لعقود من الزمن، تمكن الفلسطينيون في سوريا من إدارة حياتهم في وئام مع المجتمع السوري الذي نظر لهم على أنهم امتداد لأنفسهم وليسوا مجتمعًا أجنبيًا يستضيفونه على أرضهم، لذا تمتعوا بظروف اجتماعية واقتصادية أفضل من نظرائهم في لبنان ومصر، لكن أوضاعهم تأثرت بشدة خلال سنوات الثورة السورية، ولم يسلموا من الموت والدمار، فقد قصفت وحوصرت مخيماتهم وعاشوا موجات من النزوح الداخلي والخارجي.
نروي في هذا التقرير تاريخ وحاضر فلسطينيي سوريا وعلاقتهم بنظام الأسد، مرورًا بأشكال مشاركتهم في الثورة السورية وأسباب اصطفافاتهم المتعددة، إلى جانب الإضاءة على أوضاعهم القانونية الحالية في ظل الإدارة الجديدة.
من النكبة إلى النكسة
في أعقاب حرب فلسطين 1947-1949، أُجبر نحو 800 ألف فلسطيني على مغادرة مدنهم وقراهم في مواجهة تقدم القوات الصهيونية، ولجأوا إلى البلدان المجاورة، لبنان والأردن والعراق ومصر وسوريا.
وخلال هذه الموجة الأولى من التشريد الجماعي الذي مهد الطريق لإعلان قيام دولة “إسرائيل” على أراضي فلسطين، وصل إلى سوريا ما بين 75-100 ألف فلسطيني، معظمهم من مدن وبلدات شمال فلسطين، وقد لجأَ هؤلاء الفلسطينيون إلى سوريا عبر الطرق التالية:
- من جنوب لبنان إلى سوريا بالقطار.
- من لبنان إلى مرتفعات الجولان.
- من فلسطين مباشرة إلى طرطوس واللاذقية على متن القوارب والسفن.
- من منطقتي طبريا والحولة إلى مرتفعات الجولان.
- من منطقة حيفا الساحلية إلى طولكرم ومنها إلى سوريا عبر شرق الأردن.
استقبل الفلسطينيون في سوريا بكل ترحاب على المستويين الرسمي والشعبي، ووجد أغلبهم مأوى في العاصمة، بينما توزع الباقون في المحافظات السورية الأخرى، كما استأجرت العديد من الأسر الفلسطينية منازل في وسط دمشق، ومدن أخرى مثل حلب وحمص ودرعا.
وفي البداية استُخدمت المساجد والمدارس والمستشفيات والكنائس والأماكن الفارغة حول دمشق لإيواء غالبية الفلسطينيين، وظهرت تجمعات عدة في مدارس درعا ومساجدها وقراها مثل صيدا وبصرى، إضافة إلى سلسلة من التجمعات على مشارف المدن الرئيسية في سوريا.
ثم في أوائل عام 1949، جرى استخدام الثكنات العسكرية المهجورة في السويداء وحلب وحمص وحماة لإيواء الفلسطينيين، وانتشرت الخيام في محيط تلك الثكنات. ولكن بحلول أوائل خمسينيات القرن العشرين، شعرت الحكومة السورية بضرورة توفير مساكن أكثر أمانًا لتخفيف الازدحام والاختناق والسكن غير المناسب.
خاصة وأن الكثيرين عانوا في ذلك الوقت من برد الشتاء وعدم وجود صرف صحي، بجانب السكن غير المنتظم في مساحات هامشية في جميع سوريا. وقد أشار تقرير معاصر إلى أن حوالي 25 ألفًا فلسطينيًا في أوائل خمسينات القرن الماضي كانوا يعيشون في المساجد والمدارس والأماكن الفارغة حول دمشق.
وفي أوائل عام 1949، أصدرت سوريا أحد أهم القوانين لإدارة وتنظيم شؤون اللاجئين الفلسطينيين، وهو القانون رقم 450 الذي سمح بإنشاء هيئة إدارية للاجئين الفلسطينيين تحت رعاية وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وهي أعلى هيئة حكومية مسؤولة عن الفلسطينيين كانت تسمى آنذاك مؤسسة اللاجئين العرب الفلسطينيين، وتولت تنظيم شؤون اللاجئين وتأمين مختلف حاجاتهم جنبًا إلى جنب مع الأونروا.
وأطلقت الهيئة الحكومية السورية المسؤولة عن تقديم الخدمات للفلسطينيين في البلاد مبادرة لإنشاء مخيمات من الخشب وكتل الأسمنت، وبالتعاون مع الأونروا، وزعت مؤسسة اللاجئين الفلسطينيين الأراضي والمساعدات النقدية على اللاجئين لبناء منازل من طابق من الكتل الخرسانية، وهكذا تأسست المخيمات الفلسطينية المبكرة في سوريا كمساحات إنسانية لتوفير المأوى والمساعدة للاجئين، وتحولت بمرور الوقت إلى مناطق سكنية مزدحمة.
من المهم الإشارة إلى أن القوانين السورية في خمسينات القرن الماضي سهلت من مشاركة الفلسطينيين في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في سوريا على نحو مُخَالِف لما حدث في لبنان، كذلك قبل وصول حزب البعث إلى السلطة، أقرت الحكومة السورية في فترة حكم الرئيس شكري القوتلي في عام 1956 القانون رقم 260 والذي قنن علاقة سوريا بالفلسطينيين حتى اللحظة.
هذا القانون في جوهره وفي الممارسة العملية، أعطى الفلسطينيين الذين كانوا موجودين في سوريا حتى عام 1956 حقوقًا لا تشترك فيها أي جماعة لاجئين فلسطينيين أخرى في الدول العربية المضيفة، فقد مكن الفلسطينيين في سوريا من الاندماج بشكل أكبر في جوانب الحياة السورية المختلفة، ومنحهم وضعًا مماثلًا تقريبًا للمواطنين السوريين من حيث الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
رغم ذلك، كانت هناك قيود مفروضة على الحقوق السياسية وبعض القيود المفروضة على امتلاك الممتلكات، كملكية العقارات بحيث لا تزيد على عقار واحد لكل لاجئ، والسبب الرسمي وراء ذلك هو امتثال سوريا لقرارات جامعة الدول العربية التي تدعو الدول الأعضاء إلى عدم تشجيع إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين.
ورغم أن السلطات السورية لم تمنح الفلسطينيين الجنسية كما كان الحال في الأردن، فقد صنفتهم على أنهم جزءًا لا يتجزأ من المجتمع السوري ومنحتهم بطاقات إقامة دائمة، ووثائق سفر تمكنهم من مغادرة البلاد وإعادة دخولها دون الحاجة إلى تأشيرات. وفي الوقت نفسه، احتفظوا بهويتهم الخاصة وحقهم في العودة والجنسية الفلسطينية.
وقد اتخذت سوريا قرارًا بعدم منح الجنسية للاجئين الفلسطينيين على أراضيها، لأنه كانت هناك وجهة نظر ترى بأن ذلك من شأنه أن يضر بحق الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم، ويعفى لإسرائيل من الجرائم التي ارتكبتها في عام 1948. وقد اقترحت بعض القوى السياسية السورية أكثر من مرة توطين الفلسطينيين بصورة نهائية، ولكن كانت هناك خشية من أن يؤدي ذلك إلى إضعاف القضية الفلسطينية.
ومن المهم الإشارة إلى أن كل الفلسطينيين الذين لجأوا إلى سوريا لا يتمتعون بنفس الحقوق الممنوحة لهم بموجب القانون 260، فقط الذين لجأوا إلى سوريا قبل عام 1956، أما باقي موجات اللجوء فتم استبعادهم من القانون في عهد حكم البعث.
وحتى عام 2011، كانت هذه المخيمات موطنًا لما لا يقل عن 570 ألف فلسطيني مسجل لدى سجلات الأونروا، وغالبية هؤلاء اللاجئين من نسل أولئك الذين وصلوا إلى البلاد نتيجة لحرب عام 1948. بينما تذكر الهيئة الحكومية السورية المشرفة على أوضاع اللاجئين أن هناك 640 ألف فلسطيني في سوريا حتى عام 2011، وهذا التفاوت في الأرقام سببه أن هناك فلسطينيون غير مسجلين لدى الأونروا.
ولم تكن أي من هذه المخيمات مساحات مغلقة، بل كانت جزءًا لا يتجزأ من المناطق التي أنشئت فيها. ووفقًا لدراسة أجرتها مؤسسة فافو عام 2003، كان الفلسطينيون السوريون مندمجين بشكل أفضل في المجتمع السوري مقارنة بأولئك الذين يعيشون في الأردن ولبنان. ويرى العديد من هؤلاء الفلسطينيين السوريين أنفسهم كمواطنين سوريين وفلسطينيين.
العلاقة مع نظام البعث
بعد هزيمة 1967، شكلت سوريا ساحة عمل واسعة لكل الفصائل الفلسطينية على تعددها وتنوعها، وسمح حزب البعث الحاكم في سوريا للفصائل الفلسطينية بالعمل وبناء قواعد عسكرية ومعسكرات تدريب داخل الأراضي السورية.
كما قام النظام السوري بتسليح وتمويل الفصائل الفلسطينية ذات الميول اليسارية والتي تأسست في مخيم اليرموك خلال الستينيات، ثم عندما بدأ حافظ الأسد ما أسماها الحركة التصحيحية واستولى على السلطة في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1970، قيد نشاط الفدائيين الفلسطينيين، ومنع المقاتلين الفلسطينيين من تقديم الدعم لرفاقهم الذين كانوا يتعرضون لهجوم عسكري بالمدفعية والدبابات من قبل الجيش الأردني.
وفي عام 1974، وقع الأسد على اتفاقية فض الاشتباك التي أعقبت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، والتي وافق فيها على وقف العمل العسكري ضد “إسرائيل” على جبهة الجولان، وهي الاتفاقية التي لا تزال سارية حتى اليوم، وطلب النظام من الفصائل الفلسطينية الالتزام بالاتفاقية.
في الواقع، كانت العلاقات بين القادة الفلسطينيين وحافظ الأسد متوترة في الغالب، وقد شن الأخير حملة صارمة ضد حركة فتح في سوريا وسجن كوادرها، كما أغلق مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح في سوريا.
ويتذكر الفلسطينيون في سوريا تاريخ الوحشية التي مارسها نظام الأسد ضد الفلسطينيين بشكل عام، أو فيما يتعلق بالفلسطينيين في سوريا بشكل خاص، فقد شملت هذه المظالم، برنامج الاعتقالات الذي نفذه النظام بعد صراعه مع ياسر عرفات.
فمنذ عام 1983، فرض نظام الأسد قيودًا صارمة على فلسطينيو سوريا واعتقل العديد منهم، وكثيرًا ما شهدت المخيمات في سوريا حملات اعتقالات واسعة في صفوف النشطاء الفلسطينيين على خلفية انتماءاتهم السياسية.
وعلى حد تعبير منظمة ميدل إيست ووتش: “من بين جميع الأشخاص الذين عذبوا حتى الموت في سوريا خلال الفترة (1983-1986) كان نصفهم على الأقل من الفلسطينيين”. كذلك هناك ذكرى فلسطينية سيئة تتعلق بـ”السجون الفلسطينية” المعروفة رسميًا باسم سجني الفرع 215 والفرع 235، والتي أنشئت لمراقبة النشاط السياسي والعسكري للفلسطينيين، وكانت بمثابة مركز للاحتجاز والتعذيب.
لكن الإجراءات التي اتخذها النظام في الحرب الأهلية اللبنانية لضرب المقاومة الفلسطينية وتقويضها كان لها أسوأ الأثر لدى الفلسطينيين في سوريا، خاصة مذبحة مخيم تل الزعتر في بيروت عام 1976، وما عرف بحرب المخيمات التي استمرت من عام 1985 إلى عام 1988، حيث حاصرت ميليشيا أمل الشيعية اللبنانية المدعومة من النظام السوري المخيمات الفلسطينية في بيروت.
وبسبب ذلك، اندلعت احتجاجات منتظمة من فلسطينيي سوريا، وقوبلت بإطلاق النار الحي والاعتقالات. وفي الواقع، كانت المخيمات الفلسطينية مثل بقية أنحاء سوريا، خاضعة لسيطرة مشددة من النظام. وبحلول صيف عام 1990، احتجز النظام حوالي 2500 فلسطيني كسجين سياسي.
كذلك قمع النظام تنظيم النقابات العمالية بشكل عام وحظر جميع نقابات منظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي لم يعد للفلسطينيين في سوريا دور سياسي مستقل. فمنذ تسعينات القرن العشرين، اقتصر وجود الفصائل الفلسطينية في سوريا على الجانب الإعلامي والمنظمات الأهلية والجمعيات المدنية ولجان حق العودة.
ويشير العديد من الباحثين إلى إن السياسة التي اتبعها حافظ الأسد منذ استيلائه على الحكم وتابعها ابنه بشار، تمثلت في فرض السيطرة على الحركة الوطنية الفلسطينية، وتأجيج الانقسامات داخل الفصائل الفلسطينية لمصلحته الذاتية. ولكن هذه السياسة لم تلقى قبولًا عند الفلسطينيين في سوريا، وهناك شعور لديهم بأن النظام استغل قضيتهم لتسجيل نقاط سياسية.
التعبئة الفلسطينية في الثورة السورية
مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية في سوريا، ضغط نظام الأسد على الفصائل الفلسطينية في سوريا لدعمه ضد الشعب السوري، ولم يسمح حتى ببقاء الفلسطينيين السوريين على الحياد، وفيما يلي الاصطفافات الثلاثة لفلسطينيي سوريا تجاه الثورة السورية:
الحياد الهش
عندما بدأت الاحتجاجات الشعبية في تونس ومصر بين عامي 2010 و2011، والتي أدت إلى سقوط الرئيسين الحاكمين، رحب الفلسطينيون في سوريا بالأحداث بحماس وتفاؤل، وكانوا يأملون أن يعود نجاح هذه الثورات بالنفع على قضيتهم.
ومع ذلك، عندما وصلت الاحتجاجات إلى سوريا، كان رد الفعل الفلسطيني معتدلًا بسبب الخوف من رد فعل النظام. ووجد العديد من الفلسطينيين أنفسهم محاصرين بين الشعور بالهشاشة المرتبطة بوضعهم كلاجئين وتضامنهم مع الشعب السوري.
لقد رأت النسبة الأكبر من المجتمع الفلسطيني في سوريا أن البقاءَ على الحياد هو أفضل خيار، وحافظوا على حيادهم تجاه الأحداث في سوريا على الأقل في الأشهر التسعة الأولى من الثورة السورية، وكان هذا الرأي مبني على التجارب التي عاشها فلسطينيو الشتات.
وتوضح رواية فلسطينية سورية تدعى باسلة وهي ناشطة إنسانية تبلغ من العمر 45 عامًا، التمثيلات المختلفة التي دفعت فلسطينيي مخيم اليرموك إلى تبني موقف حذر تجاه الاحتجاجات السورية في بدايتها، فتقول:
“عندما بدأت الثورة السورية، كان الجميع في مخيم اليرموك قلقين من أي تورط، رحب البعض بالمشاركة وتنظيم الاحتجاجات، وقال آخرون علينا إبقاء المخيم محايدًا، ومع ذلك، اعتقد آخرون أن ما يحدث في سوريا لا يعنينا، كما تذكر آخرون ما حدث للفلسطينيين في الأردن ولبنان والكويت والعراق، كان الناس خائفين من أن يطردهم النظام السوري”.
ناشد العديد من الفلسطينيين السوريين الفصائل الفلسطينية في سوريا لإنشاء قوات مسلحة مشتركة تضمن حماية وحياد المخيمات، لكن هذه النداءات ظلت بلا إجابة. وفي منتصف عام 2011 حاول نظام الأسد صرف الانتباه عن الاحتجاجات المتزايدة في البلاد، وسمح بتنظيم مظاهرتان لإحياء ذكرى النكبة والنكسة في مايو/أيار ويونيو/حزيران 2011.
وكانت هذه هي المرة الأولى التي يسمح فيها النظام السوري للفلسطينيين بالسفر إلى قرية مجدل شمس الحدودية منذ توقيع وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل في عام 1974. في الواقع، كان النظام يريد أن يثبت للمجتمع الدولي أهميته الحيوية لأمن المنطقة وصرف الانتباه عن الأزمة الداخلية.
وعندما حاول المتظاهرون دخول فلسطين من بلدة مجدل شمس في مرتفعات الجولان، أطلق جنود إسرائيليون النار عليهم أمام أعين الجيش السوري، مما أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص بنيران الجيش الإسرائيلي خلال المظاهرة الأولى، و23 شخصًا خلال المظاهرة الثانية.
كان ذلك الحدث بمثابة لحظة فارقة في المزاج العام للفلسطينيين السوريين، ليس في مخيم اليرموك فحسب، بل في كل مخيمات دمشق وريفها، فقد ضعف الخطاب العقلاني الذي كان ينادي بحياد المخيمات.
وفي الأيام التي أعقبت مظاهرات النكبة، نُظِّمت مسيرات ومواكب جنائزية في شوارع اليرموك، واتهم الفلسطينيون الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة بالتلاعب بالفلسطينيين لصالح النظام وإرسالهم للقتل. وبلغت الاحتجاجات ذروتها بإشعال حريق في مكتب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في اليرموك، وأسفرت الاشتباكات اللاحقة بين الفلسطينيين وحراس الجبهة الشعبية عن مقتل ثلاثة أشخاص على الأقل.
ورغم أن الاحتجاجات التي نظمها الفلسطينيون بعد إحياء ذكرى النكسة كانت متعلقة بشكل مباشر بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان شعار الفلسطينيين الأكثر ترديدًا هو “الشعب يريد إسقاط الفصائل” مع ذلك شهدت الأشهر التالية احتجاجات متفرقة في مخيم اليرموك دعمًا للمعارضة السورية.
الوقوف مع النظام
في عام 2011، تولى نقيب سابق في الجيش السوري يدعى أحمد جبريل زمام المبادرة في قمع المعارضة الفلسطينية والسورية، وشكل الميليشيات الموالية للنظام من أجل للسيطرة على سكان المخيمات.
في الواقع، وقفت العديد من الفصائل الفلسطينية السورية إلى جانب الأسد، بل وحتى قاتلت من أجل النظام، وبعض هذه الفصائل صغيرة إلى الحد الذي يجعلها غير مهمة، بما في ذلك الصاعقة الجناح الفلسطيني لحزب البعث بزعامة فرحان أبو الهيجاء، وفتح الانتفاضة، وهي جماعة صغيرة منشقة عن فتح، بجانب عدد من الميليشيات الفلسطينية-السورية الموالية للنظام والتي أنشئت أثناء السنوات الأولى للثورة، مثل لواء القدس وقوات الجليل.
وقد صاغ مؤيدو الأسد الفلسطينيون رواياتهم عن الثورة السورية باعتبارها مؤامرة صهيونية مدعومة من الغرب للإطاحة بالنظام العربي الوحيد الذي لا يزال على استعداد لمواجهة إسرائيل. وظلت منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية صامتة بشكل ملحوظ بشأن الأحداث في سوريا رغم الزيارات الرسمية التي قام بها أعضاؤها إلى دمشق.
لقد كان هناك قلة من فلسطينيون يؤيدون النظام، ويؤمنون بروايته عن وجود مؤامرة كونية ضد سوريا، ويلخص الباحث الفلسطيني محمد أبو نحال وجهة النظر هذه بوضوح حين قال: “إذا سقط النظام السوري، فسيضيع الفلسطينيين كشعب وليس كقيادة، وسيفقدون حلفاءهم الاستراتيجيين في المنطقة والعالم أيضًا”.
مؤيدون للثورة
عكس المواقف التي اتخذتها معظم الفصائل الفلسطينية الرئيسية في سوريا، فقد تعاطف جزء كبير من الفلسطينيين في سوريا وخاصة الشباب مع المتظاهرين السوريين وانحازوا إلى الثورة السورية منذ بدايتها، في خطوة تعكس روح التعاون والتضامن المتبادل خلال أوقات الشدة.
إن أغلبية الذين تبنوا الثورة السورية من الفلسطينيين هم من المثقفين والأكاديميين وأبناء الطبقة المتوسطة الذين اعتقدو أن إسقاط النظام من شأنه أن يصب في مصلحة القضية الفلسطينية، بجانب شعورهم بأنهم أصبحوا جزءًا أصيلًا من المجتمع السوري، فإنهم لم يكونوا مؤيدين للثورة السورية بقدر ما كانوا مساهمين فيها.
وعلاوة على ذلك، اعتقد الفلسطينيون المعارضون للنظام أنهم ملزمون بمساعدة الشعب السوري الذي استضافهم منذ النكبة وعاش معهم جنبًا إلى جنب لعقود طويلة، لذلك لم يكن من المعقول أن يرى الفلسطينيون إخوانهم السوريين يعانون من الظلم والقمع دون أي تضامن وتعاطف.
ومع انتشار الاحتجاجات في مختلف أنحاء البلاد واستخدام النظام للعنف بشكل متزايد، بدأ العديد من الفلسطينيين في الانضمام إلى الاحتجاجات بشكل فردي. وقد نشر عدد من المخيمات الفلسطينية بيانًا في منتصف عام 2012 جاء فيه: “إننا نعلن موقفنا الواضح الداعم للثورة السورية.. ونحن كشباب فلسطيني في سوريا مهمتنا رد الدين للشعب السوري الذي احتضننا منذ 64 عامًا واعتبرنا جزءًا من مكوناته”.
كانت مشاركة الفلسطينيين في بداية الثورة السورية مقتصرة على تقديم الإغاثة والمساعدات الطبية والغذائية للمحاصرين في النقاط الساخنة وللسوريين النازحين الذين وصلوا إلى مخيمات الفلسطينيين بحثًا عن ملاذ آمن مع تصاعد عسكرة الثورة. والواقع أن معظم مخيمات الفلسطينيين مدمجة في المناطق الحضرية في المدن السورية، وهو ما يفسر جزئيًا لماذا لم يتمكن فلسطينيو سوريا من البقاء على الحياد أثناء الثورة.
وقد أغضب هذا التضامن النظام، واتهم الفلسطينيين بالانضمام إلى الاحتجاجات، في الواقع، كانت هناك سياسة واضحة من جانب النظام منذ وقت مبكر من الثورة السورية لمحاولة تأجيج التوترات بين الفلسطينيين والسوريين ونشر الدعاية بأن الفلسطينيين وراء المظاهرات التي اندلعت في بعض المدن السورية، مثل درعا واللاذقية.
لكن لم تفلح هذه الجهود، وتضامنت العديد من المخيمات الفلسطينية مع السوريين الذين فروا من القصف العنيف في أحيائهم ولجأوا إلى المخيمات الفلسطينية. كما استخدم المتظاهرون الشعار الشهير “واحد واحد واحد.. فلسطيني وسوري واحد” في العديد من المظاهرات التي حدثت في المخيمات الفلسطينية وخارجها.
وقد أدى تنظيم وتسليح ما سمي بـ “اللجان الشعبية” من قبل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لمحاربة الجيش السوري الحر إلى تسريع عسكرة الفلسطينيين المؤيدين للثورة، وبدأ الفلسطينيون في الانضمام إلى الجيش السوري الحر والجماعات المسلحة السورية بل وحتى تشكيل جماعات مسلحة خاصة بهم، وأصبحت كتائب أكناف بيت المقدس ـ التي ضمت مقاتلين سابقين من حماس ـ واحدة من أهم الجماعات الفلسطينية المعارضة للنظام.
نزوح وشتات آخر: الوجه الحقيقي لدعم الأسد للفلسطينيين
في الواقع، حوصرت غالبية المخيمات الفلسطينية وقصفت من النظام وحلفاؤه من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وعانى الفلسطينيين من جرائم الحرب والتجويع والموت. وتؤكد العديد من التقارير أن الفلسطينيين السوريين تعرضوا على يد النظام لنفس الانتهاكات التي تعرض لها السوريون الذين وقفوا ضد النظام.
وقبل عام 2011، كان يعيش في سوريا أكثر من 560,000 ألف فلسطيني وفقًا للأونروا، وأثناء سنوات الأولى للثورة، نزحت الغالبية العظمى من منازلهم، وتمزقت وتشتتت داخل وخارج سوريا.
فقد نزح 280 ألف فلسطيني داخليًا، وفر حوالي 150 ألف إلى البلدان المجاورة، الأردن ولبنان ومصر وتركيا والعراق، بينما كان آخرون أكثر حظًا في البقاء على قيد الحياة في الرحلة المحفوفة بالمخاطر إلى أوروبا أو ما سمي بـ قوارب الموت”.
وفي الفترة من 2011 حتى 2022، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 3207 فلسطيني سوري قتلوا على يد نظام الأسد، بينهم 497 ماتوا تحت التعذيب في سجون النظام. بجانب اختفاء أكثر من 3000 فلسطيني قسرًا في السجون السورية منذ عام 2011. وبعد سقوط النظام، أُطلق سراح 40 فلسطينيًا من السجون، ولا تزال الجهود مستمرة لكشف مصير حوالي 3000 فلسطيني مفقود.
سوريا الجديدة: مستقبل فلسطينو سوريا
بعد سقوط نظام الأسد، ألزمت الإدارة الجديدة جميع الفصائل الفلسطينية التي كانت لها صلات بالأسد بحل نفسها وتسليم أسلحتها وخاصة السلاح الثقيل. واستولت إدارة العمليات العسكرية على مقر قيادة الصاعقة في منطقة العباسيين بدمشق، ومكتب أحمد جبريل الذي ورثه ابنه أبو العمرين.
أما المجموعات والفصائل الفلسطينية التي نشأت في أعقاب الثورة، مثل لواء القدس بقيادة محمد السعيد، وحركة فلسطين حرة بقيادة سائد عبد العال، وحركة فلسطين الديمقراطية بقيادة مازن شقير، فانتهت بهروب قادتها، ومحاولة بعضها تسوية أوضاعهم مع السلطات الجديدة في دمشق، وهو ما شكل نهاية عصر الفصائل الفلسطينية المسلحة في سوريا.
وقد تدخل القيادي في حركة حماس خالد مشعل، لدى “إدارة العمليات العسكرية” لحل إشكالات تخص بعض الفصائل، وجرى التوافق على محاسبة المتورطين في ارتكاب جرائم حرب، وخلال الأسابيع الماضية نفذت إدارة العمليات العسكرية حملة أمنية واسعة في بعض المخيمات الفلسطينية، واعتقلت عناصر سابقون في حركة فلسطين حرة ولواء القدس الذي كان يتبع للنظام.
أما فلسطينيو سوريا، فبعد سقوط نظام الأسد، بدأوا في استعادة صوتهم، وقد أعاد التحرير الأمل والفرحة إلى المخيمات، إذ بدأ السكان في العودة إلى ديارهم التي فروا منها، وبدأو في تنظيف الشوارع وإصلاح وترميم عدد من المساجد.
وقد أعرب العديد من الفلسطينيين السوريين الذين تحدثوا إلى العربي الجديد عن عدم وجود مخاوف من الإدارة الجديدة. في الواقع، هناك مقاتلين فلسطينيين في صفوف هيئة تحرير الشام شاركوا في عملية التحرير.
وجدير بالذكر أن الإدارة الجديدة في سوريا لم تتدخل في عمل المؤسسات المدنية الفلسطينية، واستمرت الجمعيات الخيرية والإغاثية الفلسطينية في عملها داخل المخيمات والتجمعات الفلسطينية في سوريا. كما دخلت من الشمال السوري بعد سقوط النظام “هيئة فلسطين التنموية” وبدأت عملها في المخيمات الفلسطينية.
أما بالنسبة للوضع القانوني الحالي لفلسطيني سوريا بعد تحرير دمشق، فاليوم يستطيع الفلسطيني الدخول إلى سوريا بشكل طبيعي من دون تصاريح ورشاوي كما كان الحال في عهد النظام السابق. لكن هناك عدة تحديات تواجه الفلسطينيين في سوريا، أبرزها ضعف الهيئات التمثيلية الفلسطينية السورية، وإعادة بناء المرافق الأساسية في المخيمات الفلسطينية.
وحسب مدير مديرية شؤون الفلسطينيين محمد بدر فلا توجد حاليًا سياسة أو خطط لتوطين الفلسطينيين بسبب وجود قوانين ناظمة للتعامل معهم، وأهمها القانون 260 لعام 1956، لكن هناك شريحة من الفلسطينيين تطالب بمنحهم الجنسية السورية لتسهيل أمورهم في سوريا، ويعتبر العديد من الفلسطينيين أن الحصول على الجنسية السورية لن يسقط حق العودة.
فيما تدعو مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا إلى عدم تغير الوجود القانوني للفلسطينيين في سوريا، والحفاظ على القوانين والتشريعات الناظمة لوضع الفلسطينيين، وخاصة القانون رقم 260 لعام 1956.
ويرى الفلسطينيون في سوريا أن القضية الفلسطينية قد لا تكون أولوية لدى الإدارة الجديدة الآن، لكن نجاح الثورة السورية انعكس إيجابيًا على فلسطينيي سوريا، ففي سابقة تاريخية، أعلن أحمد الشرع، تعيين “غياث دياب” وزيرًا للنفط، ليكون بذلك أول فلسطيني يتولى منصب وزير في تاريخ البلاد، كما أعلنت وزارة الاقتصاد في الحكومة السورية عن تعيين المهندس مؤيد البنا مديرًا لهيئة المدن الصناعية في سوريا وهو فلسطيني سوري.
وحسب الصحفي الفلسطيني “علي بدوان” في حوار له مع تلفزيون سوريا، فإن القيادة السورية الجديدة تريد وضع الأسس لحياة سياسية ومجتمعية جديدة، لذا فتحت المجال أمام التطبيق الخلاق للمرسوم 260 الذي صدر في عام 1956، وأصدرت عدة قرارات خلال الأسابيع الماضية بتصعيد شخصيات فلسطينية ومدراء هيئات ومؤسسات معبرة عن طموحات الفلسطينيين في سوريا.