إنها أكثر الأماكن سخونة، وأكثرها جفافًا، وأكثرها ضراوة على وجه الأرض، وهي برية قاحلة لم تشهد هطول الأمطار منذ سنوات، وصحراء شاسعة في المملكة العربية السعودية، وأيضًا واحدة من أكثر البيئات المتطرفة وغير المضيافة في العالم، لكن مع انطلاق مارك إيفانز منذ 4 سنوات ليصبح أول غربي، خلال 85 عامًا، يعبر ما يسمى “الربع الخالي” في شبه الجزيرة العربية، فُتحت وثائق استكشاف هذه البقعة القاحلة التي تحولت أجزاء منها خلال عقود قليلة من صحراء جرداء إلى واحة خضراء، لكن متى بدأ بالفعل السباق الأوروبي لعبور أكبر صحراء رملية على وجه الأرض؟
عابرو الربع الخالي
في نهاية كتابه “الرمال العربية”، يكتب المستكشف البريطاني ويلفريد ثيسجر عن تناوله الغداء مع رفاقه البدويين وأصدقائه من قبيلة الرواشد الكثيرية، سالم بن غبيشة وسالم بن كبينة، في منزل صديق قديم لعالم النبات البريطاني إدوارد هندرسون الذي جاء إلى منطقة الساحل المتصالح (دولة الإمارات حاليًّا) وسلطنة عُمان عام 1948 كممثل شركة نفط العراق، وهي الشركة التي كانت تمتلك امتيازًا للتنقيب عن النفط.
صاغ ويلفريد ثيسجر كتابًا عن رحلاته في الصحراء بعنوان “الرمال العربية”
كان ذلك عام 1950، وخلال السنوات الخمسة السابقة، استكشف ثيسجر – الذي عرفه أهالي الرمال والواحات العربية باسم مبارك بن لندن – الربع الخالي، ثاني أكبر صحراء في العالم التي تحتل الثلث الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، وتتجزأ حاليًّا بين أربع دول هي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان واليمن، ويقع الجزء الأعظم منها داخل الأراضي السعودية.
كان ثيسجر، الجندي والدبلوماسي وبطل الملاكمة أيضًا، المولود في أديس أبابا عام 1910، يُعرِّف أتباعه الصغار على تناول الطعام الغربي بالسكاكين والشوك، ويروي في كتابه أنه قال لسالم بن كبينة: “بينما كنت معكم في الصحراء، أكلت وعشت كما تفعلون، الآن أنتم ضيوفنا، يجب أن تتصرفوا كما نفعل”.
بينما كتب ثيسجر اسمه في كتب التاريخ خلال رحلته الصحراوية، أزعج الأوروبيون رمال هذه الأرض قبل سنوات
ومن خلال وصفه للحياة في هذه المنطقة من الجزيرة العربية، كان ثيسجر – الذي رحل عن عالمنا في أغسطس/آب 2003 – واحدًا من الأجانب القلائل الذين حصلوا على فرصة قضاء فترة طويلة في الداخل العُماني، كما أشار ثيسجر إلى أن تحديد حدود عمان كان أمرًا صعبًا في أواخر الأربعينيات، وأخذته تنقلاته إلى مناطق تحت سيطرة عدد من الدول التي تشمل اليوم السعودية وعُمان والإمارات، التي لم تكن على اتصال بالخارج.
وفي إشارة إلى مدى عزلة المنطقة في ذلك الوقت ليس عن الغرب فقط، ولكن أيضًا عن مناطق أخرى من العالم العربي، ذكر الرحالة البريطاني حادثة واحدة وقعت عندما حاول إظهار نفسه كسوري، فسأله رفاقه البدو: أين تقع سوريا؟ لذلك يعد كتابه من ضمن القليل المتوافر عن فترة ما قبل النفط.
“الرمال العربية” الذي نُشر قبل أكثر من 6 عقود من هذا العام، يبقى قراءة مقنعة لمغامرات الرحالة الأوروبيين وجنونهم بالشرق، وبالأخص في منطقة شبه الجزيرة، ويروي السرد الواضح الأسفار التي قام بها ثيسجر في الصحراء، ويوثق تفاصيل عبوره مرتين للربع الخالي مع دليله البدوي بين عامي 1945 إلى عام 1950، ويحتفظ الكتاب بصور مذهلة اليوم كما كان عندما وُضع على رفوف الكتب لأول مرة.
سالم بن كبينة وسالم بن غبيشه المرافقون لمبارك بن لندن
ولكن عندما غادر ثيسجر الجزيرة العربية كان يشعر بالقلق إزاء ما يحمله المستقبل لأصحابه البدويين، كان كلاهما إلى جانبه في أثناء رحلاته في “الربع الخالي” وحوله، ولكن نظرًا لأن النفط كان يغير بالفعل حياة الأشخاص الذين يعيشون في المنطقة، فقد خشي ثيسجر من أن حياة البدو قد حُكم عليها بالفناء.
ومع ذلك، فقد حقق المستكشف الأوروبي الأول رغبةً قلبية، أو كما أشار إليه نادي المستكشفين – الذي كان نقطة التقاء للمستكشفين والعلماء في جميع أنحاء العالم – بنيويورك عام 1930، بأنه استكشف “أوسع مساحة في المنطقة غير المستكشفة خارج القارة القطبية الجنوبية”، كما جاء هذا الوصف في كتاب “أطلس الأماكن الغامضة: رحلة عبر عالمنا البري المتميز”.
على خطى بيرترام توماس
هذا المخضرم في الحرب العالمية الثانية لم يكن أول مستكشف أوروبي للصحراء، فقبل فترة طويلة من ظهور ثيسجر في الربع الخالي، وقبل نحو 30 عامًا من إطلاق “الرمال العربية”، استضافت صحراء الربع الخالي بالفعل الاستكشاف الغربي، وبينما كتب ثيسجر اسمه في كتب التاريخ خلال رحلته الصحراوية، أزعج الأوروبيون رمال هذه الأرض قبل سنوات.
مارك إيفانز: “لدي دائمًا الإعجاب بهؤلاء الأشخاص الذين دخلوا المنطقة المتخفية، وكان توماس بالتأكيد ذلك الرجل”
كان الموظف في وزارة المستعمرات البريطانية بيرترام توماس (1893- 1950) أول غربى يعبر الربع الخالي. لم تكن الصعوبة المحتملة للرحلة لتردع برترام توماس، ذلك المستكشف البريطاني الجريء الذي انطلق من الجنوب إلى الشمال في 10 من ديسمبر/كانون الأول 1930، بقيادة مرشده البدوي الشيخ العُماني صالح بن كلوت الرشيدي الكثيري، في تحدٍ للمجهول، سارا لمسافة ألف كيلومتر تقريبًا من صلالة على ساحل عُمان عبر المملكة العربية السعودية حتى وصلا إلى الدوحة عاصمة قطر بعد 59 يومًا.
كان ذلك إنجازًا فائقًا وضع هذا الضابط السياسي البريطاني على الصفحة الأولى لصحيفة “نيويورك تايمز“، تحت عنوان ” الرجل الأبيض يعبر الصحراء العربية للمرة الأولى”. الآن، وبعد مرور نحو 89 عامًا، واجه المستكشف البريطاني الرائد مارك إيفانز التحدي مرة أخرى، رفقة فريق عماني بنفس الشجاعة، شرع في رحلة طولها 1300 قدم مشيًا على الأقدام والجِمال في ديسمبر/كانون الأول 2015، عبر نفس المنطقة الصحراوية في 49 يومًا.
يقول مارك إيفانز، وهو مؤلف كتاب 2016 “عبور الربع الخالي: على خطى بيرترام توماس”: “لدي دائمًا الإعجاب بهؤلاء الأشخاص الذين دخلوا المنطقة المتخفية، وكان توماس بالتأكيد ذلك الرجل”.
يمثل “عبور الربع الخالي” احتفالًا كبيرًا بالرحلة من جميع جوانبها، ومن خلال الجمع بين التصوير الفوتوغرافي الشامل – الأرشيف والمعاصر – ونص موثوق وقابل للقراءة، سيكون هذا الكتاب استكشافًا فريدًا للمنطقة كما كان قبل أكثر من 8 عقود من الزمان، وكما هو عليه الحال اليوم.
صورة للبدو من ألبوم رحلة برترام توماس
عرف توماس أنه لن يحصل أبدًا على إذن رسمي لرحلته الرائدة فغادر سرًا، وكانت تلك خطوة جريئة آتت ثمارها بعدما قطع مسافة تعدت الألف كيلومتر من الصحراء الحارقة.
أشاد إيفانز، المدير التنفيذي لشركة “أتوارد باوند عُمان” Outward Bound Oman، باتباعه طريق توماس عبر الربع الخالي، مما دفعه لكتابة هذا الكتاب، الذي كان، كما يقول، فرصةً لإعادة مواطِنه (توماس) إلى الخريطة، ويقول إيفانز: “لقد طغت عليه تمامًا مهارات ومواهب وإنجازات ثيسجر، من حيث كونه مصورًا رائعًا وكاتبًا عظيمًا، وعبور الربع الخالي مرتين”.
ويمكن القول إن رحلة ثيسجر الأكثر شهرة تضمنت سنوات من الاستكشاف المتفاني، لكن رحلة توماس التي استغرقت شهرين لم تنج من احتمال ظهور القبائل المتحاربة والبيئة القاسية التي منحت هذه الصحراء التي تبلغ مساحتها 650 ألف كيلومتر مربع سمعتها المخيفة.
استغرق الأمر من توماس وثيسجر بعض الوقت للتكيف مع عدم إمكانية التنبؤ بالنظام والروتين في السفر إلى الصحراء، هذا إلى جانب حقيقة أنهم كانوا مسيحيين، وكان من الممكن أن يكون ذلك سببلاً في قطع رقابهم في أي لحظة لو تم اكتشافهم، وهذا يضيف بحسب إيفانز “القليل من المغامرة إلى الحياة ويجعل قلبك ينبض أسرع قليلاً”.
السباق نحو غزو الربع الخالي
فيما يتعلق بمسائل الدين، لم يكن لدى المغامر الأوروبي الثاني في الربع الخالي مثل هذه المخاوف. كان اسمه جون فيلبي، واعتنق الإسلام بحلول عام 1930، ورغم إيمانه ودوره كمستشار للملك عبد العزيز (أول حاكم في المملكة العربية السعودية)، منذ العشرينيات من القرن الماضي، تعرض فيلبي للضرب على يد برترام توماس.
كانت هذه رغبة فيلبي في أن يصبح أول غربي يمر عبر الربع الخالي، وبالتحديد معظم الثلث الجنوبي من شبه الجزيرة العربية، حتى إنه حبس نفسه لمدة أسبوع كامل بعد أن علم بنجاح توماس، وبعد دخوله في نوبة بكاء، كتب المواطن البريطاني إلى زوجته، دورا، في إنجلترا: “اللعنة على توماس، لقد أقسمت ألا أعود إلى المنزل حتى أعبر الربع الخالي مرتين، وألا أترك أي شيء فيه للمسافرين في المستقبل”.
تولى ثيسجر بحثًا ظاهريًا في أراضي تكاثر الجراد، حيث عمل في السعودية مع منظمة أبحاث الجراد الصحراوي، وفي الوقت نفسه، كان يتطلع لاستكشاف المناطق الجنوبية من شبه الجزيرة العربية
في كتابه “ويلفريد ثيسجر: حياة المستكشف العظيم”، يقول ألكساندر مايتلاند، إن وضع فيلبي يعني أنه غير قادر على المنافسة مع توماس، لكن المزايا التي امتلكها الأول، وعلى الأخص علاقته بالعمل مع الملك عبد العزيز، كانت الأشياء التي جعلته يحتل المرتبة الثانية”.
بحثًا عن دعم وإذن من الملك السعودي، وجد فيلبي – الذي كان ابنه كيم فيلبي، العميل البريطاني المزدوج الذي انشق عن الاتحاد السوفيتي في أثناء الحرب الباردة – نفسه تحت رحمة نعمة عبد العزيز، وعندما منحه الحاكم السعودي إذنًا للتنقيب عن النفط في منتصف ديسمبر/كانون الثاني 1931، كان فيلبي مصممًا على شق طريقه عبر الربع الخالي، من خلال استكشاف هذا المحيط من الكثبان الرملية على نطاق أوسع.
بذل فليبي جهده في مناصرة عبد العزيز آل سعود
ابتداءً من يناير/كانون الثاني عام 1932، دفعته حملته للتعويض عن خيبة أمله السابقة إلى التحقيق في المنطقة الواقعة بين الهفوف والسليل في المملكة العربية السعودية اليوم، وقطع مسافة تصل إلى 2700 كيلومتر من السفر الشاق. يقول مايتلاند: “كجزء من هذه الرحلة، عبر أكثر من 600 كيلومتر بين الآبار، ومع عدم وجود ماء، باستثناء ما كانوا يحملونه، كان هذا إنجازًا هائلاً”.
عندما أخذ ثيسجر العصا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تولى بحثًا ظاهريًا في أراضي تكاثر الجراد، حيث عمل في السعودية مع منظمة أبحاث الجراد الصحراوي، وفي الوقت نفسه، كان يتطلع لاستكشاف المناطق الجنوبية من شبه الجزيرة العربية، حيث لم يجرؤ توماس ولا فيلبى على الوصول للكثير منها، مثل الرمال المتحركة لسبخة أم السَّميم، تقع على الحدود بين المملكة وسلطنة عُمان، أكبر السبخات (أرض مستوية) الداخلية في الجزيرة العربية، ويبلغ طولها نحو 100 كيلومتر.
قبل وفاته بـ3 سنوات في إنجلترا، أدرك ثيسجر أن أماكن مثل أبو ظبي قد تغيرت بشكل لا رجعة فيه، وأن البترودولار والتقنيات الحديثة حولت الخليج إلى الأبد
تدخل فيلبي، الذي توفي في بيروت عام 1960، لطلب عفو عن ثيسجر من الملك عبد العزيز، بعد اعتقال ثيسجر لدخوله المملكة العربية السعودية دون إذن، وأُطق سراحه بعد أن أمضى ليلةً في الحجز.
نشر ثيسجر عملاً يوثق رحلاته عبر الربع الخالي، وكذلك فعل فيلبي في كتابه “الربع الخالي”، وتوماس في كتاب “العربية السعيدة: عبور الربع الخالي في الجزيرة العربية”، رغم ذلك يؤكد كل من إيفانز ومايتلاند أن شهرة ثيسجر الكبرى اليوم يمكن أن تُعزى إلى أن أسلوبه في الكتابة كان أكثر سهولة في “الرمال العربية”، فضلاً عن نشر الكتاب خلال عصر وسائل الإعلام الجماهيرية.
في المقابل، كان لدى جو وولف، مؤلف كتاب “الأفق العظيم: 50 حكاية استكشاف”، إعجاب خاص بتوماس الذي توفي عام 1950، إذ لم يكن توماس فقط أول أوروبي يجتاز الربع الخالي في رأي وولف، بل أشاد بالطريقة التي أكمل بها توماس مغامرته، ويقول وولف: “لم يكن يبحث عن الإنجازات، هذا الإنجليزي الملتزم الذي أصبح وزيرًا للمالية ووزيرًا لسلطان مسقط وعمان كان لديه شعور بالنزاهة”.
كان البدو الأشخاص الوحيدين الذين عرفوا كيفية الصيد ورعاية الإبل والعثور على آبار المياه
كان ثيسجر حساسًا للتغيرات في المنطقة حتى قبل مغادرته الجزيرة العربية، وفي خطاب أرسله إلى والدته كاثلين عام 1948، كتب أن أبوظبي كانت لا تزال “ميناءً صغيرًا جدًا على الخليج العربي وحتى الآن غير ملوث تمامًا، لكن مسَّاحي النفط وغيرهم مشغولون في المنطقة، وأخشى أن يجدوا النفط وأن كل هذا سينتهي”.
بعد سنوات قليلة، أثبت تنبؤ ثيسجر بالحداثة صحته، وبعد أن قام بزيارته الأخيرة لدولة الإمارات العربية المتحدة عام 2000، أي قبل وفاته بـ3 سنوات في إنجلترا، أدرك أن أماكن مثل أبو ظبي قد تغيرت بشكل لا رجعة فيه، وأن البترودولار والتقنيات الحديثة حولت الخليج إلى الأبد.
لكن ما أفضل طريقة للحكم على إرث توماس وفيلبي وثيسجر؟ يجادل مايتلاند بأنه يجب الإشادة بهم جميعًا لإنجازاتهم الفردية، وليس لمجرد مقارنتهم كمستكشفين صحراويين، ويقول إن كل من هؤلاء الرجال يقفون منفصلين كشخصيات مهمة في حد ذاتها”.
اليوم، تم استبدال الجمال بمركبات رباعية الدفع مكيفة الهواء حيث تدفق السياح إلى المنطقة للتمتع بمغامرة الحياة الصحراوية، لكن الربع الخالي لا يزال يحمل بعض الغموض الذي يلقي ظلالاً على المغامرين والمستكشفين الغربيين منذ أجيال.