسوا هويتهم، بعضهم قد يمر عليه اليوم كغيره من الأيام، وآخرون يرفضون رفع الراية البيضاء، فتراهم يتسولون الفرحة على موائد رفقائهم وذويهم، سواء من كانوا معهم في الغربة أم من بقوا تحت نيران القصف، كل يؤمل نفسه باللقاء القريب، ويقاوم لأجل هذه اللحظة التي باتت الأمل الوحيد للكثيرين بعدما تبددت أحلامهم الأخرى على صخور الصمت الدولي والتخاذل القومي.
التذكير بالهوية
“لم يعد الشعور بفرحة العيد كما كان، فالوضع أصبح مقصورًا عليّ وأسرتي الصغيرة، أما بقية الأهل ففي حلب، ولم أستطع إحضارهم إلى مصر، الشعور بالغربة قاتل، لكننا نحاول أن نتعايش فلم يعد أمامنا خيار آخر”، بهذه الكلمات جسد جاسر الحمصي، طباخ سوري، مقيم في منطقة الهرم بمحافظة الجيزة في مصر، معاناته السنوية مع كل عيد.
الحمصي أضاف في حديثه لـ”نون بوست” أن العيد في بلاده شيء آخر، فاجتماع العائلة والأصدقاء صبيحة هذا اليوم، وتبادل التهاني والتبريكات، والتنقل عند العائلات، وتناول الأطعمة المصنوعة خصيصًا لهذه المناسبة، فضلاً عن التنزه في الأماكن العامة، كل هذه طقوس فقدناها هنا في مصر رغم مشاعر الدفء النسبية التي نحياها وسط المصريين.
يخرج اليمنيون في صباح العيد إلى الحدائق العامة التي تتميز بحضورها اليمني الكثيف لا سيما في منطقة الدقي بمحافظة الجيزة، حيث تنتشر حلقات الرقص الشعبي بالخناجر “الجنابي”
ويحرص الخمسيني السوري على تذكير أطفاله بهوية بلاده قائلاً: “مع كل عيد لا بد من ممارسة الطقوس السورية مع أبنائي حفاظًا على الهوية السورية، فمهما طال البعاد لا بد من العودة للوطن الأم، حينها لا بد أن يكون كل شيء على ما يرام، الغربة لن تستطيع أن تجهض هويتنا أو تؤثر عليها”.
أما عن طقوس الاحتقال بالعيد في مصر فأوضح أن معظمها متشابه إلى حد ما مع المجتمع السوري، حيث شراء الأضحية والذبح صبيحة يوم العيد، وتوزيع جزء منها على الأهل والجيران، ثم تعد النساء الأطعمة والحلوى السورية المعروفة في العيد، على رأسها الفتة السورية بأنواعها المختلفة، مثل الفتة بالزيت أو الفتة بالسمن أو باللبن.
ويختتم الحمصي حديثه قائلاً: “نشعر بالغربة كلما مر علينا العيد هنا بعيدًا عن بلادنا، لكن إخواننا المصريين خففوا من وقع هذا الشعور بما لقيناه فيهم من كرم ضيافة وحسن استقبال”، وتابع “رغم محاولات التشويه التي يشنها البعض ضد السوريين في مصر، فإن للشعب رأي آخر، فهو في غاية التعاطف مع قضيتنا وعلى يقين أن النصر قادم مهما طال أمد الظلم والبطش”.
يحرص السوريون على الاحتفال بالعيد رغم الغربة
التمسك بالتقاليد
الوضع ذاته لا يختلف كثيرًا مع اليمنيين المقيمين في مصر، فمع إطلالة فجر يوم العيد، ينتقي أبناء اليمن من طلاب ومقيمين أفضل ملابسهم، لا سيما الملابس التقليدية الشعبية، فالرجال يلبسون قميصًا مكممًا، طويلًا إلى أسفل القدمين، هو الحال في بعض المناطق العربية، إضافة إلى لبس الشال وكوت البذلة، لتكتمل الهيئة اليمنية الأصيلة في شكل تقليدي عريق.
يخرج اليمنيون في الصباح إلى الحدائق العامة التي تتميز بحضورها اليمني الكثيف لا سيما في منطقة الدقي بمحافظة الجيزة، حيث تنتشر حلقات الرقص الشعبي بالخناجر “الجنابي” في مختلف المناطق التي يقيم فيها يمنيون، وهي رقصة شعبية توحي بالاستعداد البدني وعناوين الاحتفال.
“الغربة لم تمنعنا من إحياء طقوس العيد حتى وإن كنا خارج أوطاننا”.. هكذا أكد محمود طاهر، الطالب اليمني الذي يدرس بجامعة القاهرة، مشيرًا أنهم حريصون جدًا على التمسك بتقاليدهم وتراثهم في العيد، ومن تلك المظاهر ترديد الأغاني الشهيرة التي يرددها اليمنيون في العيد منها: “آنستنا يا عيد” وهي التي غناها العديد من الفنانين في اليمن، وتعد عنوانًا رئيسيًا لاكتمال تفاصيل العيد وأفراحه.
وأضاف طاهر الذي يقيم بمنطقة فيصل بالجيزة لـ”نون بوست” أن العيد في مصر يتشابه إلى حد كبير مع طقوسه في اليمن، حيث اللقاءات العائلية والتنزه وإحياء العادات التراثية التي يصمم اليمنيون على التمسك بها مهما كانت العراقيل، كاشفًا أن كل يمني مقيم في المحروسة يؤمل نفسه بين الحين والآخر للعودة إلى بلاده، وحينها لن يكون فقد شيئًا مما خرج به.
تبادل التهاني بين اليمنيين المقيمين في مصر في العيد
الغربة أضاعت الفرحة
وفي أوروبا ربما يكون الوضع أكثر مأساوية، فما بين غمضة عين وانتباهتها يجد اللاجئ نفسه وحيدًا، لا أهل ولا وطن، وسط شخوص يختلفون معه في اللغة والدين والثقافة، ويصبح التعامل معهم في حد ذاته مشقة تضاف إلى مشقات الغربة وجراح البعاد، تتعزز بصورة أكبر في المناسبات العامة، كالأعياد ورمضان وغيرها من المحافل التي تتطلب مشاركة اجتماعية وأسرية مفتقدة في عالمه الجديد.
“كيف لي أن أفرح وأنا وابني هنا في ألمانيا، وزوجتي وباقي الأولاد في سوريا”.. هكذا علق شريف السقا أحد اللاجئين السوريين الموجودين في ألمانيا على طقوس الاحتفال بالعيد في الغربة، مضيفًا في تصريحات أدلى بها لـDWعربية أنه حاول أن يخفف عن ابنه سعيد مرارة الغربة، بإعطائه بعضًا من النقود (عيدية) إلا أن الصغير ذا التسع سنوات لم تبد عليه الفرحة، فهو لا يعرف أين سيصرفها كما أنه يفتقد أشقاءه ليلعب معهم، كما يقول.
يسعى اللاجئون إلى التشبث بعاداتهم وموروثاتهم رغم الموج العاتي للتغريب الذي يتعرضون له ليل نهار، وتبقى المناسبات العامة فرصة كبيرة للتمسك بهذه الطقوس
لم يتمكن شريف من اصطحاب جميع أفراد عائلته معه، فبحسب قوله، فإن كل مدخراته التي أعطاها لأحد المهربين مكنته هو وابنه فقط من السفر عن طريق تركيا، ويقول شريف: “أصبح كل أملي الآن أن أنهي أوراقي، وأحصل على إقامة من أجل تقديم طلب للم شمل عائلتي التي تركت ورائي”.
ورغم الوضع المؤلم فلم يحل دون الاحتفال بالعيد، حيث يقوم بعض المتطوعين بجمع تبرعات من العرب والمسلمين الموجودين هناك لتنظيم حفل صغير بمناسبة عيد الأضحى لإدخال البهجة على قلوب اللاجئين وأطفالهم، حيث يتخلل الحفل تقديم هدايا للصغار، وتقديم أطعمة وحلويات بجانب بعض العروض الفنية التراثية.
خروج للمتنزهات والميادين من اللاجئين في أوروبا
ومن هولندا، يقول أحمد عثمان، إن الاحتقال بالعيد هنا يكون في أضيق الأحوال، فإحساس الغربة في حد ذاته كفيل وحده أن يفقد الفرحة بهذا اليوم، لافتا إلى أنه رغم كثرة الجالية العربية والمسلمة في أمستردام ففي الغالب يمر هذا اليوم على الكثيرين كأي يوم آخر، وبعضهم ربما يعمل في هذا اليوم ولا يكلف نفسه حتى الحصول على إجازة.
ويضيف عثمان لـ”نون بوست” أن بعض المسلمين هنا يتجمعون في المراكز الإسلامية ويحيون العيد بدءًا من الصلاة مرورًا بالتزاور العائلي بين الأسر العربية والمسلمة، بجانب الخروج للمتنزهات العامة والحدائق، مع تبادل الأطعمة التقليدية، كل حسب بلده، فتجد ما يشبه بمائدة كبيرة عليها كل الأطعمة: المصرية والسورية والفلسطينية، وهكذا.
وهكذا يسعى اللاجئون إلى التشبث بعاداتهم وموروثاتهم رغم الموج العاتي للتغريب الذي يتعرضون له ليل نهار، وتبقى المناسبات العامة فرصة كبيرة للتمسك بهذه الطقوس، بما يصبرهم على وجع الفراق لحين العودة إلى أوطانهم، حينها سيكون لكل فعل طعم ومذاق مختلف، وحتى هذا اليوم لن تستطيع الغربة كسر هويتهم الراسخة في قلوبهم وعقولهم.