قبل 74 عامًا من الآن، وتحديدًا في الـ6 من أغسطس/آب عام 1945، وفي نحو الساعة 8:15 صباحًا بتوقيت اليابان، أسقطت قاذفة القنابل الأمريكية “إينولا جاي” Enola Gay قنبلة ذرية لم يتم اختبارها من قبل، وحملت اسم “الولد الصغير”، فوق مدينة هيروشيما اليابانية.
كان الدمار لا يشبه أي شيء في تاريخ الحرب، حيث أدَّى الانفجار الناجم إلى مقتل 70 ألف شخص على الفور، وبحلول ديسمبر/كانون الأول من عام 1945، ارتفع عدد القتلى إلى نحو 140 ألف شخص، في حين بقيت قاذفة “B-29” المحمولة جوًا، تحوم فوق سحابة مرعبة من الدخان.
ساعدت هذه اللحظات المروّعة في تسريع نهاية الحرب العالمية الثانية، وأطلقت الضوء الأخضر لبداية عصر أسلحة الدمار الشامل، وبدأت مناقشة أخلاقية بشأن قرار استخدام الأسلحة النووية التي استمرت لأكثر من 70 عامًا، وامتدت إلى أسئلة عن الطائرة نفسها.
طائرة الموت
“إينولا جاي” هي قاذفة قنابل ثقيلة من طراز “بوينغ بي-29 سوبر فورترس”، صنعتها شركة بوينغ الأمريكية بين عامي 1943 و1946، وسُميت بهذا الاسم نسبة لوالدة الطيار بول تيبيتس، أفضل طياري القوات الجوية الأمريكية، وهو أول طيار يُلقي قنبلة نووية في الحرب العالمية الثانية، التي راح ضحية انفجارها عشرات الآلاف من اليابانيين.
في حين لم تُسقط “إينولا جاي” القنبلة على ناغازاكي، إلا أنها قامت برحلة للحصول على بيانات عن الطقس في الفترة التي سبقت الغارة الثانية على اليابان
كانت “إينولا جاي” من أكبر الطائرات في أثناء الحرب العالمية الثانية والأكثر تطورًا في ذلك الوقت، فقد جُردت من كل شيء ما عدا الضروريات، بحيث يكون وزنها أقل بآلاف الأرطال من الطائرة العادية، وزُودت بتقنية ضغط المقصورة ونظام إلكتروني لمراقبة الحرائق وبتقنية التحكم بالمدافع الرشاشة عن بعد.
عام 1945، أُوكلت لهذه القاذفة التي أًطلق عليها لاحقًا “طائرة الموت” مهمة مثيرة، لم تكن مثل أي مهمة أخرى، إذ يذكر ذلك ملاَّح الطائرة ثيودور فان كيرك، آخر الراحلين الـ12 الذين شكَّلوا طاقم الطائرة الأمريكية، قائلاً قبل وفاته عام 2014: “على الفور، انعطف تيبيتس بالطائرة 180 درجة، لقد فقدنا 2000 قدم، وهربنا بأسرع ما يمكن، كل ما رأيناه في الطائرة كان ومضة مشرقة، بعد ذلك بوقت قصير، أصابتنا موجة الصدمة الأولى”.
طاقم الطائرة الأمريكية “إينولا جاي” التي نفذت الضربة النووية على هيروشيما
عادت الطائرة إلى جزيرة تينيان – في الجزء الجنوبي من جزر المحيط الهادئ الغربية – التي أتت منها، وبعد بضعة أيام، في 9 من أغسطس/آب، أسقطت الولايات المتحدة قنبلة ذرية أخرى، هذه المرة على ناغازاكي، وفي حين لم تُسقط “إينولا جاي” القنبلة على ناغازاكي، إلا أنها قامت برحلة للحصول على بيانات عن الطقس في الفترة التي سبقت الغارة الثانية على اليابان.
بعد الحرب، أقلعت الطائرة عدة مرات، وعقب الحرب العالمية الثانية، حلَّقت طائرة “إينولا جاي” ضمن القوات الجوية التابعة للجيش خلال برنامج اختبار نووي في المحيط الهادئ، تم تسليمها لتخزينها في مطار بأريزونا قبل نقلها إلى ولاية إلينوي غرب الولايات المتحدة، ثم نقلها إلى مؤسسة سميثسونيان البحثية في يوليو/تموز 1949، ولكن حتى تحت رعاية المتحف التابع للمؤسسة التي تمولها وتديرها الحكومة الأمريكية، ظلت الطائرة في قاعدة للقوات الجوية بتكساس.
مصير الطائرة
قامت الطائرة برحلتها الأخيرة عام 1953، ووصلت في 2 من ديسمبر/كانون الأول إلى قاعدة أندروز الجوية في ولاية ماريلاند، وبقيت هناك حتى أغسطس/آب من عام 1960، حتى نما القلق لدى المنادين بالحفاظ على الآثار التاريخية القديمة من اندثار قطعة أثرية تاريخية إذا بقيت في الخارج لفترة أطول، لذلك عمد موظفو سميثسونيان تفكيك الطائرة إلى أجزاء أصغر ونقلوها للداخل.
استغرق الأمر حتى عام 2003 لعرض الطائرة بالكامل في مركز “ستيفن إف أودفار هازي” الذي يُدار من مؤسسة سميثسونيان
في الوقت الذي اقتربت فيه الذكرى السنوية الـ50 لتفجيرات اليابان النووية، كان سميثسونيان قد أمضى ما يقرب من عقد من الزمن على استعادة الطائرة للعرض في متحف الطيران والفضاء الوطني التابع للمؤسسة، وهو المتحف الأكثر شعبية منها، لكن عندما شاهد مقاتلون من سلاح الجو المعرض الذي يضم أكبر عدد من الطائرات والمركبات الفضائية في العالم، بدأت الذكرى بجولة جديدة من الجدل بشأن الطائرة.
بعد أشهر من انتقادات المحاربين القدامى وأعضاء الكونغرس وغيرهم، وافقت مؤسسة سميثسونيان على إجراء تغييرات كبيرة في معرضها المخطط للطائرة التي أسقطت قنبلة ذرية على هيروشيما، فمنذ ذلك الحين لم يتضمن العرض سردًا طويلًا عن السباق النووي لما بعد الحرب الذي انتقدته مجموعات المحاربين القدامى وأعضاء الكونغرس.
كذلك حذف المعرض بعض العناصر التي قال النقاد إنها تناولت الآثار الرهيبة للقنابل الذرية التي أُسقطت على هيروشيما وناغازاكي عام 1945، وهي الهجمات التي أنهت الحرب العالمية الثانية، وسيعدل المتحف أيضًا تقدير عدد الإصابات التي ستكون ناجمة إذا لم تستخدم القنابل وغزت الولايات المتحدة اليابان بدلاً من ذلك.
الطائرة الأمريكية “إينولا جاي” في معرض خاص بمتحف الطيران والفضاء الوطني
لم يكن الجدل الدائر – بحسب مقال لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية – يخص المعرض الذي يضم قاذفة “بي-29″، بل كان بحسب النقاد جزءًا من رسالة مشحونة سياسيًا مفادها أن إسقاط القنبلة الذرية على اليابان كان بداية فصل مظلم في تاريخ البشرية.
اُفتتحت تلك النسخة من المعرض في مايو/أيار عام 1995، وعرضت أكثر من نصف أجزاء الطائرة التي لم يُستكمل ترميمها بعد، وأثبت المعرض شعبيته، فعندما اُغلق عام 1998، كان نحو 4 ملايين شخص قد قاموا بزيارته، وفقًا لتقرير صادر عن مجلة Air Force Magazine’s Correll، وكانت تلك الزيارات هي الأعلى من أي وقت مضى لمعرض خاص في متحف الطيران والفضاء الوطني.
استغرق الأمر حتى عام 2003 لعرض الطائرة بالكامل في مركز “ستيفن إف أودفار هازي” الذي يُدار من مؤسسة سميثسونيان، ويضم المتحف الوطني للطيران والفضاء في شانتيلي بولاية فرجينيا، وقد أثار هذا الافتتاح الاحتجاج مرة أخرى، لكن لا يزال من الممكن رؤيتها هناك، وطالما كانت معروضة، من المحتمل أن تستمر الأسئلة التي تطرحها.