تبعد ماليزيا وتركيا عن بعضهما نحو 5 آلاف ميل و7 مناطق زمنية، إلا أن الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، إلى أنقرة، كشفت قدرة هذين البلدين على تجاوز المسافات والحدود الجغرافية، سعيًا لتحقيق التقارب الدبلوماسي وما يتبعه من مصالح وامتيازات، فقد طرح مهاتير مبادرة تدعو إلى التعاون بين تركيا وماليزيا وباكستان من أجل تحقيق نهضة إسلامية، تضمن استقرار البلدان الإسلامية وتنقذها من الضغوط التي تتعرض لها.
ومع إضافته اسم باكستان إلى القائمة، توجهت أنظار العالم إلى هذا العمل المشترك الذي سيجمع 3 دول إسلامية في خانة واحدة، ورغم أن الفكرة لا تزال قيد التشاور، فإن القواسم المشتركة والأهداف الإقليمية والعالمية التي تجمع بين تلك الدول تفشي لنا عن العديد من مواطن القوة التي تجمع بينهم، وتشير إلينا بإمكانية تحول هذه الفكرة إلى واقع وذلك رغم بعض نقاط الضعف والاختلالات التي تشوب هذه الثلاثية.
هل تستطيع تركيا وماليزيا خوض هذه التجربة؟
في البداية، سوف نبحث في تاريخ تركيا وماليزيا اللتين تختلفان بالتجارب التاريخية ولكن ينُظر إليهما على أنهما نموذجين مثاليين للاقتصادات الناشئة والنفوذ الدبلوماسي المتزايد، حيث تتشابهان في أمور عدة منها أن كلتاهما دول صناعية حديثة العهد ومصنفة كدول ذات داخل متوسط مرتفع.
ففي ماليزيا يبلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي للفرد نحو 27 ألف دولار أمريكي سنويًا، بينما يصل في تركيا إلى 11 ألف دولار. كما تعد من الدول متوسطة القوة والتأثير وتسعى دومًا إلى قيادة وإدارة عدة ملفات إقليمية، ومن المتوقع أن تثمر جهودهم وتلعب كلتاهما دورًا إقليميًا وعالميًا أكبر في السنوات القادمة.
كلتا الدولتين تمتلكان نفس وجهات النظر وردود الفعل تجاه القضية الفلسطينية والروهينغا والغزو الأمريكي للعراق ودعم الديمقراطية في بلدان الربيع العربي
يضاف إلى ذلك، أنها دول ذات تعداد سكاني مرتفع نسبيًا وذات أغلبية إسلامية تتبع المذهب السني، ما يضيف إلى علاقتهما رابطًا حميميًا ودافعًا كبيرًا للعمل معًا، وخاصةً في هذا الوقت الذي برزت فيه الإسلاموفوبيا الغربية وحركات التطرف الديني العنيفة.
وعلى مدار السنوات الأخيرة، كان يرى المراقبون أن تركيا بمثابة بوابة ماليزيا الدبلوماسية والاقتصادية إلى أوروبا، في المقابل رأوا أن ماليزيا نقطة دخول تركيا إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ما يعني أن مساعيهم للدخول إلى تلك الأسواق تشكل نقطة التقاء إضافية بينهما.
جدير بالذكر أنهما أعضاء في الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي ومجموعة الدول الثماني الكبرى. وعلى صعيد القضايا الإقليمية والعالمية، فلقد ساهم اتفاقهم بشأن مجموعة واسعة من الملفات على تعميق مستوى الشراكة الإستراتيجية، على سبيل المثال، كلتاهما تمتلكان نفس وجهات النظر وردود الفعل تجاه القضية الفلسطينية والروهينغا والغزو الأمريكي للعراق ومسيرة الديمقراطية في بلدان الربيع العربي.
يضاف إلى ذلك، الدعم الكبير الذي قدمته ماليزيا لتركيا عام 2017 بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، حين أغلقت جميع المؤسسات والمدارس المرتبطة بفتح الله غولن، واعتقلت أعضاء الحزب وسلمتهم لأنقرة، وهو ما زاد الثقة بين الطرفين.
وذلك عدا الاتفاقيات التجارية الثنائية التي تجمع بينهما، إذ يبلغ إجمالي حجم التجارة بين البلدين نحو 2.38 مليار دولار، وتسعى إلى مضاعفة هذا العدد إلى 6 مليارات في السنوات المقبلة. وتشمل صادرات ماليزيا الرئيسية إلى تركيا المنتجات الكهربائية والإلكترونية والمنسوجات والمواد الكيميائية والمطاط الخام، أما صادرات تركيا إلى ماليزيا فهي منتجات الحديد والصلب والكيماويات والآلات والأجهزة وقطع الغيار والمنتجات الكهربائية والإلكترونية.
أما إذا أردنا قياس حجم تجارتهما بشكل منفصل، فوفقًا لمؤسسة تنمية التجارة الخارجية في ماليزيا، بلغ إجمالي حجم التجارة عام 2018 نحو 455 مليار دولار، حققت الصادرات ما يقارب 242 مليار، بينما وصلت وارداتها إلى 213 مليار، علمًا أن منتجاتها تصل إلى ما يقرب من 200 دولة مختلفة، وبالنسبة لتركيا، بلغت صادراتها نحو 168.1 مليار دولار في حين سجلت وارداتها 223.1 مليار دولار في نفس العام.
في الوقت الذي حرصت فيه ماليزيا على البقاء محايدة فيما يتعلق بهذه المجموعات، كانت تركيا حريصة على تقديم الدعم المادي والإعلامي لها
وبالنسبة للقطاعات الأكثر ثقلًًا، صدّرت ماليزيا عام 2011 نحو 257 من إطارات مركبة قتالية مدرعة بقيمة 600 مليون دولار أمريكي لتركيا، وهي أكبر عملية بيع الأسلحة بين البلدين، ولكن خلال الأعوام الماضية، ذكرت الحكومتان مرارًا أنهما يسعيان إلى زيادة تعاونهما في الصناعات العسكرية والدفاعية، وخاصةً أن تركيا تحولت من دولة مستوردة للطائرات والأسلحة الذكية إلى دولة منتجة ومصنعة، وبحسب تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام “سيبري” لعام 2017 فإن تركيا ضمن أكبر 3 دول صاعدة في إنتاج وتصدير السلاح خلال العام 2017.
لكن وعلى الرغم من جميع القواسم المشتركة ومواطن القوة التي تجمع بين البلدين، فإن العلاقات التي تجمع بين تركيا ودولة الاحتلال الإسرائيلي تمثل مسألة حساسة بالنسبة لماليزيا، إلى جانب هذه القضية، تختلف الدولتان بنظرتهما لدور الحركات الإسلامية مثل دور الإخوان المسلمين في عملية التحول الديمقراطي، ففي الوقت الذي حرصت فيه ماليزيا على البقاء محايدة فيما يتعلق بهذه المجموعات، كانت تركيا حريصة على تقديم الدعم المادي والإعلامي لها. ومع ذلك، ليس من المتوقع أن تعيق هذه الاختلافات العلاقات المتناغمة والأهداف المنشودة.
وبذلك يمكننا أن نتصور بوضوح، ماليزيا وتركيا كدولتين إسلاميتين ومستقرتين وتعملان معًا لتعزيز موقف العالم الإسلامي وإحياء حضوره في المنابر السياسية والعلمية والعسكرية، لا سيما في الوقت الذي نشهد فيه حالة من الاضطرابات الاقتصادية والتحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، بسبب الحروب التجارية والمشاكل الإقليمية وما خلفته من ضغوط مادية وأمنية دفعت هذه الدول إلى التفكير في اتخاذ موقف قيادي بدلًا من الانغماس داخل دوامات الدول الكبرى الأخرى، ولكن ماذا عن باكستان؟
باكستان تكمل الحلقة المفقودة
غالبًا، ما يُنظر إلى باكستان على أنها دولة هشة، تتأرجح على شفا الفشل التام بسبب الاقتصاد الراكد والتطرف العرقي والديني وغيرها من الأزمات، ولكن هذه الصورة ليست دقيقة تمامًا، فهي لا تعكس الحقيقة كاملةً وتتغاضى عن نقاط القوة التي تتمتع بها الجمهورية الإسلامية، وأهمها امتلاكها برنامج نووي وقوة عسكرية هائلة.
فبحسب مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن، لدى باكستان برنامج صاروخي يتضمن صواريخ متحركة للمدى القصير والمدى المتوسط، إذ يصل أطول صواريخها إلى ألفين كيلومتر، ويقدر معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام عدد ما تملكه من الرؤوس الحربية النووية ما بين 140 و150 رأس، أما فيما يخص، الميزانية العسكرية، فلقد أنفقت العام الماضي 11 مليار دولار أي نحو 3.6 من ناتجها المحلي على جيشها البالغ قوامه 653 ألفًا و800 جندي، ما يعني أنه لا يمكن الاستهانة بوزن باكستان في المعادلة الثلاثية لا سيما أن الأطراف الأخرى تفتقر لهذه الأدوات الإستراتيجية.
على الساحة الدولية، كان التضامن التركي الباكستاني قويًا لعقود من الزمن، سواء فيما يخص المسائل الداخلية أم المشاكل مع الجيران، وأبرزها حين طلب الجيش التركي من المخابرات الباكستانية الدعم في أثناء حملته ضد حزب العمال الكردستاني
وفيما يخص باكستان وتركيا تحديدًا، فإن التركيز الأساسي للتعاون الاقتصادي بينهما ينصب على مجالي الدفاع والأمن، فلقد زادت الصادرات التركية إلى باكستان من 155 مليون دولار عام 2008 إلى 352 مليون دولار عام 2017، وكلتاهما جزء من منظمة التعاون الاقتصادي (ECO) ومنظمة D8 للتعاون الاقتصادي.
ومع استعراضنا لطبيعة علاقتها مع ماليزيا وتركيا، سندرك أن علاقتهم كانت منذ البداية علاقة تكاملية وبعيدة عن المشاحنات والمنافسة، ويتخللها الكثير من المجاملات والزيارات والمساندات خلال أصعب الأوقات، على سبيل المثال، في الفترة التي سبقت انتخابات تركيا في أبريل عام 2017، كان حزب العدالة والتنمية الحاكم يدير إعلانًا تجاريًا ذا ميزانية كبيرة وكان يستعرض مشاهد للمسلمين في جميع أنحاء العالم وهو يمجدون تركيا لمساهماتها القديمة والحديثة وبما في ذلك لقطات لأطفال من كازاخستان وأخرى من فلسطين والبوسنة، ثم يذهب المشهد إلى حدود أبعد من ذلك ويصل إلى باكستان، كإشارة إلى العلاقة القوية التي أسسها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان مع باكستان، وهو ما تجاوبت معه باكستان بشغف، فلطالما اعتبرت تركيا نموذجًا اقتصاديًا وسياسيًا يحتذى به.
ويتضح ذلك أكثر من خلال العلاقات الاقتصادية، حيث تجاوز الاستثمار التركي في باكستان مليار دولار عام 2017 ورافقتها اتفاقية تجارة حرة تهدف إلى زيادة التجارة الثنائية من 900 مليون دولار إلى 10 مليارات دولار بحلول عام 2022، ومع استمرار الخطوط الجوية التركية في التوسع ونمو إسطنبول كمحور طيران إقليمي، ستسهل هذه الاتفاقية أيضًا حرية التنقل بين البلدين، لا سيما بالنسبة إلى تركيا التي تتطلع إلى تعزيز السياحة من الدول الإسلامية لتعويض خسارة السياح من أوروبا الغربية في السنوات الأخيرة.
باكستان وماليزيا كلتاهما شريكتين مع الصين في مبادرة الحزام، ما يمنحهما نفوذًا سياسيًا غير عادي ولا يقل أهمية عن الأرباح الاقتصادية المتوقعة
أما على الساحة الدولية، كان التضامن التركي الباكستاني قويًا لعقود من الزمن، سواء فيما يخص المسائل الداخلية أم المشاكل مع دول الجوار، فلقد تبادلت الدولتان الدعم المادي والمعنوي في العديد من الحالات، وأبرزها حين طلب الجيش التركي من المخابرات الباكستانية الدعم في أثناء حملته ضد حزب العمال الكردستاني في النصف الأخير من عام 2015، يضاف إلى ذلك، إظهار باكستان دعمها القاطع لأردوغان، حين طالب دول العالم بإعلان منظمة “غولن” كجهة إرهابية، عقب محاولة الانقلاب، وما كان من باكستان إلا أن تصرح بذلك بشكل رسمي وعلني.
في المقابل، اتخذت تركيا خطوات عديدة لتأكيد دعمها لباكستان في عدة ملفات، ومنها إقليم كشمير المتنازع عليه مع الهند، مع العلم أن جزءًا من اهتمام أردوغان بهذه القضية يعود إلى تقليده دور المدافع عن المسلمين في جميع أنحاء العالم، وليس طمعًا في رضى باكستان فقط، وهو الدور الذي سيمنحه التحالف الثلاثي لتركيا بكل جدارة، حال حدوثه.
ولن تكتمل صورة التحالف دون التعرف على علاقة باكستان بماليزيا، إذ تجمعهما العديد من الاتفاقيات التجارية والطموحات السياسية المشتركة التي من شأنها تحويل صداقتهما إلى شراكة من مستوى آخر، خاصةً أن باكستان تنظر إلى ماليزيا كبوابة إلى الأسواق الآسيوية مثل سنغافورة وتايلاند. وكلتاهما شريكتين مع الصين في مبادرة الحزام والطريق، ما يمنحهما نفوذًا سياسيًا غير عادي ولا يقل أهمية عن الأرباح الاقتصادية المتوقعة.
بصفة عامة، نجحت مواقف باكستان السياسية وفراداتها في المجال النووي بأن تكون الخيار المثالي للتحالف الثلاثي الذي سينقذها من الصعوبات الاقتصادية والرتابة السياسية ويضيف إليها طابعًا أكثر قوة وجدية على الساحة الدولية.
معادلة القوة وفقًا لتعريف جيرمان
أما إذا أردنا أن نحسب الوزن السياسي والقومي لهذه الثلاثية وفقًا لتعريف جيرمان لقوة الدول، الذي يعتمد على 5 عناصر وهي: العامل البشري والجغرافي والاقتصادي والعسكري والنووي، فسوف نستنتج أن التحالف الإسلامي بين الدول الثلاث سيخلق قوة عظمى متكاملة. فإذا طبقنا المعادلة فسنجد أن قوة التحالف المذكور ستكون كالتالي: التعداد السكاني (327 مليون نسمة)، ناتج قومي (3.372 تريليون دولار أمريكي)، مساحة جغرافية (1994 ألف كيلو متر مربع)، ومنشأ نووية واحدة بالغة الأهمية. ومن المحتمل إضافة أطراف أخرى إلى هذا المحور الإسلامي مثل أفغانستان وبعض دول وسط آسيا، ما يعني أن قوة التحالف قد تزداد عشرات الأضعاف بعد.
محصلة القول، تبعث هذه العلاقة الثلاثية الكثير من الأمل في إمكانية تحقيق مشروع “النهضة الإسلامية” لا سيما أنهم يمتلكون نقاطًا مشتركة على الصعيد المحلي والإقليمي والعالمي، وحتى مع وجود العديد من العوائق والتحديات إلا أن سعيهم المتواصل للترويج بإيجابية عن الإسلام الديمقراطي والحضاري والمعتدل أمام الجمهور العالمي سيكون دافعهم الأول في تحويل هذه المبادرة إلى واقع، بالجانب إلى طموحاتهم الأخرى في اكتساب الشهرة والثروة السياسية على المسرح العالمي.