يمثل ظهور تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” أحد تحديات الإدارة السورية الجديدة بعد سقوط النظام البائد، في ظل ضعف أداء قوى عسكرية وأمنية ضمن وزاراتي الدفاع والداخلية، نتيجة عدم توصل الفصائل إلى صيغة نهائية بغية تشكيل جيش سوريا الجديد، إضافةً إلى اتساع رقعة السيطرة الجغرافية وانخفاض الكوادر البشرية.
في الواقع تراجعت هجمات التنظيم منذ انطلاق عملية “ردع العدوان” لكنها عادت مجددًا بعدما أحبطت الاستخبارات العامة السورية بالتنسيق مع الاستخبارات الأمريكية، وجهاز الأمن العام عملية تفجير كانت تستهدف مرقد السيدة زينب في العاصمة دمشق في 11 يناير/كانون الثاني.
سيطر مقاتلو “داعش” على أسلحة وذخائر ومعدات من قطع عسكرية انسحبت منها قوات النظام السابق، مستغلين فراغ مواقع عسكرية مطلة على جبهات البادية السورية ما دفع التحالف الدولي إلى تكثيف التنسيق الاستخباراتي والعملياتي مع إدارة دمشق بغية مكافحة نشاطات وهجمات داعش في تعاون مشترك في الحرب ضد “داعش”.
تنسيق استخباراتي ثنائي
شاركت الحكومة الأمريكية معلومات استخباراتية مع قيادة “تحرير الشام” التي تتزعم إدارة دمشق في تحول ملحوظ بنمط العلاقة والتنسيق المباشر بينهما لمحاربة تنظيم “داعش”، مما ساهم في إحباط محاولة تفجير مزار ديني في ضواحي دمشق في أوائل الشهر الجاري، حسب ما نقلت صحيفة “واشنطن بوست”، عن مسؤولين أمريكيين.
وفي 11 ديسمبر/كانون الثاني، أكد جهاز الاستخبارات العامة السورية، الذي أعلن عن تشكيله برئاسة أنس خطاب بعد سقوط نظام الأسد، تمكنه من إحباط محاولة عناصر من تنظيم “داعش” تنفيذ تفجير داخل مقام السيدة زينب من خلال اعتقال الأشخاص المتورطين في العملية.
ونشرت وزارة الداخلية في حكومة تصريف الأعمال صور أفراد الخلية بعدما داهم الأمن العام وكرًا تحصنوا داخله في ريف دمشق، واعتقلوا أربعة أشخاص بحوزتهم عتاد عسكري ومعدات و3 عبوات ناسفة وقنابل يدوية وهواتف خلوية ومبالغ مالية بالدولار الأمريكي، والليرتين السورية واللبنانية.
تُظهر وثائق عُرضت في صور على معرّفات وزارة الداخلية ثبوتيات ثلاثة أشخاص: الأولى إخراج قيد لبناني، والثانية بطاقة خاصة باللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان، والثالثة هوية شخصية لبنانية.
مسؤولون أمريكيون أرجعوا أسباب تبادل معلومات استخباراتية إلى مصلحة مشتركة في منع تعزيز قوة “داعش”، مشيرين، إلى أن التعاون لا يعكس دعمًا كاملًا لـ “تحرير الشام” التي لا زالت مصنفة على قوائم المنظمات الإرهابية لدى الولايات المتحدة الأمريكية.
في حين، قال مسؤول أمريكي سابق، طلب عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع، لصحيفة “واشنطن بوست”: “كان من الضروري والصائب أن نتصرف بناءً على معلومات موثوقة ومحددة حول تهديدات داعش”، مضيفًا، أن هذه الخطوة تتماشى مع جهودهم لتطوير علاقة عملية مع تحرير الشام”.
عملية التواصل الاستخباراتية بين واشنطن وتحرير الشام مباشرة جرت دون وجود وسيط ثالث، ما يثير تساؤلات عديدة حول تغير العلاقة تجاه الهيئة، رغم نفي المسؤولين الأمريكيين إحداث هذا التنسيق معطيات حول العلاقة بين واشطن وإدارة دمشق الجديدة.
يرى الباحث في مركز الحوار السوري، أحمد قربي، أن التعاون الاستخباراتي بين واشنطن وإدارة دمشق، يحمل دلالتين: الأولى تأكيد اهتمام واشنطن في ملف “داعش” الذي لا يزال حاضرًا في سوريا، والثانية يشير إلى اختبار أولي للعلاقة بين واشنطن ودمشق من خلال التعاون بملف حساس، ما يترتب عليه تطوير التعاون ليكون بشكل أوسع من حيث النطاق والديمومة.
وقال قربي خلال حديثه لـ “نون بوست”: “إن العلاقة بين واشنطن ودمشق تقوم على خطوة مقابل الخطوة، وبالتالي فإن مدى تعاون دمشق في ملف “داعش” من خلال إثبات جديتها في التصدي للتنظيم يفسح المجال أمام تطوير العلاقة في المستقبل”.
ويضيف، أن تعاون واشنطن من الناحية الاستراتيجية يعد بوابة لإعادة تموضع سوريا في المنظومة الإقليمية المحاربة لإيران، بعدما تراجعت المنظومة الإقليمية (إيران، حزب الله، العراق، نظام الأسد، روسيا)، ما يعني انتقال سوريا من محور إلى آخر، تكون بدايته محاربة تنظيم داعش، ويتطور بناءً على جدية إدارة دمشق.
تنسيق عملياتي ثلاثي
بالتوازي مع تنسيق استخباراتي بين واشنطن ودمشق جرت اجتماعات عملياتية ثلاثية في 24 يناير/كانون الثاني الجاري، جمعت ممثلين عن التحالف الدولي، وإدارة دمشق، و”قسد”، في منطقة الرصافة (بادية الرصافة جنوب الرقة).
بحث الأطراف خطط ملئ الفراغ في جيب الرصافة كي لا تكون بقعة يستغلها “داعش” في شن هجمات تجاه مناطق سيطرة دمشق من جهة و”قسد” من جهة أخرى، حيث انتشرت قوات دمشق جنوب الرقة بعد انسحاب قوات “قسد” بتنسيق من التحالف الدولي.
لا يستبعد الباحث في مركز جسور للدراسات، أنس شواخ، احتمالية ظهور تنظيم “داعش” بعد غياب جزء من المراقبة التي كانت تغطيها القوات الروسية من خلال استهداف أوكار التنظيم في أطراف البادية وعمقها، مما دفع التحالف الدولي إلى التنسيق مع إدارة دمشق، وقسد بهدف تغطية منطقة الرصافة، كونها ستكون ممر محتمل تستخدمه خلايا “داعش”.
وقال شواخ خلال حديثه لـ “نون بوست”: “إن تنسيق التحالف يعكس حالة المراقبة والتخوف من استغلال داعش لحالة الفراغ الأمني مع استمرار وجود مناطق ضمن البادية تنشط فيها خلايا التنظيم ولكن لم يتم التعامل معها أو ضبطها كما كان في السابق”.
وأضاف، أن معلومات أولية عن احتمالية إدخال قوات الصناديد التابعة لقبيلة شمر (جزء من قوات قسد) بالتنسيق مع إدارة العمليات العسكرية بهدف توسعة طوق أمني حول مناطق البادية والحدود العراقية على وجه التحديد للحد من نشاطات تنظيم “داعش” خلال الفترة المقبلة.
فرص عودة “داعش”
رغم انهيار “داعش” بسبب عمليات التحالف الدولي وما تبعها من عمليات عسكرية موازية أدت إلى انحسار مناطق انتشاره، إلا أنه واصل هجماته عبر خلايا تنشط في جيوب البادية السورية تطل عليها محافظات السويداء إلى دمشق وحمص وحماة والرقة ودير الزور.
شكل انسحاب قوات النظام السابق بشكل مفاجئ فرصة مهمة لعناصر التنظيم الذين استطاعوا السيطرة على معدات وأسلحة من القطع والمقار العسكرية التي كان ينتشر بها في البادية السورية، مما يزيد فرص عودة هجمات “داعش” مجددًا خلال الفترة المقبلة مستغلًا ضعف الأداء الأمني لإدارة دمشق مع اتساع رقعة السيطرة الجغرافية.
يرى الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، أسامة الشيخ علي، أنه من حسن حظ السوريين أن المصلحة الوطنية المرتبطة في فرض الاستقرار تتقاطع مع المصالح الاقليمية والدولية، كونها تمنح إدارة دمشق دعمًا من قوى إقليمية ودولية لمنع عودة “داعش”.
وقال خلال حديثه لـ “نون بوست”: “إن إدارة دمشق تمتلك خبرة عملية في التعامل مع داعش، حيث حققت نجاحات في إدلب، وبالتالي تعرف طرق وأساليب يستخدمها التنظيم في نقل المقاتلين، وتكتيكات يستخدمها في إحداث خروقات أمنية، مما يقلل فرص عودته كما ظهر عليه أول تأسيسه، لكن يمكنه أن يستخدم الفراغات الأمنية والخواصر الرخوة لتنفيذ عمليات إغارة وتفجير سيارات مفخخة”.
وأضاف الشيخ علي أن عناصر “داعش” استغلوا مرحلة سقوط النظام وانسحاب القوات البشرية من القطع العسكرية، واستولوا على أسلحة في المواقع العسكرية المحاذية لجبهة البادية السورية (جنوب دير الزور والرقة، وشرق تدمر وحماة).
وتؤكد التحركات وجود تنظيم “داعش” في الجغرافية السورية، كونها لم تقتصر على التخطيط لهجمات بل تعدت إلى نشر إصدار مرئي لأول مرة بعد سقوط النظام في 24 ديسمبر/كانون الثاني، هاجم قيادة تحرير الشام، الجيش الوطني السوري، قوات سوريا الديمقراطية، ودول فاعلة بالشأن السوري، مثل: واشنطن، أنقرة، موسكو، طهران.
Islamic State (ISIS) released a new video on Syria after 8 Dec 2024.
تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ينشر إصدار جديد بعد سقوط نظام الأسد.#داعش #سوريا_الان #ISIS #Syriapic.twitter.com/bjYuL9Kl4C
— Wissam Shahla | وسام (@WissamShahleh) January 24, 2025
اعتبر الإصدار أن ما حصل في سوريا “حرب بالوكالة” حيث اتهم الفصائل العسكرية التي شاركت بمعركة ردع العدوان، أنها “بيادق تركيا ودول أخرى”، بهدف تحصيل مكتسبات على طاولة مفاوضات أستانا، منتقدًا خطابات أحمد الشرع حيث اعتبرها متوافقة مع “تطلعات القوى الإقليمية والدولية”.
وهدد إدارة دمشق في حال استخدامها القوانين الأممية وتطبيقها في سوريا بأن “يطبق عليها واجب السلم والحرب”، فيما استعرض لمحات حول أدبيات التنظيم وأهدافه القتالية وقارنها مع الحركات التي قادتها فصائل إدارة العمليات العسكرية وتطلعاتها خلال المرحلة، معتبرًا أن ما قامت به الأخير تحسينًا لـ “اتفاقيات الطواغيت”، بينما قام به “استجابة لأوامر الحق وتحسين مصالح المسلمين”.
تعليقًا على الإصدار، يرى الباحث في مركز عمران للدراسات، أسامة الشيخ علي، أن فحوى الإصدار تؤكد أن التنظيم يحتاج إلى التعبئة والتحشيد بهدف جذب أعضاء جدد في صفوفه، لأن أبرز ما يعانيه الآن في الأعداد والكوادر بهدف شن هجمات وإحداث خروقات أمنية.
وتابع، أن داعش يسعى من خلال الإصدار إلى بث الانتصار على النظام البائد وفق سردية تسحب الشرعية من الإدارة السورية، وهذا يندرج في سياق كسب أعضاء جدد عبر استدراج أو استمالة بعض العناصر المتشددة في صفوف “تحرير الشام” التي ترفض التغيرات السياسية الطارئة، فضلًا عن جذب مقاتلين وكوادر بشرية جديدة.
ختامًا.. تبقى فرص عودة نشاط تنظيم “داعش” عبر جيوب البادية السورية ممكنة طالما مثلت مركزًا لهجماته طيلة السنوات الماضية استهدف فيها عناصر النظام والميليشيات الإيرانية؛ ما يزيد من أهمية تنسيق التحالف الدولي الاستخباراتي والعملياتي مع إدارة دمشق لمكافحة نشاطات المتزايدة.