تواجه سوريا مهمة شاقة للتخلص من أطنان الركام والردميات التي خلفتها الحرب السورية منذ اندلاع الثورة عام 2011، فسياسة الأرض المحروقة التي انتهجها النظام البائد بمشاركة حلفائه -لا سيما الروس- مستخدمين شتى أنواع الأسلحة والصواريخ المدمرة، أدت إلى تدمير مساحات شاسعة من البنايات والبقع السكنية والمرافق العامة.
عدا عن كارثة زلزال شباط/ فبراير 2023، الأمر الذي تسبب في تحويل أحياء وقرى كاملة إلى أطلال، مخلفًا أطنانًا لا حصر لها من الركام.
وأمام هذه المشكلة، تتجه الأنظار إلى طريقة التخلص من الردميات والأنقاض الموزعة في كل المحافظات السورية، ولا سيما أن نظام الأسد البائد لم يتخذ خطوات فاعلة في هذا الملف إبان دخول قواته المدن والأحياء المدمرة، بل على العكس تمامًا، تحمّل المدنيون في مناطق سيطرته خلال السنوات الفائتة أعباء نقل الأنقاض على حسابهم الشخصي وإعادة تأهيل ممتلكاتهم لتصبح قابلة للسكن.
ملف “الأنقاض” أولوية
انتهت العمليات العسكرية والقصف الممنهج من قبل النظام البائد وحلفائه في جميع المحافظات السورية الثائرة عام 2018 بشكل أساسي، مع آخر اتفاق تسوية في درعا، إلا أن الاستهداف الممنهج بشتى أنواع الأسلحة استمر ضد معاقل المعارضة السورية في محافظتي إدلب وحلب، وهو ما خلف دمارًا كبيرًا في البنية التحتية.
وتظهر تقديرات سابقة للأمم المتحدة، أن سوريا بحاجة إلى 400 مليار دولار لعمليات إعادة الإعمار، مع تعرّض 16 مدينة رئيسية لدمار كبير، لحق بـ 130 ألف و228 من المباني السكنية والمنشآت العامة والخاصة، شكّلت الأبنية المصنوعة من الخرسانة المسلحة 70% منها.
ووفق دراسة لمعهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث، والتي اعتمدت على تحليل الأضرار المكتشفة بواسطة الأقمار الصناعية، فإن حلب أكبر المدن المتضررة، تلتها الغوطة الشرقية ثم مدينة حمص.
بالمقابل، تحتل سوريا مرتبة عالمية في التلوث بالنفايات الإنشائية، حيث يقدر حجم الردم الناتج عن تدمير الأبنية بـ142.5 مليون طن وفقًا لتقرير البنك الدولي حول أضرار الحرب في سوريا.
ويمكن قراءة هذا التقييم السوداوي والكارثة الكبيرة في سوريا، من خلال تقرير وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية في آب/ أغسطس الفائت، والذي أشارت فيه إلى أن الغارات الجوية الإسرائيلية في قطاع غزة، خلفت أكثر من 42 مليون طن من الأنقاض، والتي تكفي لملء خط من شاحنات القمامة يمتد من نيويورك إلى سنغافورة، (15.3 ألف كيلومتر)، ما يعني أننا في سوريا أمام أكثر من ثلاثة أضعاف أنقاض غزة والتي تكفي لملء خط من شاحنات القمامة يمتد لأكثر من 50 ألف كيلو مترًا.
خطط محتملة للمعالجة
ساهم الدفاع المدني “الخوذ البيضاء” في الاستجابة للكوارث خلال الحرب السورية، وكان له دور مهم في عمليات إجلاء القتلى والمصابين، ورفع الأنقاض بعد عمليات القصف والكوارث الطبيعية، كما حدث في زلزال السادس من شباط/ فبراير 2023.
في حديثه لـ”نون بوست”، أشار المهندس علي محمد، مدير برنامج تعزيز المرونة المجتمعية في الخوذ البيضاء، إلى أن المنظمة تعمل حاليًا على فتح الطرقات وإزالة السواتر والكتل الإسمنتية من الطرقات بعد التحقق والتأكد من عدم وجود ذخائر الحرب غير المنفجرة قبل القيام بأي عملية إزالة أو نقل للأنقاض والسواتر والكتل الإسمنتية لضمان الوصول الآمن للخدمات والمدنيين.
مضيفًا “أنه بالتوازي مع ذلك يتم العمل على تقييم النسبة المئوية لحجم الدمار ضمن المدن (الأحياء السكنية) والنواحي التابعة لهذه المدن من أجل ترتيب أولويات التدخل، ثم يتم نقل الأنقاض الناتجة عن فتح الطرقات الرئيسية والفرعية إلى الأماكن المخصصة لها مع أخذ كافة الاعتبارات البيئية وبالتنسيق مع الإدارات والمجتمعات المحلية، ومع الأخذ بعين الاعتبار لاحقًا القيام بإعادة تدوير الأنقاض من خلال الكسارة والغربلة التي تمتلكها الخوذ البيضاء”.
وعن أبرز التحديات التي تواجه الخوذ البيضاء فيما يتعلق بالمدن والبلدات الكبيرة والأحجام الكبيرة من الركام، أكد المهندس محمد أن أبرز التحديات تكمن في حقوق الملكية وعدم وجود موافقات قانونية من أصحاب العقارات والملّاك بإزالة وترحيل الأنقاض. أما بخصوص الملكية العامة (المباني العامة، المرافق التعليمية، المنشآت الصحية، إلخ)، ففي حال الحصول على الموافقات من الجهات الحكومية المعنية نستطيع إزالة الأنقاض وترحيلها.
ويبدو أن الخطط المستقبلية التي تعمل عليها الخوذ البيضاء هي “رسم خارطة الأولوية لتحديد نسب الدمار والكميات لاحقًا، لأن معظم الركام والأنقاض موجودة في موقعها ولم تعمل حكومة النظام البائد على إيجاد الحلول القانونية والعمل على ترحيل الأنقاض من المدن المدمرة”، حسب المهندس محمد.
“أولويتنا بعد انتهاء فرق ذخائر الحرب غير المنفجرة بمسح المناطق وفقًا لخارطة التهديد (التلوث) لأكثر الأماكن المحتملة لوجود الذخائر غير المنفجرة أو حتى احتمالية عالية لتواجد الألغام والمفخخات هي البدء ضمن الأحياء السكنية ضمن المدن، لما تشكله هذه الأنقاض والأبنية الآيلة للسقوط من خطر على السكان المقيمين ضمن هذه الأحياء سواء من الناحية البيئية أو حتى تهديد حياتهم”، يضيف المهندس محمد.
مضيفًا: لكن هناك سعيًا في الحصول على الموافقات القانونية المطلوبة من الجهات الحكومية ذات الصلة، من أجل وضع خطة شاملة للتعامل مع هذه الأنقاض وفقًا للاعتبارات البيئية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية.
مخاطر ترك الأنقاض
يُقدَّر أن النفايات الصلبة في سوريا تصل إلى 850 طن يوميًا، وهي ضعف الكمية التي كانت قبل الحرب، فيما يشكل تراكم الأنقاض على مساحات واسعة في سوريا معوقات كبرى أمام مشاريع التنمية وإعادة الإعمار، إضافة لمخاطر كبرى على الصحة والبيئة، كتلوث الهواء، التربة، والمياه، التي تستدعي حلولًا علمية مستدامة.
وتتوجه الأنظار اليوم نحو التخلص من هذه الأنقاض، وما إن سيكون منظمًا وآمنًا أم عشوائيًا بطريقة تزيد من تلك المخاطر على المدى المتوسط والقريب، فالتخلص العشوائي من الردميات، أو معالجتها بطريقة غير سليمة يزيد من المخاطر البيئية والصحية.
وفي حالات أخرى، يؤدي طمر الردميات (وهو النظام المعمول به في سوريا عمومًا) في مواقع غير مخصصة إلى تدمير البيئة المحيطة وتهديد التنوع البيولوجي، لما تحويه الأنقاض والردميات غالبًا على مواد خطرة مثل: الأسبستوس السام الذي يؤدي لأمراض تنفسية خطيرة بما في ذلك سرطان الرئة، والمعادن الثقيلة (كالزئبق والرصاص والكادميوم) إضافة إلى بقايا المتفجرات غير المنفجرة ومواد الكيميائية الصناعية ومخلفات عسكرية ومشعة، ومركبات ثنائي الفينيل متعدد الكلور (PCBs) وغيرها من الملوثات العضوية الثابتة، وهذه المواد يمكن أن تتسرب إلى التربة والهواء والمياه الجوفية، مسببة تلوثًا طويل الأمد.
في حديثه لـ”نون بوست”، يوضح الخبير الجيولوجي ثابت الكسحة، أن الردميات تؤدي إلى تلوث الهواء لما تحويه من ملوثات خطيرة تسبّب تغييرات سلبية للطبيعة، فقد يكون التلوث على شكل مواد صلبة أو سائلة أو غازية.
ويشدد الكسحة على أهمية إزالة هذه الردميات بشكل سريع، لأن إبقاءها له سلبيات كبيرة، فهطول الأمطار يؤدي لتحللِ بعض مكونات النفايات الصلبة، وتشكلِ راشح سائل، غني بملوثات، ثم انتقاله بما يحمله من مواد سامة إلى التربة، فيغير بنيتها الفيزيائية وتركيبها الكيميائي، ما يتسبب في انخفاض جودتها وقدرتها على إنتاج محاصيل زراعية صالحة للاستهلاك البشري، وهو ما يضر بالسّلسلة الغذائية، وينعكس على الأمن الغذائي للسكان.
وفيما يخص المياه والهواء، يشير الكسحة إلى أن الراشح يتسلل إلى المياه الجوفية أيضًا، فيلوثها بالمعادن الثقيلة والمركبات العضوية ومسببات الأمراض، ما يؤدي إلى تلوث مياه الآبار وتكاثر الحشرات والقوارض، فتنتشر أمراض كالالتهابات المعوية والاضطرابات العصبية والكوليرا والسرطانات وخاصة عند الأطفال والنساء الحوامل.
أما تأثير النفايات الردمية على الهواء، فذلك يؤدي لانبعاث روائح كريهة وغازات سامة تنتقل مع الرياح إلى أماكن أخرى، فتضرّ الغلاف الجوي وتؤذي السكان.
معالجة بطريقة مستدامة
يُتوقع أن تكون عملية إزالة الأنقاض في سوريا معقدة بسبب القنابل غير المنفجرة والمواد الملوثة الخطيرة والبقايا البشرية تحت الأنقاض.
فيما يحذّر بعض الناشطين في مجال البيئة من أن إزالة الأنقاض بطريقة غير مناسبة، قد تؤدي إلى كارثة بيئية، فمثًلا؛ يساهم إلقاء الأنقاض في المدن أو الغابات أو المسطحات المائية كالبحار والأنهار، دون تحللها وإعادة تدويرها، في حدوث كوارث بيئية جديدة وتهديد حياة النباتات والحيوانات والحشرات، وأحيانًا قد يصل الأمر إلى تسببها في تفشي الأمراض والأوبئة بين البشر.
لذلك ينبغي اختيار مواقع التجميع تلك المتدهورة بيئيًا على أن تكون بعيدة عن المناطق الزراعية والسكنية، وكذلك الأراضي الرطبة والمناطق المحمية الغنية بالنباتات والحيوانات المتنوعة.
يؤكد الباحث الكسحة على وجوب العمل لإزالة هذه الردميات بطريقة صحيحة ومدروسة واتباع نهج بيئي مستدام بعيدًا عن العشوائية، لأن ذلك سيزيد من التلوث البيئي، فالمحافظة على بيئة نظيفة هي من الأولويات لتجنب المخاطرة الكبيرة الناتجة عن هذا التلوث.
ويضيف الكسحة أن الاستدامة تتطلب نهجَ معالجةٍ متكامل، يشمل إنشاءَ مكبات حديثة، مزودة ببطانات مناسبة وأنظمة تجميع الراشح ومعالجته، وفرز النفايات وإعادة تدويرها، لتقليل الكميات التي تُرمى في المكبات وتحويل ما يمكن منها إلى سماد، والتخلص من الباقي بطرق آمنة، مثل الطمر الصحي (المقيد بشروط حتى لا تحدث تسريبات لنواتج التحلل إلى المياه الجوفية أو طبقات التربة المجاورة) والحرق في أماكن مخصصة، والتشدد في إجراءات التخلص الآمن من النفايات الخطرة، بالإضافة إلى إعادة التدوير.
ويمكن المحافظة على مواد البناء المسترجعة كالحديد وغيره من المعادن والأخشاب وفرزها وإعادة استخدامها في ترميم المباني القائمة، وتشييد وحدات ومباني جديدة، كما يمكن إعادة تدوير مواد الخردة، التي يتعذر إعادة استخدامها في حالتها الأصلية، واستخدامها في المباني الجديدة، فاتباع هذه الأساليب عوضًا عن استخدام مواد جديدة، لا يحمي الموارد الأرضية فحسب، بل قد يساهم أيضًا في خفض تكلفة إعمار المواقع المدمرة بنسبة تبلغ حوالي 40-50%.
حسب دراسة استقصائية أولية، لـ”مبادرة الإصلاح العربي”، فإنه لمعالجة المشكلة المستعصية التي تطرحها النفايات الصلبة والأنقاض، ينبغي الأخذ في الاعتبار تقييم الحاجة إلى إدارة النفايات الصلبة والأنقاض في المناطق شديدة الخطورة، وتحديد الشركاء المحليين والتعاون مع الشركاء من المنظمات غير الحكومية لوضع برنامج لإدارة النفايات الصلبة في كافة الأحياء والمناطق المستهدفة، إضافة إلى تطبيق برامج الأجر مقابل العمل وبرامج العمالة الطارئة لإدارة النفايات الصلبة والأنقاض (إزالتها وفرزها وإعادة تدويرها).
ختامًا.. لا شكّ أن مهمة التخلص من ملايين الأطنان من الأنقاض الممتدة على الجغرافية السورية مسألة معقدة وتحتاج إلى اعتماد معايير دقيقة متعلقة لكيفية معالجتها وجمعها وتخزينها وترحيلها وصولًا إلى طرق إعادة تدويرها، وهذا كله يحتاج لجهود كبيرة والأهم من ذلك دعم وتمويل دولي.