صيف العام 2014، فوجئ العالم بأسره، بإعلان زعيم تنظيم الدولة الإسلامية عودة “الخلافة” وتنصيب نفسه خليفة على المسلمين القاطنين بالمناطق التي يسيطر عليها التنظيم في العراق وسوريا، من على منبر جامع النوري بمدينة الموصل العراقية، محدثًا بذلك زلزالاً وصلت ارتداداته للبيت الأبيض الأمريكي الذي سرعان ما أعلن الاستنفار العام لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
كان إعلان زعيم تنظيم الدولة أبي بكر البغدادي إقامة “الخلافة” نهاية شهر يونيو 2014، بمثابة الصدمة غير المنتظرة للنظام الدولي، الذي لم يكن يتوقع أن تكون خطوة جهاديي التنظيم كسر الحدود وتنصيب خليفة وتلقي البيعات من داخل العراق وسوريا وخارجهما، والتوسع للدخول في مرحلة الجهاد الكوني بدل القطري.
وبعد أشهر قليلة من تنصيب الخليفة والتحاق جماعات جهادية عديدة بالخلافة ومبايعة كبار قادتها لأبي بكر البغدادي خليفة عليهم، بدأت جحافل الدولاويين بالتقدم صوب مدن ومحافظات عراقية وسورية أخرى، ملحقين بخصومهم هزائم مدوية، ليتمكنوا من السيطرة على مساحات واسعة سرعان ما أخضعوا سكانها لما سموه “سلطان الخلافة”.
ورغم هذه السيطرة الواسعة على مناطق متفرقة من العراق وسوريا وتكوين نواة دولة لا قطرية لا تعترف بالحدود والقوانين الوضعية في تسيير دواليبها، لم تتمكن دولة التنظيم الجهادي من الصمود لأكثر من 3 سنوات دمرت خلالها مدن ومحافظات سنية بفعل اشتداد المعارك بين الجهاديين وخصومهم المتحالفين ضدهم.
وقد يخطئ من يظن أن التحالف الدولي كان السبب الوحيد لهزيمة تنظيم الدولة وتقهقره وسقوط عاصمتيه العراقية والسورية، فالأسباب متعددة، ولعلنا لا نفاجئ القارئ إن قلنا إن التنظيم كان له الدور الأبرز في إلحاق الخسارة بنفسه
وخلال السنوات الماضية، تابع عدد كبير من الكتاب والباحثين والمراكز المتخصصة باهتمام قصة صعود تنظيم الدولة وإقامة “دولة الخلافة” وألفت في ذلك آلاف المقالات والأبحاث المنشورة وغير المنشورة، إلا أن المقالات والأبحاث التي تحلل أسباب سقوط تنظيم الدولة وانهياره، بالكاد موجودة بين أيدينا، رغم تحذيرات صدرت مؤخرًا من جهات مرموقة تحذر من عودة الجهاديين لسالف نشاطهم وقوتهم في المستقبل القريب.
وقد يخطئ من يظن أن التحالف الدولي كان السبب الوحيد لهزيمة تنظيم الدولة وتقهقره وسقوط عاصمتيه العراقية والسورية، فالأسباب متعددة، ولعلنا لا نفاجئ القارئ إن قلنا إن التنظيم كان له الدور الأبرز في إلحاق الخسارة بنفسه، بفعل غرور مقاتليه وعدم إعداد السيناريوهات والخطط العسكرية البديلة في حربهم ضد العالم بأسره، ناهيك عن تمكن الغرور من مقاتليه وعدد من قادته الذين صاروا يتحدثون عن اقتراب مرحلة “جهاد الطلب” وقرب انتهاء “جهاد الدفع”.
التمدد العددي وأثره العكسي
لقد كان لكسر الحدود وإزالتها بين العراق وسوريا وإعلان سقوط الأنظمة القطرية والترويج للخلافة على أنها السبيل الكفيل بإعادة أمجاد المسلمين وتذويب الفروقات بينهم، الأثر البالغ في التحاق عدد كبير من المقاتلين والجماعات الإسلامية المقاتلة في سوريا بتنظيم الدولة ومبايعة زعيمها أبي بكر البغدادي، وهو ما كان له الأثر البالغ في تقوية شوكة التنظيم وساهم بشكل بالغ في مواصلة زحفه نحو مناطق محرم دخولها على غرار العاصمة العراقية بغداد والكردية أربيل، وهو الأمر الذي لم يلق له بال قياديو التنظيم في أثناء قيادتهم للمعركة.
كان التحاق آلاف المقاتلين الجدد بمعسكرات التنظيم سلاحًا ذو حدين بالنسبة لتنظيم الدولة، فمن جهة، بدأ عدد المقاتلين في اتساع وتضخم، ومن جهة أخرى، لم يكن التنظيم محصنًا من الاختراقات كما لم يكن قادرًا على تكوين نواة صلبة تشبه الجيوش النظامية المعروف
في أثناء الأشهر الأولى لإعلان أبي بكر البغدادي الخلافة، وتنصيب نفسه خليفة، صدرت فتاوى من اللجان الشرعية للتنظيم تلزم جميع الجماعات الإسلامية المقاتلة في سوريا بالالتحاق بالتنظيم ومبايعة الخليفة، معتبرة المتخلف على ذلك بالآثم بل وصلت بعض الفتاوى لتكفيره، وهو ما كان سببًا في حدوث أمرين عظيمين في تاريخ تنظيم الدولة، الأول كان التحاق آلاف المقاتلين الجدد بمعسكرات التنظيم وثانيها توسيع دائرة القتال ليشمل كل من لم يلتحق بركب الخلافة داخل سوريا.
كان التحاق آلاف المقاتلين الجدد بمعسكرات التنظيم سلاحًا ذو حدين بالنسبة لتنظيم الدولة، فمن جهة، بدأ عدد المقاتلين في اتساع وتضخم، ومن جهة أخرى، لم يكن التنظيم محصنًا من الاختراقات كما لم يكن قادرًا على تكوين نواة صلبة تشبه الجيوش النظامية المعروفة، من شأنها تغيير معادلة الصراع متى دخلت أرض المعركة، وذلك بسبب العدد الكبير من المقاتلين الهاوين الملتحقين بـ”دولة الخلافة” الذين لم يتلقوا التدريبات والتكتيكات القتالية والتجهيزات العسكرية الكافية التي من شأنها تغيير نتيجة المعركة.
بعد أشهر قليلة من تخريج آلاف المقاتلين من معسكرات “أبي عمر البغدادي” و”أبي حمزة المهاجر” و”أبي مصعب الزرقاوي” وغيرهم التي أقامها تنظيم الدولة للملتحقين الجدد بصفوفه، الذين سرعان ما زج بهم في أرض المعركة من دون معرفة كافية ووافية بطبيعة المعارك، بدأت النتائج السلبية تظهر على أرض الواقع، بعد أن فقد مئات الجهاديين الجدد أرواحهم في الحرب الدائرة في مختلف جبهات القتال وسوريا، بسبب شراسة المعارك وعدم تفريق الطيران الحربي بين “دولاوي” جديد ولا قديم.
كان لقرار الرئيس أوباما الأثر البالغ في تغيير معادلة الحرب على الأرض، فبعد أيام قليلة من دخول سلاح الجو الأمريكي أرض المعركة، سرعان ما استعادت القوات العراقية والكردية مناطق سبق وأن فقدوها قبل أيام من بداية القصف
أمام هذا الواقع المغاير لما كان يخطط له قياديو التنظيم، وبعد استهداف خطوط إمداده ودفاعه ومراكز نفوذه وقطع حبل التواصل المباشر بين القادة والمقاتلين على جبهات القتال، وصعوبة الانسحاب الآمن والسليم من على خطوط التماس المباشرة مع مختلف أطراف الصراع، سقطت كل خطط التمدد في الماء، وبدأت ملامح تفكك “دولة الخلافة” تبرز شيئًا فشيئًا، خاصة مع إعلان الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وحلفائهما التدخل العسكري في العراق وسوريا.
التمدد الجغرافي الممنوع والمحرم
لم تكن البيعات التي تلقاها تنظيم الدولة الإسلامية من مختلف الجماعات المقاتلة في سوريا خاصة، السبب الوحيد في إضعافه وتشتيته والإسراع بنهاية خلافته، فاتخاذ قرار التوسع الجغرافي غير محسوب العواقب ومحاولة الوصول إلى المدن المحرم دخولها، كان هو الآخر سببًا آخر في تأليب النظام الدولي ضده، وإسراعه في إقرار التدخل العسكري في العراق في مرحلة أولى، ليتوسع لاحقًا إلى سوريا.
وقد أصدر الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، بداية شهر أغسطس/آب 2014، قرارًا يقضي بتدخل الطائرات الأمريكية في الحرب ضد التنظيم، بسبب ما اعتبره “الأوضاع السيئة في العراق، والاعتداءات العنيفة الموجهة ضد الإيزيديين، اللتين أقنعتا الإدارة الأمريكية بضرورة تدخل قواتها لحماية المواطنين الأمريكيين في المنطقة والأقلية الإيزيدية، إلى جانب وقف تقدم المسلحين إلى أربيل” عاصمة إقليم كردستان العراق.
كان لقرار الرئيس أوباما الأثر البالغ في تغيير معادلة الحرب على الأرض، فبعد أيام قليلة من دخول سلاح الجو الأمريكي أرض المعركة، سرعان ما استعادت القوات العراقية والكردية مناطق سبق أن فقدوها قبل أيام من بداية القصف، وهو ما دفع قيادات التنظيم لإعادة مناقشة خطط الانتشار والتكتيكات القتالية المنتهجة في حربهم اللامتوازنة.
لم تكن البيعات التي تلقاها تنظيم الدولة الإسلامية من مختلف الجماعات المقاتلة في سوريا خاصة، السبب الوحيد في إضعافه وتشتيته والإسراع بنهاية خلافته، فاتخاذ قرار التوسع الجغرافي غير محسوب العواقب ومحاولة الوصول إلى المدن المحرم دخولها، كان هو الآخر سببًا آخر في تأليب النظام الدولي ضده
أمام هذا المعطى الجديد والتوزع الجغرافي غير محسوب العواقب وقطع خطوط الإمداد عن المدن التي يسيطر عليها الجهاديون وانتهاج التحالف الدولي لسياسة الأرض المحروقة، وقع مئات المقاتلين فريسة سهلة للقوات العراقية والكردية ومختلف خصوم تنظيم الدولة، حيث قتل وجرح المئات منهم جراء احتدام المعارك وإطباق الحصار على جهاديي “الخلافة” كما حدث في تكريت وبيجي وعين العرب وعين عيسى.
العزلة العلمية وإسقاط المرجعيات الجهادية
لم تكن طبيعة المعارك وعدم فقه متطلبات المرحلة والتوسع العددي والجغرافي غير المحسوب، الأسباب الوحيدة في هزيمة تنظيم الدولة، فالعزلة العلمية وحملة إسقاط المرجعيات الجهادية الواحد تلو الآخر على غرار “أبي محمد المقدسي” و”أبي قتادة الفلسطيني” المنظرين الجهاديين البارزين الذين رفضا إعلان الخلافة، كانت هي الأخرى إعلانًا رسميًا بفتح حرب فقهية وعقدية لم تنته فصولها إلى الآن، أضرت بالتنظيم ضررًا بالغًا، وتسببت في عزلته في صفوف التيار الجهادي العالمي.
لم تبدأ حرب الفتاوى والبيانات والتكفير فيما بين الجهاديين، فور إعلان أبي بكر البغدادي الخلافة، بل كانت أولى فصولها في قصة الخلاف المشهور بين جبهة النصر ودولة العراق الإسلامية، بعد أن ألغت الأخيرة مسمى “الجبهة” وأعلنت حلها وإلحاقها بها تحت مسمى “الدولة الإسلامية في العراق والشام” الأمر الذي رفضه زعيم جبهة النصرة أبي محمد الجولاني وتسبب في اصطفاف أغلب منظري السلفية الجهادية في العالم معه، ومساندة زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري هو الآخر للجولاني.
“دفع الصائل”، “وجوب قتال المرتد”، كانتا الكلمتان الأكثر انتشارًا في فتاوى منظري التيار الجهادي بصفيهما “القاعدي” و”الدولاوي”
مئات البيانات والفتاوى والدعاوى من هنا وهناك، عجلت باندلاع حرب بين إخوة الأمس، بدأ رحاها يشتد فور سيطرة تنظيم الدولة على الرقة وطرد جبهة النصرة منها، قبل أن تصل لاستخدام الأسلحة الثقيلة بين الطرفين، وقتل وجرح المئات من الجهاديين الذين يقتلون بعضهم البعض بفتاوى من كانوا يتدارسون كتبهم وفتاواهم في وقت سابق.
“دفع الصائل”، “وجوب قتال المرتد”، كانتا الكلمتان الأكثر انتشارا في فتاوى منظري التيار الجهادي بصفيهما “القاعدي” و”الدولاوي”، الذين كانوا هم الآخرين سببا بارزا ومهما في انهيار خلافة تنظيم الدولة وتقهقره وعودته لمرحلة التخفي في الصحاري والمناطق البعيدة، كما كانت وسيلة نجح من خلالها التحالف الدولي في تأجيج القتال بين “الإخوة الجهاديين” لترجيح كفة أحدهما على الآخر.
غلاة الحازميين ينخرون الداخل “الدولاوي”
لم تكن الخلافات الفقهية في مفهوم “دفع الصائل” و”قتال المرتد” و”شروط صحة الخلافة” و”شروط الخليفة”، السبب الوحيد في عزلة تنظيم الدولة ورميه بـ”الخروج عن الإجماع الجهادي العلمي”، فتغلغل الفكر الحازمي المغالي في تكفير المخالف وإباحة دمائه في الجسد الدولاوي ووصوله لاختراق اللجنة المفوضة وهي أعلى هيئة شرعية في التنظيم، كان هو الآخر سببا كفيلا بتصويب منظري التيار الجهادي العالمي سهامهم مرة أخرى صوب ما كانوا يسمونه بـ”دولة الخلافة المزعومة”، متهمين إياها بـ”الغلو” وبأنها على مذهب “الخوارج”.
خلال الفترة الأولى من التوسع والتمدد والانتشار، كانت الهيئات الشرعية لتنظيم الدولة مجمعة على “تكفير الجاهل”، وهو موضوع عقدي شائك خاض فيه العلماء منذ قرون طويلة، وأشبعه علماء الدعوة النجدية ورائدها محمد عبد الوهاب ومن ثم أبناؤه وأحفاده بحثا وتأصيلا منذ نحو 3 قرون، ولم تشهد المسألة خلافا يذكر منذ زمن أبي مصعب الزرقاوي، ولكن مع وصول جحافل الملتحقين الجدد بالخلافة، يتقدمهم التونسيون والسعوديون، سرعان ما تغير الأمر ودب الخلاف داخل الهيئات الشرعية في نازلة عقدية جديدة لم يسبق لها مثيل.
كثيرة هي الأسباب التي أدت لسقوط خلافة تنظيم الدولة في العراق وسوريا في أقل من 4 سنوات، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إن كل سبب منها يستدعي من الباحثين والمتابعين لشأن الجماعات الجهادية كتابة بحث مستقل لتحليله
“تكفير العاذر بالجهل”، كانت فتوى مستوردة من السعودية، قام أبو جعفر الحطاب التونسي بإفشائها داخل تنظيم الدولة وشرعييه، وهي فتوى أفتى بها الداعية السلفي أحمد الحازمي في أحد دروسه ودافع عنها وادعى إجماع العلماء حولها، في وقت قال خصومه إنه لم يسبقه إليها مثيل، لتبدأ رحلة تفشي الغلو في صفوف مقاتلي التنظيم، قبل أن يصبح “تكفير العاذر” قاعدة شبه رسمية، تبناها شرعيون بارزون.
أمام تكاتف الأعداء فيما بينهم ضد تنظيم الدولة من كل حدب وصوب، وسقوط الرقة والموصل وحماة وغيرها من المدن الواقعة تحت سيطرة التنظيم، بدأت بوادر الفرقة ودعاوى الخروج على أبي بكر البغدادي التي يتزعمها أبو جعفر الحطاب وفق ما يقول خصومه، تهدد تماسك التنظيم الداخلي، الأمر الذي دفع المناوئين لهذا الفكر من أمثال أبو محمد الفرقان وزير إعلام التنظيم وتركي البنعلي الشرعي البارز، لشن حملة تصحيح مفاهيم وعقد مناظرات مع “مكفري العاذرين”، انتهت بسجن ونفي وقتل عشرات الغلاة الذين تم استتابتهم في مرحلة أولى، قبل أن يقع إعدامهم في مرحلة ثانية، وقد كان على رأسهم “الحطاب”.
جاءت الحملة الشرسة على غلاة الحازميين، المستحلين لدماء وأموال وممتلكات وأعراض مخالفيهم، لتوقف محاولاتهم الجريئة للتمرد والخروج بالسلاح على أبي بكر البغدادي، وتفشل مخططهم لتصفية لقيادات أمنية وشرعية بارزة داخل الدائرة المغلقة للتنظيم، لكنها جاءت متأخرة بعد أن اخترق “الغلو” التنظيم في داخله، وكان سببا في إشغاله عن المعارك الخارجية بأخرى داخلية.
كثيرة هي الأسباب التي أدت لسقوط خلافة تنظيم الدولة في العراق وسوريا في أقل من 4 سنوات، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إن كل سبب منها يستدعي من الباحثين والمتابعين لشأن الجماعات الجهادية كتابة بحث مستقل لتحليله، خاصة وأن ظاهرة تنظيم الدولة، ليست ظاهرة عابرة سيذكرها التاريخ في ثناياه بدون التعمق في تفاصيلها وتحليل مضامينها، خاصة وأننا لازلنا لم نشهد بعد مرحلة القضاء على جهاديي الدولة، رغم إسقاط خلافتهم.