في الـ27 من يوليو الماضي، فاجأ نائب رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان بالنيابة عبد الفتاح مورو، الجميع بالسير خلف جنازة الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي، مشيًا على الأقدام، بخلاف كل المشيعين من الرؤساء والأمراء والوزراء الأجانب الذين استخدموا سياراتهم.
بادرة إنسانية أثارت الجدل في الشارع التونسي حينها، ورغم التفسيرات التي تذهب إلى أنها جاءت استجابة لرغبة “السبسي” التي عبر عنها في وقت سابق في مزاح له مع مورو، فإن البعض وصفها بـ”اللفتة الذكية” التي قدمت الرجل في ثوب جديد أكثر بريقًا، بعدما لاقت تفاعلاً واستحسانًا لدى كثير من التونسيين، حتى من بين غير المنتمين للحركة الإسلامية.
سياسي إسلامي بارز، أحد الأعمدة الأساسية للحركة الإسلامية في تونس، يصفه مقربون منه بأنه يمتلك قدرة على الجدل، ولا تخلو شخصيته من مرح، كما عرف بفكره المنفتح على التيارات الأخرى وثقافته الواسعة، يجمع بين الانفتاح والتمسك بالثوابت، قادر على التعاطي مع جميع التيارات دون أن يغادر مكانه.
بالأمس وفي مفاجأة لم يتوقعها الكثيرون، ليس في مضمونها قدر ما هو في سياقها التاريخي، قرر مجلس شورى حركة النهضة ترشيح مورو (71 عامًا) للانتخابات الرئاسية المزمع عقدها منتصف سبتمبر/أيلول القادم، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الحركة منذ نحو 50 سنة على تأسيسها.
#عاجل | مصدر بـ"النهضة" للأناضول: عبد الفتاح مورو مرشحا عن الحركة للانتخابات الرئاسية التونسية #تونس
— ANADOLU AGENCY (AR) (@aa_arabic) August 6, 2019
القرار ورغم ما واجهه من معارضة من داخل المكتب التنفيذي للحركة بعد نقاشات مستمرة منذ السبت الماضي فإن الموافقة عليه في النهاية جاءت بالتزكية من 98 عضوًا من أعضاء شورى النهضة، فيما احتفظ ثلاثة فقط بأصواتهم، حسبما ذكر رئيس الحركة راشد الغنوشي على صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”.
تحرك يلهب السباق الانتخابي الذي تقدم له حتى كتابة هذه السطور قرابة 29 مرشحًا، قبل أن يغلق أبوابة رسميًا بعد غد، الـ9 من أغسطس، وفق ما أكده عضو الهيئة العليا للانتخابات أنيس الجربوعي، يتوزعون بين شخصيات متحزبة وأخرى مستقلة، في مقدمتهم محمد عبو عن التيار الديمقراطي، ومهدي جمعة عن حزب البديل، ونبيل القروي وحمادي الجبالي كمستقلين، وعبير موسى عن الحزب الدستوري الحر، هذا في الوقت الذي لم يحسم فيه رئيس الحكومة يوسف الشاهد قرار ترشحه، رغم دعوة الهيئة السياسية لحزبه “تحيا تونس” بشكل رسمي للترشح للانتخابات الرئاسية.
بين التأييد والمعارضة
أربعة أيام كاملة خاضتها الحركة وقيادتها في مناقشة حسم مسألة الترشح للانتخابات، حيث انقسمت الآراء إلى فريقين: الأول يرى ضرورة الدفع بمرشح من الحركة أو الداعمين لها، فيما ذهب الآخر إلى دعم أحد المرشحين من الخارج، على أن يكون شخصية وطنية تحظى باحترام الجميع.
الفريق المعارض للدفع بمرشح من داخل الحركة يرى أن البلاد بحاجة لمرشح توافقي، وهو ما أكده القيادي رفيق عبد السلام عبر صفحته الرسمية، حيث أقر بحاجة تونس لمرشح “غير معاد لتوجهات الثورة ومتشبع بخياراتها الديمقراطية”، معتبرًا أن تقديم مرشح نهضوي مرهق لتونس وتجربتها الديمقراطية، ومنهك للحزب وآفاقه المستقبلية، كما برر موقفه في دعم مرشح من خارج الحركة بالأوضاع الدولية وصعود تيارات يمينية معادية للحرية والديمقراطية، ولتشكل محورًا إقليميًا معاديًا للربيع العربي.
وفي الجهة الأخرى يرى الداعمون لقرار ترشيح مورو أن الحركة لن تبقى على الحياد كما كانت في انتخابات 2014، وأن الظرف السياسي والتاريخي الآن مختلف بصورة كبيرة عما كان عليه قبل 5 سنوات، الأمر الذي يجعل تقديم مرشح عن النهضة أمرًا غاية في الأهمية بما يتوافق مع المستجدات الإقليمية والدولية.
من أبرز أقواله: “الإسلام هو الحل شعار فارغ”، وأن الإسلاميين ليسوا خيارًا دائمًا، لافتًا إلى أن الحركات الإسلامية لم تدرك أن المطلوب حاليًّا هو نظرة جديدة تأخذ بعين الاعتبار الواقع الراهن
الأجواء الآن مغايرة تمامًا لما كانت عليه في 2011، حيث نجحت الحركة في امتصاص ردة الفعل السلبية الناتجة عن سياسة الشحن ضد حركات الإسلام السياسي، التي تعززت بفضل وأد التجارب المماثلة في دول أخرى في مقدمتها مصر، وهو الأمر الذي دفع قيادي النهضة إلى التراجع خطوة للوراء، أما اليوم فالوضع يختلف بصورة كبيرة، خاصة في ظل لجوء الجيش إلى خيار الابتعاد عن المشهد السياسي.. هكذا يبرر أنصار هذا الفريق.
القيادي بالحركة وعضو مجلس الشورى زبير الشهودي، علق على هذا القرار قائلاً: “الوضع الحاليّ هو الوضع الطبيعي للنهضة، وليس ما حدث منذ يومين – في إشارة لتبني الحركة دعم مرشح وطني من خارجها -“، وأن “المجلس والقيادة استجابا لمطلب القيادات الوسطى والقواعد التي نادت بترشيح شخصية من داخل الحركة”.
لم يكن اختيار مورو اختيارًا عشوائيًا، فالرجل يجمع بين ما تريده الحركة وما يريده الشارع، أو بالأحرى فهو واجهة مناسبة للإسلاميين، فهو نظريًا ممثل النهضة أيديولوجيًا نظرًا لكونه أحد الأعضاء التنظيمين بها، وأحد المؤسسين للحركة الإسلامية في تونس رفقة صديقه راشد الغنوشي، وفي الوقت ذاته فهو المنفتح على بقية التيارات الأخرى، العاشق للموسيقي، الماهر في التمثيل المسرحي.
راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة وبجواره موروو
موقفه من التجربة الإسلامية
كان مورو من أوائل المعارضين لخوض جماعات الإسلام السياسي، في مصر كانت أو تونس، الغمار السياسي مبكرًا بعد انطلاق قطار الربيع العربي في 2011، فكان يرى أن أنصار هذا التيار لم يكونوا مؤهلين بعد للمشاركة في الحكم في هذا التوقيت، خاصة أن خبراتهم السياسية لم تكن في صالحهم.
وكان من أبرز أقواله: “الإسلام هو الحل شعار فارغ”، والإسلاميون ليسوا خيارًا دائمًا، لافتًا إلى أن الحركات الإسلامية لم تدرك أن المطلوب حاليًّا هو نظرة جديدة تأخذ بعين الاعتبار الواقع الراهن، كاشفًا أنه لا يوجد في أدبيات الحركة مبحث خاص بالحكم في العصر الحديث من منظور إسلامي.
كما اعترف بخطأ الإسلاميين حينما تصوروا أنهم البديل لأنظمة الحكم الديكتاتورية التي سقطت بعد ثورة الياسمين، موضحًا أن الحراك من وجهة نظره الآن هو حراك وطني، يجب ألا يعادي الكيان الإسلامي العام.
المرشح الرئاسي في حوار أجراه في 2015 قال: “كنا نسعى لكي يكون لنا موقع مع باقي الأطراف السياسية، يمكّننا من إبلاغ رأينا تحت شعار “خلوا بيننا وبين الناس، قضيتنا ليست تقويض الأنظمة بالقوة، بين عشية وضحاها تغير هذا الهدف، وكنت قد صرّحت خلال الفترة الأولى من الثورة وطرحت القضية السياسية، وقلت إن الإسلاميين لا يحق لهم تجاوز الثلث من مقاعد البرلمانات التي سيؤسسونها، ونصحتهم بألا يكون رئيس الجمهورية منهم”.
لم ينكر أن الحركات الإسلامية -بأوضح مثالين لها في مصر وتونس -أخطأت، ضاربًا مثالاً حركة النهضة التي قال إنها عاشت 42 عامًا في المنافي والسجون والملاحقات ثم صعدت لمنصة الحكم عقب الثورة
وأضاف “أذكر أن القيادي في جماعة الإخوان المسلمين عصام العريان يومها قد تبنى الموقف نفسه في مصر، لكن سرعان ما تم التراجع عن هذا الموقف في فترة وجيزة لم تتجاوز الشهر، إذ اختار الإخوان أن يكونوا الأغلبية في البرلمان، وأن يكون رئيس الجمهورية منهم”.
وفي رده على تشابه النموذج المصري والتونسي فيما يتعلق بمستقبل التيار الإسلامي قال: “نعم هناك تشابه كبير، الأمر يحتاج إلى تفكير، لأننا لا نملك إلى حد الآن رؤية واضحة لمعرفة ما الذي حصل بين يومي 13 و14 من يناير/كانون الثاني 2011، وأفضى إلى هروب الرئيس السابق زين العابدين بن علي، لم نفهم حتى الآن الآلية التي تمت بها الأحداث، التي لا يزال يسودها الكتمان، لكن المؤكد أن الذين يتمتعون بهذا الحراك ليسوا هم الذين تسببوا فيه، وإنما جيّروه لصالحهم”.
وفي لقاء له مع برنامج “بلا حدود” بثته شاشة “الجزيرة” في 2/9/2015 لم ينكر أن الحركات الإسلامية – بأوضح مثالين لها في مصر وتونس – أخطأت، ضاربًا مثالاً حركة النهضة التي قال إنها عاشت 42 عامًا في المنافي والسجون والملاحقات ثم صعدت لمنصة الحكم عقب الثورة، لافتًا إلى أنه لم يكن مع هذا التوجه.
وأوضح “ما كان لي أن أكون مستعدًا بعد 42 سنةً من المتابعة وبعد 30 ألف مسجونين و30 ألف مطرودين من البلد وأفضت الثورة إلى إخراج جلهم من السجون أو خرجوا من السجون قبل أشهرٍ قليلة، كيف يمكن لهؤلاء الذين كانوا بالسجون ولم يتمتعوا بحرياتهم الذاتية إلا مدة 7 أشهر و8 أشهر كيف يمكن أن يعدوا مشروعًا تغييرًا”!
هذا الرأي كان سببًا كبيرًا في تعرضه للعديد من موجات الهجوم من الإسلاميين وهو الأمر الذي تقبله بصدر رحب، هذا في المقابل زاد من رصيده في بورصة التيارات الأخرى التي ترى فيه نموذجًا مغايرًا عن العقليات التقليدية التي تستند في فكرها وممارستها السياسية إلى قوالب جامدة، عصية على التطور وتحديث نفسها وفق الظروف والمستجدات.
تاريخ من العمل العام
دخل عبد الفتاح مورو المولود في الأول من يناير/كانون الثاني 1948 بالعاصمة تونس، مجال العمل العام مبكرًا، هذا بخلاف ما كان يتمتع به من مواهب في صغره ساهمت بشكل كبير في تكوين شخصيته، على رأسها إتقانه الموسيقى التي ما زال قادرًا على تعاطيها في المناسبات الخاصة، كما اكتسب مهارات التمثيل المسرحي، ومنذ سن مبكرة حرص على ارتداء اللباس التقليدي التونسي (الجبة والشاشية) بصناعة يدوية كاملة، بجانب هواية جمع الطوابع البريدية و”برادات” (أباريق) الشاي.
دخل مورو المدرسة الصادقية “الصوفية” وتخرج في كلية الحقوق والشريعة بالجامعة التونسية عام 1970، كما أتقن العديد من اللغات، فبجانب العربية تعلم الألمانية في المركز الثقافي الألماني بتونس إضافة إلى إتقانه اللغة الفرنسية.
جذبت الصوفية أنظار الشاب الصغير فارتبط مبكرًا بإحدى طرقها الشهيرة في العاصمة قبل أن يجذبه الفكر الإسلامي المعاصر بتوجيه من بعض علماء جامع الزيتونة، ليتجه بعدها نحو العمل الإسلامي على نهج حركة الإخوان المسلمين وذلك بعدما التقى بالشيخ راشد الغنوشي عام 1968 في أحد مساجد تونس العاصمة واتفق معه على تأسيس حركة إسلامية في تونس عرفت عند إعلانها باسم “الجماعة الإسلامية”، ثم غيرت اسمها عام 1981 إلى “الاتجاه الإسلامي”، ثم إلى اسمها الحاليّ “حركة النهضة”.
بدأ مورو تجربته في العمل المجتمعي بأنشطة إسلامية نظمها عام 1960 في المدارس الثانوية والمساجد، إلا أنه عمل بعد تخرجه قاضيًا حتى عام 1977، حيث قدم استقالته واشتغل بالمحاماة التي ما زال يمارسها، وقد انتخب أمينًا عامًا لحركة الاتجاه الإسلامي عند إعلانها في 6 من يونيو/حزيران 1981.
أعتقل عام 1973 عندما حاول تنظيم اجتماع لمئة شخص في مدينة سوسة، كما صادرت الأجهزة الإدارية والأمنية التونسية جواز سفره بدءًا من سنة 1988 ولمدة تجاوزت عشرين عامًا، وفي عام 1991 تعرض مرة أخرى للاعتقال، قضى على إثره عامين كاملين في السجن.
بإعلان مورو ترشحه تصبح الساحة الانتخابية على صفيح ساخن، خاصة إن حسم يوسف الشاهد قرار ترشحه، بجانب ترشيح “نداء تونس” لوزير الدفاع الحاليّ عبد الكريم الزبيدي
وبعد خروجه عام 1992 شن عليه النظام التونسي حملة تشويه شخصية، ما دفعه وبعض زملائه لتعليق عضويتهم في حركة النهضة، ثم اعتزل العمل العام حاصرًا نشاطه بين بيته ووظيفته حتى أسقط نظام زين العابدين بن علي في يناير/كانون الثاني 2011.
عاد مورو للعمل السياسي مرة أخرى بعد الثورة، فشارك مع مجموعة من المستقلين في انتخابات المجلس التأسيسي 2011 ضمن قائمة مستقلة تحت اسم “التحالف الديمقراطي المستقل”، لكنه لم يفز، ثم رشح لمنصب مستشار في حكومة حمادي الجبالي لكن تعيينه لم يتم، ثم عاد إلى صفوف حركة النهضة بعد مؤتمرها عام 2012، فانتخب نائبًا لرئيسها راشد الغنوشي وعضوًا في مجلس شوراها.
بإعلان مورو ترشحه تصبح الساحة الانتخابية على صفيح ساخن، خاصة إن حسم يوسف الشاهد قرار ترشحه، بجانب ترشيح “نداء تونس” لوزير الدفاع الحاليّ عبد الكريم الزبيدي، هذا بعدما انضم الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي ورئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي إلى لائحة المتنافسين.
ورغم ما يراه مراقبون أن النهضة ستجد نفسها أمام فرصة سانحة لمزيد من السيطرة على المشهد السياسي الحاليّ خاصة مع تنامي الانقسامات بين التيارات التقدمية والأحزاب الحداثية “أزمة نداء تونس” وفي داخل الأحزاب اليسارية خاصة مع ما تشهده الجبهة الشعبية (أحد أهم أحزاب المعارضة من انشقاقات)، فإن تغير المواعيد الانتخابية بعد وفاة السبسي ستضع الحركة في موقف حرج بشأن قدرتها على التعبئة الجماهيرية خلال الحملة الانتخابية.